للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[الشعر والموهبة]

د. حسين علي محمد [*]

* تعريف الموهبة ودورها في الإبداع الأدبي:

الموهبة: معناها اللغوي كما ورد في المعاجم العربية أُخذ من الفعل (وُهِبَ)

أي أُعطي شيئاً مجاناً، فالموهبة إذن هي العطية للشيء بلا مقابل.

أما كلمة موهوب في اللغة؛ فقد أتت أيضاً من (وُهِبَ) ، فهو إذن الإنسان

الذي يُعطى أو يُمنح شيئاً بلا عوض.

أما المعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم؛ فكان أول من استخدمه وتحدث عن

الموهبة والعبقرية والتفوق العقلي هو ثيرمان ١٩٢٥م، حيث قام بدراسته المشهورة

عن الموهوبين، ثم تلته الباحثة لينا هونجروت ١٩٣١م، والتي عرّفت الطفل

الموهوب: بأنه ذلك الطفل الذي يتكلم بقدرة وسرعة تفوق بقية الأطفال في جميع

المجالات. فالموهبة إذن استخدمت لتدل على مستوى عالٍ من القدرة على التفكير

والأداء، وقد ظهرت اختلافات بين الباحثين حول الحد الفاصل بين الموهوب

والعادي من الأطفال من حيث الذكاء، فقد بلغ هذا الحد عند ثيرمان ١٤٠ فأكثر،

وعند هونجورت ١٣٠ فأكثر، في حين نجده عند تراكسلر تدنى إلى ١٢٠ فأكثر.

وحتى على مستوى الموهوبين أنفسهم قُسِّمت الموهبة وصُنِّفت إلى مستويات،

حدها حسب مقياس الذكاء العقلي عند استانفورد كما يلي:

١ - فئة الممتازين: وهم الذين تتراوح نسب ذكائهم بين (١٢٠ أو ١٢٥)

إلى (١٣٥ أو ١٤٠) إذا طبق عليه اختبار استانفورد.

٢ - فئة المتفوقين: وهم من تتراوح نسبة ذكائهم بين (١٣٥ أو ١٤٠ إلى

١٧٠) على المقياس السابق نفسه.

٣ - فئة المتفوقين جداً (العباقرة) : وهم الذين تبلغ نسبة ذكائهم (١٧٠

فما فوق) .

وقسَّم دنلوب الموهوبين (ويقصد بهم المتفوقين عقلياً) إلى ثلاثة مستويات،

هي:

أ - الأذكياء المتفوقون: وهم الذين تتراوح نسبة ذكائهم بين (١٢٠ -

١٣٥) ، ويشكلون ما نسبته ٠.٥% إلى ١٠%.

ب - الموهوبون: وتتراوح نسبة ذكائهم بين (١٣٥ - ١٤٥) إلى

(١٧٠) ، ويشكّلون ما نسبته ١% - ٣%.

ج - العباقرة: (الموهوبون جداً) : نسبة ذكائهم ١٧٠ فأكثر، وهم يشكّلون

٠.٠٠٠٠١؛ أي ما نسبته واحد في كل مائة ألف؛ أي نسبة قليلة جداً.

ويرى كثير من العلماء أن المواهب قدرات خاصة ذات أصل تكويني، لا

يرتبط بذكاء الفرد، بل يرث مثل هذه المواهب حتى لو كان من المتخلفين عقلياً؛

مما أدى ببعضهم إلى رفض استخدام هذا المصطلح في مجال التفوق العقلي، وحيث

إن العلم ينمو ويزدهر دائماً؛ فلهذا تظهر آراء جديدة نتيجة لما يجدّ من بيانات

مستحدثة، وتأتي تفسيرات لهذه البيانات، وتتغير نتيجةً لذلك نظرتنا إلى الأشياء،

وهذا ما حدث مع هذا المصطلح.

وقد انتشرت بين علماء التربية وعلم النفس آراء تنادي بأن المواهب لا

تقتصر على جوانب بعينها دائماً، بل تمتد إلى جميع مجالات الحياة المختلفة، وأنها

تتكون بفعل ظروف البيئة التي تقوم بتوجيه الفرد إلى استثمار ما لديه من ذكاء في

هذه المجالات، وإذا كان مرتفعاً فإنه قد يصل إلى مستوى أداء مرتفع، وبذلك

يصبح صاحب موهبة في هذا المجال.

وهناك الموهبة الخاصة: وهي مستوى عالٍ من الاستعدادات الخاصة في

مجال معين، سواء كان علمياً أو أدبياً أو فنياً أو غيرها من المجالات.

ولا نريد أن نخوض أكثر في علم النفس؛ إذ التفريعات تطول، والكلام يكثر.

ونقصر كلامنا على الأدب، فنقول: يكاد نقاد العرب القُدامى يُجمعون على

أن الموهبة تُخلق مع الأديب، فإذا لم تكن لديه موهبة فمن الأجدى أن يبحث له عن

حرفة أخرى غير الكتابة، يقول بشر بن المعتمر (المتوفى في ٢١٠هـ) : «كُن

في إحدى ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً،

ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً ... فإن كانت المنزلة الأولى لا

تُواتيك، ولا تعتريك، ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك (يقصد

معالجتك للموضوع الذي تريده) ، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصل إلى

قرارها، وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي

نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرةً في موضعها، فلا

تُكرهْها على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط الشعر

الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور، لم يُعبك بترك ذلك أحد، فإن أنت

تكلفتهما ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا مُحكماً لشأنك بصيراً بما عليْكَ ولك؛ عابكَ

من أنت أقل منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك» [١] .

ويقول أبو هلال العسكري (المتوفى في ٣٩٥هـ) : «أول البلاغة اجتماع

آلة البلاغة، وأول آلات البلاغة جودة القريحة، وطلاقة اللسان، وذلك من فعل

الله تعالى، لا يقدر العبد على اكتسابه لنفسه واجتلابه لها» [٢] .

ويقول ابن الأثير (المتوفى سنة ٦٢٧هـ) : «اعلم أن صناعة تأليف الكلام

من المنظور والمأثور تفتقر إلى آلات كثيرة ... وملاكُ هذا كله الطبع، فإنه إذا لم

يكن ثم طبع فإنه لا تُغني تلك الآلات شيئاً. ومثال ذلك كمثل النار الكامنة في الزناد،

والحديدة التي يُقدحُ بها، ألا ترى أنه إذا لم يكن في الزناد نار لا تُفيد تلك الحديدة

شيئاً!» .

ولا بد بعد الطبع من الحفظ والرواية، ولكن كما يرى صاحب «الوساطة»

(علي بن عبد العزيز الجرجاني، المتوفى سنة ٣٦٦هـ) فإن الرواية والحفظ لا

يجعلان من المفحم شاعراً، بل لا بد من الطبع الموهوب، وتكون الرواية مذكية

للطبع، صاقلة له، أما إذا فُقد الطبع فلا أثر للرواية والحفظ، فهناك رواةٌ لشعراء

أعلام، ومع ذلك لم تُسمع لهم آثار فنية، وعدَّد صاحب «الوساطة» بعض هؤلاء

الرواة [٣] .

وإذا كانت بعض مدارس علم النفس لا تولي الموهبة كثير اهتمام؛ فإن

بعضها الآخر اعتبرها شرطاً أساسياً من شروط الكاتب وكل ما عداها هامشي؛

كالإلمام بقواعد النحو والإملاء مثلاً.

في كتابه (الطريقة المثلى لتأليف كتاب) ، يقول «جون هيتس» : «إن

الإلمام بقواعد اللغة والإملاء والمصطلحات غير ذات أهمية البتة، تكفيك الموهبة:

إن امتلاك الموهبة شرط أساس لولوج عالم الكتابة، لا يقعدنك عدم معرفة قواعد

النحو، ولا يخجلك الجهل بإملاء الكلمات أو تراكيبها.

الموهبة، والنظرة الثاقبة، والحس المرهف، والذهن المتوقد، سرعة

الخاطر، الثقة بالنفس، والقدرة على التعبير؛ إنها أهم أدوات الكاتب الناجح.

فالإملاء ليس معضلة لا تحل ما دامت القواميس في متناول كل يد، والقواعد

والنحو يمكن إتقانهما بقراءة كتاب من النحو، أو الإيعاز لشخص ضليع ليتولى

المهمة بعد إنجاز العمل، لكن الموهبة إن ضمرت أو اضمحلت فما من أحد قادر

على أن يهبها لغيره أو يعلمها لسواه» .

أما «ميشيل ليغات» ، وهو أستاذ الدراسات اللغوية في إحدى كليات

العاصمة البريطانية، ومؤلف العديد من الكتب في هذا المجال، فيقلل من شأن

مدرسة التعلم بالمران والممارسة، فيقول: «من الغباء أن يجلس المرء للكتابة

وذهنه فارغ من أي فكرة، وجعبته خالية من أي موضوع، لا بد من وجود

الموضوع أو الفكرة قبل الجلوس إلى المنضدة والشروع في كتابة أول سطر،

فالكتابة عندئذ ستكون مسطحة وباهتة وغير ذات طعم، كما لو كنت تنقل صفحة

من صفحات دليل التلفون، وإذا ما صادفت أحدهم يقول لك: لا يلزمك لتصبح كاتباً

إلا الجلوس يومياً لغرض تمارين الإحماء. فحاذر.. فهذه النصيحة عقيمة وجدباء

تغرر بك وتخادعك وتضيع وقتك» .

* كيف تنمي الموهبة؟

الموهبة إذن منحةٌ من الله تعالى، ويحس الموهوب بأنها ميل في البداية إلى

فنٍّ ما، وإذا أحس بهذه الهواية، وعرف أنه منجذب إلى ذاك الفن، وإذا تأكد من

هذا الميل الفطري عنده، وتأكد من أنه ليس نزوة أو شيئاً عابراً، فماذا يفعل لتنمية

موهبته؟

أولاً: عليه أن يقرأ في الفن الذي يميل إلى الإبداع فيه، وعليه التأمل في

إنتاج المبرزين فيه؛ فعليه إذا كان شاعراً قراءة شعر الجاهليين والإسلاميين

والعباسيين وشعراء النهضة، قبل أن يقرأ شعراء التجديد، وعليه إذا كان يريد أن

يكون قاصاً أن يقرأ مثلاً إبداعات محمود تيمور، ومحمد تيمور، ومحمود البدوي،

وعليه إذا كان يريد كتابة الرواية أن يقرأ مثلاً ما كتبه علي أحمد باكثير،

ونجيب الكيلاني، وهذا ما أُسمِّيه «التعلم على أرباب الفن» ؛ لأن دراسة قواعد

الفن وحدها لا تتيح للأديب، ولا تمنحه الفرصة الكافية لتجويد الأدوات، فهذه

مرحلة تالية.

ثانياً: على الموهوب أن يقرأ في كل ألوان المعرفة الأخرى: في اللغة،

والشريعة، والتاريخ، والاجتماع، والسياسة وغيرها.

ثالثاً: على الموهوب أن يعرف التنظيم (لحياته مع إبداع الفن الذي يُمارسه) ؛

فعليه أن ينظم وقتاً محدداً لقراءاته وإبداعاته، وألا تجرفه ممارسته للحياة.

رابعاً: على الكاتب الموهوب عدم إضاعة أي مشروع أو هاجس لكتابة أي

نص إبداعي في الفن الذي يكتبه، فبعض الكتاب قد يُلح عليه موضوع أو هاجس أو

رؤى لنص، فيجب عليه أن يسجل ذلك فوراً ولا يُهمل تسجيل ما يرد على خاطره،

فقد كان أمير الشعراء أحمد شوقي إذا وجد في نفسه رغبة في تسجيل بعض أشياء

تمور في وجدانه؛ يُسرع بتسجيلها على أي شيء معه يصلح للكتابة، وعندما يعود

إلى بيته يستكمل كتابة النص الذي هجست به نفسه أثناء الطريق.

وكم من أصدقاء شعراء حدثوني عن تأجيل كتابة نص هجست به نفوسهم،

وكان يطرق فكرهم، فلم يستطيعوا كتابته فيما بعد.

خامساً: على المبدع بعد كتابة نصه أن يُعاود النظر فيه، وإني أرى بخلاف

ما يرى كثيرون أن النص يحتاج إلى مراجعة المبدع بعد فورة الكتابة، مراجعة منه

أو من أقرب أصدقائه الحميمين أو قرائه اللصيقين، وينبغي ألا يأخذ بآرائهم جميعاً

وإلا أفسد النص، ولكن قد يُبدي بعضهم ملاحظة جيدة تكون في الحسبان، وكم

فعَلْتُ هذا في نصوصي الشعرية، وفعله آخرون معي في نصوصهم الشعرية أو

القصصية أو المسرحية، بل إني أعرف أحد الروائيين البارزين في مصر لا يطبع

نصاً من نصوصه إلا بعد أن يعرضه مخطوطاً على عدد محدود من أصدقائه الذين

يطمئن إلى مقدرتهم النقدية، ومن ثَمَّ يرى آراءهم وملاحظاتهم على النص، وقد

يأخذ ببعضها.

* أهمية تنمية المواهب:

منذ بدأتُ الكتابة منذ أكثر من ربع قرن فطنت إلى أهمية التتلمذ على من

يُقوِّمون تجربتي ويسددون خُطاي من الأساتذة، وقد وجدت بحمد الله ذلك، في

مدرسي اللغة العربية الذين قوَّموا خطواتي تلميذاً، ثم في أساتذتي بالجامعة حينما

صرت طالباً فيها. ومن ثَمَّ فقد حرصت منذ تخرجي على أن أقوم بدور في مساعدة

شُداة الأدب من الموهوبين الطامحين الذين هم في أول الطريق، ويحتاجون إلى

التشجيع، والعناية، والمتابعة، وتمثل ذلك في:

١ - تشجيع الطلاب الذين يكتبون؛ بقراءة تجاربهم الأولى وتقويمها.

٢ - الاستمرار في متابعة الذين يكتبون منهم؛ بإمدادهم بالرأي والمشورة.

٣ - فتح المنافذ لهم في المطبوعات التي أصدرتُها «أصوات معاصرة»

نموذجاً، وقد صدر منها ٩٨ عدداً حتى الآن، أو شاركتُ فيها.

٤ - مساعدة المتفوقين من المبدعين في نشر إنتاجهم.


(*) الأستاذ المشارك، في كلية اللغة العربية، جامعة الإمام.
(١) العمدة، ١/١٤٢، نقلاً عن الدكتور أحمد أحمد بدوي: أسس النقد الأدبي عند العرب، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة ١٩٧٩م، ص ٣٧، ٣٨.
(٢) المصدر السابق، ص ٣٨.
(٣) المصدر السابق، ص ٤٣.