للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

آفاق

[الاستجابة للتقويم]

د. عبد الكريم بكار [*]

حين نضع نظاماً للتعليم أو المرور أو العمل التطوعي ... فإن ذلك النظام

يكون ترجمة لرؤيتنا لعدد من الأمور، مثل الموارد والتكاليف والنتائج والأهداف

المرجوة، وموقف الناس منه ومدى استيعابهم له وتفاعلهم معه، والأدوات

المستخدمة والمشكلات المتوقعة ... وبما أن كل ذلك يَدخل عليه نوع من التغيير

والتعديل عند الدخول في ميدان التطبيق فإن رؤيتنا لكفاءة ذلك النظام ستتأثر في

النهاية، وتصبح لدينا ملاحظات ومعطيات جديدة تحفزنا على تجديد ذلك النظام

وإدخال بعض التعديلات عليه أو التخلص منه كلياً. هذه سنة من سنن الله تعالى في

الخلق، وهي عامة في كل نظام ولدى كل أمة.

إذا نظرنا في أحوال الدول اليوم وفي أحوال المؤسسات والمنظمات والشركات

وجدنا أن القويَّ والناجح منها يتمتع بشفافية فائقة نحو النقد الموجَّه إليه، ونحو

وضعية النظم التي يسير عليها، ونحو وضعية الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها؛

ولذا فإنك تراها وهي في ذروة نجاحها وتألقها تخطط للمستقبل، وتقوم بعمليات

مراجعة لأحوالها وأوضاعها العامة.

ويدخل في هذا الإطار تغييرها للشعارات التي تضعها على منتجاتها ولألوان

أغلفتها، كما يدخل فيه إعادة تأثيث مكاتبها وتحديث أجهزتها وخطوط إنتاجها.

ومع أن هذا قد يكلفها مئات الملايين إلا أنها تدفعه عن طيب نفس؛ لأنها تريد

إشعار زبائنها وعملائها بقدرتها على التجديد والتطوير، لتلقي بعد ذلك في روعهم

أن ذلك التجديد يستهدف الاستحواذ على رضاهم والتعبير عن الاهتمام بهم. والعقل

المعاصر يستجيب لهذا المعنى على نحو مدهش!

في المقابل فإنك تجد الدول والمنظمات.... الضعيفة والمتخلفة وقد خيّم عليها

التقادم في كل شيء: مكاتب يعلوها الغبار، وأثاث متهالك، وقوانين يشكو الناس

منها منذ نصف قرن دون أن يفكر أحد في تغييرها، وإنتاجية في تراجع مستمر،

وموظفون وعمال يبحثون عن بديل عن العمل فيها حتى ينجوا بأنفسهم من مشكلاتها؛

إنك حين تدخلها تشعر أنك أمام كيان هرم يلفظ أنفاسه الأخيرة، الإنسان العادي

يتأثر تأثراً كبيراً بهذا المشهد المحزن، فَيُعرض عن منتجات تلك المؤسسات ...

سواء أكانت فكرية أو مادية؛ لأن العقلية الحديثة تدمج بين الشكل والمضمون،

وبين الأشياء وطريقة تقديمها، وبين الجوهري والهاشمي؛ وذلك بسبب الدعايات

الإعلانية الجبارة. وليس من الحكمة غض الطرف عن وضع كهذا.

وإليك بعض الملاحظات في هذا الشأن:

١ - لا يمكن أن تحدث استجابة جيدة للتقويم إلا إذا توفرت الإرادة الصلبة

للاعتراف بالحقيقة ولو أدى ذلك إلى توجيه لوم أو تفويت بعض المصالح. ولا

أعتقد أن توطين هذه الميزة الحميدة في مجتمعاتنا بالأمر الهيّن، وإنما يحتاج إلى

إرساء تقاليد وأعراف ثقافية تمجد الاعتراف بالحقيقة، وتسهّل من ثم على الناس

تحمُّل المسؤولية عن الأخطاء التي يقعون فيها، كما كان عليه الشأن في صدر

الإسلام.

٢ - لا بد أن نتعود النظر إلى النُّظُم المعمول بها، وإلى الخطط

والمشروعات التي ننفذها من أفق النتائج التي حصلنا عليها من ورائها؛ فحين

نضع خطة للحد من تسرب الطلاب من المدارس، ثم نجد بعد عشر سنوات من

تنفيذها أن نسبة التسرب زادت أو لم تنخفض؛ فإن علينا آنذاك ألا نتردد في الحكم

على تلك الخطة بأنها غير ملائمة، وأن علينا القيام بتغييرها.

٣ - حين نشعر أن نظاماً ما لا يعمل كما نرغب ونتوقع، فيمكن أن نترك

النظام على حاله، ونقوم بتغيير بعض الأمور المتصلة به قدر الإمكان، وعلى

سبيل المثال إذا وجدنا أن الناس لا يلتزمون بربط حزام الأمان فإن من الممكن إلزام

مستوردي السيارات بالطلب من مصنعيها بتزويدها بأحزمة أمان تعمل آلياً بمجرد

تشغيل السيارة على نحو ما هو متوفر في بعض السيارات اليوم. وإذا وجد أن

السائقين يتجاوزون السرعة القصوى المقررة للسير، فيمكن حظر استيراد

السيارات التي تسير بسرعة عالية، وتتجاوز كثيراً حدود السرعة المسموح بها في

البلد، وهكذا.

٤ - إن كثيراً من النظم والقوانين يستمر فترات طويلة مع رداءته وإخفاقه،

لا لشيء إلا لأنه لا يُعرف على وجه التحديد لماذا وضع، أي أن الأهداف التي

وضع من أجلها غير موجودة، أو هي موجودة لكنها غامضة أو مجملة، ولذلك فإن

الناس لا يستطيعون اكتشاف درجة أداء تلك النظم والقوانين ومدى كفاءتها

وصلاحيتها.

ومن هنا فإن مما يساعد على الاستجابة للتقويم أن تكون الأهداف واضحة

ومفصَّلة حتى يمكن قياسها والتأكد من ثم من معرفة ما أنجز منها. وعلى سبيل

المثال فإنه حين توضع خطة لمكافحة التدخين فإنه ينبغي أن يكون واضحاً ما الذي

تستهدفه تلك الخطة من خفض في نسبة المدخنين في خمس سنوات مثلاً وما تكاليف

ذلك على المستوى الإنساني والمادي؟ وحين يتم ذلك على نحو مفصَّل فإن من

السهل بعد خمس سنوات أن نتحدث عن نسبة نجاح تلك الخطة؛ ومن أفق ذلك

يمكن أن نتحدث عن كفاءتها. فإذا استطعنا أن نضيف إلى ذلك النصِّ على طريقة

التخلص من القوانين والنظم التي يثبت إخفاقها فإننا نكون قد قمنا بعمل جليل.

إن أمة الإسلام تعاني من مشكلات ضخمة في كثير من مجالات الحياة؛ وما

لم ترهف إحساسها لتناذرات الأخطار التي تحدق بها، فإن المستقبل سيكون قاتماً؛

فنحن نعيش في عصر السرعة حيث يكون التباطؤ في الإصلاح وخيم العواقب،

وفي بعض الأحيان مدمراً وقاتلاً. والله الموفق.


(*) أستاذ اللغة العربية، جامعة الملك خالد، أبها.