البيان الأدبي
[هزيع العمر]
ممدوح القديري
أمام شاشة التلفاز تكوَّر على نفسه وهو يشاهد أحد البرامج في ليلة من ليالي
الشتاء الباردة ... يسحب بطانية قريبة منه ويغطي جسده المنعطف على نفسه بعد
أن شعر بالبرودة تدخل إلى عظامه الواهنة وهو يقترب من الستين عاماً، رغم أن
مظهره لا يدل على ذلك؛ فوجهه قليل التجاعيد، ويتمتع ببعض النشاط في عمله،
اضطرته ظروفه أن يعيش بعيداً عن أسرته بعد أن حصل على عقد عمل ملاحظ
عمال لإحدى شركات المعمار في دولة من الدول الغنية تراوده أحلامه الشائخة إلى
تحسين وضعه المادي لكي يحقق لابنته سُكينة رغبتها في دخول الجامعة كما أسرَّت
إليه في عصر أحد الأيام وهي ترقد بجانبه عاقصة شعرها، وهي ترفل في ربيعها
السادس عشر مسترسلة في حديثها معه بأنها تحلم أن تصبح مدرسة علوم وتساعده
في حياته وتعوضه عن حرمانه حين اضطر أن يكتفي بشهادة الثانوية العامة.
وكان يحدثها بدوره عن همومه وآماله، عن ضعفه وقوته، عن الحياة
وتقلباتها؛ فهي ترفع الوضيع وتُسقط الرفيع. وكان يفلسف موقفه من الحياة بشيء
من الأمل الذي يساعده على الاستمرار في كفاحه من أجل الأفضل رغم شعوره
أحياناً بالهزيمة، ولكن ليس إلى حد اليأس.
لم تكن زوجته راضية عن سفره وهو في هذه السن المتقدمة، ولم تُخفِ
حزنها عليه وهو يودعهم في يوم سفره. أما سكينة فقد خالجتها مشاعر مختلطة من
الحزن والفرح ... الحزن على فراق أبيها والفرح بما سيأتي به من هناك كما كانت
تسمع من زميلاتها اللائي كن يتباهين أمامها بما يجلبه أقاربهن الذين يعملون في تلك
الدول، ولم تكن تعي أن راتب والدها ليس بمستوى طموحاتها.
يتابع الشاشة الصغيرة والمشاهد تتراقص عليها مع تغير التيار الكهربائي
يخرج بعض النقود من جيبه حين يتحسسها وتدخل إلى نفسه فرحة بسيطة حين
يتذكر أنه سيرسلها إلى أهله بعد أن استطاع توفيرها من راتبه الضئيل رغم تكاليف
الحياة الباهظة.
يضع المبلغ في جيبه مرة أخرى ويربِّت عليه ... يتابع مشاهدة التلفاز تسليته
الوحيدة في غربته ... يشده تقرير إخباري عن وطنه فيعتدل في جلسته ... يتناول
برتقالة من طبق بجانبه فيه بعض التمر وبرتقالتان يبدأ بتقشيرها وعينه على
الشاشة ... تظهر صورة لبعض جنود الاحتلال يطاردون جمهوراً من الأهالي
معظمهم من الشباب الذين يرشقونهم بالحجارة ... تتعثر فتاة وتقع على الأرض.
يلحق بها الجنود يمسكونها ... تحاول المقاومة يلكزها أحدهم ببندقيته ... يطل وجهها
الجميل من بينهم وهي تحاول أن تتخلص من أيديهم ... تتضح الصورة أكثر والفتاة
تصرخ وهم يضربونها بقسوة ... يمسح نظارته ويتابع بقلق ... تنتزعه الصورة من
مجلسه وتكسر هدوءه ... يدقق النظر ... ويردد بصوت مرتجف: إنها هي سكينة
ابنتي يقترب من جهاز التلفاز يجثو على ركبتيه ويتابع ويداه ترتجفان ودماء قلبه
تغلي بالهمِّ النفسي الذي اعتراه يزداد صراخ ابنته: «يا با، يا با. تلتفت حولها
والذعر في عينها بعد أن نزعوا خمارها وألقوه بعيداً ... سحبوها على الأرض
وحملوها بعنف إلى سيارتهم العسكرية الضخمة وهي ما تزال تستصرخ:» وينك
يا با، الحقني «ينتهي التقرير الإخباري وهو ما زال يحملق في الشاشة ويده تعصر
بقايا البرتقالة في اللحظة التي عصرت عيناه دموعها.. تملَّكه إحساس بالحيرة
والفزع ... عذبته صورة ابنته ... خطر بباله أن يوقظ العمال في العنبر المجاور؛
لكنه لم يفعل، وبدأ يدور داخل غرفته يهرش جبهته عدة مرات وصورة ابنته لم
تفارق عينيه. شعر بالحسرة والألم ... دموعه بدأت تسترسل على وجنتيه وتتخلل
لحيته الرمادية يفتح باب الغرفة ... البرد قارس خارجها ... يتجه إلى أكوام الخشب
أمامه ويتناول قطعة كبيرة يضرب بها أكوام الإسمنت والتراب بشدة، ثم يلقيها
وينظر إلى السماء ... عيناه محمرتان ... يتضرع إلى الله أن يلهمه الصبر
ويهديه إلى الصواب وهو يفكر فيما سيفعل حتى يصل عمره المعذب إلى
نهايته ... تراكمت أمامه ستائر من سُحب الأوهام العسيرة فزادت من اضطراب
أحاسيسه، وتاه في بحر من المخاوف على أسرته وبالذات سُكينة ... ابتلع
آلامه وترامت حوله الوساوس وهو يتذوق ملوحة عبراته التي لم تتوقف على
ابنته ووجهها الجميل المعفر بتراب الأرض ... أحس أنها تراه وهي معصوبة
العينيين داخل السيارة العسكرية، رغم المسافة البعيدة بينهما؛ وصوتها يحفر أذنيه
وهي تستصرخه حين اشتد بها الألم ودخلت مأساتها.
هواتف قلبه تعمل بلا نظام، ترسل أمنياته الحسيرة من أعماقه عبر أنفاسه
المتلاحقة ... نظراته حزينة ترنو إلى الفراغ داخل الليل، وتتلاشى الحدود الفاصلة
بين واقعه وأحلامه ... نار الغيظ تتقد بين ضلوعه إشفاقاً على ابنته في سواد ليلها
الطويل ... يتخيلها داخل زنزانة رطبة كريهة الرائحة يذبحها قلقها وفي مهجتها
فزع البعاد عن الأهل ودفء حضن الأم الذي افتقدته في زمهرير عذابها الممتد إلى
غدها الرهيب.
كان يعرف زنازين العدو؛ لقد خبرها في أيام عمره السابقة، وها هي الآن
تخنق أعز ما يملك سكينة بأحلامها وورود آمالها بجمالها البريء ... تنهشه مخالب
وحوش البشر وهم يمتصون دماء حياتها بعد أن جرحوها.
أمضى ليلته محملقاً في شاشة التلفاز الصماء ... تنثال عليه مآسيه في لحظة
واحدة تختزنها سكينة وهي ترقد معصوبة العينين، مكتوفة اليدين على أرضية
السيارة ... تمنى لو يصبح طيراً من طيور الأبابيل ليخلصها من عذابها.
يتقلب على جمر فراشه البارد يضع يده تحت رأسه والقلق يشويه، وقلة
حيلته تدمي ما تبقى له من قلب خفيق ... تأخذه سِنَة من النوم يحلم خلالها بسُكينة
تهديه بندقية. يفتح عينيه ويقرر أن يستقيل من عمله ليكون قرب أسرته في هذه
الظروف الصعبة. انتظر أول خيوط الفجر ... انتزع نفسه من مرقده؛ صلى ثم
استعد للذهاب إلى مقر الشركة ليقابل رئيسها. يقف رشيد أمام مكتب الشركة ...
الشارع خالٍ، والوقت مبكر، وعقارب الساعة تدور ببطء ... ينظر إليها من حين
لآخر يستعجلها تلوذ بالصمت ... يخلعها من يده ويضعها في جيبه يمر الوقت،
وتبدأ الحياة تدب في الشارع وسط المدينة الكبيرة ... يأتي مدير الشركة، وبعد أن
يجلس إلى مكتبه يتقدم منه ويخبره بمصيبته. يتفهم المدير موقفه، ويطلب من
معقب الشركة أن يقوم بعمل الإجراءات والحجز له.
في اليوم التالي يصل رشيد إلى منزله البسيط بعد ساعات سفر مضنية ...
يقابله الحزن في كل مكان من البيت وعلى وجوه أسرته؛ بدت زوجته أكبر من
عمرها ... أبناؤه حوله يقبلهم وعينه على مكان سُكينة الذي اعتادت أن تجلس
فيه ... يمنع دمعة حاولت التعبير عن ألمه وحزنه ... لم يتحمل جو البيت
الكئيب وسراجه غائب عنه.. يخرج منه وسط دهشة أسرته يغذُّ الخُطا ... يلتفت
حوله ليتأكد من أن أحداً لا يتابعه، يصل منزل صديقه جابر يطرق الباب
بحذر ... لحظات تمر ويفتح الباب ... يدلف إلى المنزل بسرعة ويغلق جابر
الباب، ثم يرحب برشيد ويواسيه لما حدث لسُكينة ... يجلس رشيد لاحقاً ويسأل
جابر عن» الجماعة «وعملياتهم ... يهمس في أذنه ... تتسع عيناه ... يومئ
برأسه عدة مرات ... يذهب بعدها دون أن يتناول فنجان قهوته الذي أحضرته
ابنة جابر الصغيرة.
تمضي بضعة أيام ... يأتي أحدهم إلى منزل رشيد مع بداية الليل، ويذهب
معه بعد أن مسحت عيناه أهل بيته. يتقدم الليل وتبدو النجوم خلف ستار الظلام ...
السكون يلف المكان قرب بناية كبيرة يقترب رشيد من سورها وأنفاسه تتلاحق
بصمت ويطمئن أن الحزام حول وسطه ينظر حوله بترقب وحذر ... يتسلق السور
بعد أن تأكد أن حراس البناية غير موجودين؛ لكنه يسمع أصواتهم من بعيد وهم
يترنمون بأغنياتهم وكأنهم يدرؤون الخوف عنهم ... ينسحب قرب الجدار وعند ركن
البناية يتوقف ويسترق النظر يكتشف أن الجنود يدخنون ويتسامرون بعيداً عن
مدخل المبنى الكبير ... ينبطح، ويبدأ زحفه قرب المدخل ويده على الصاعق ...
يدلف إلى الداخل وينزعه ينفجر الحزام ... تتوزع أشلاء رشيد تزين المكان ودوي
انفجارات متتابعة تتوالى داخل البناية التي تحولت إلى ركام ... أصوات استغاثة
وأنين تختلط بأصوات سيارات الإطفاء والإسعاف التي هرعت إلى المكان ...
راديو العدو يبث بياناته.. يعدد قتلاه وإصاباته ... ويعلن أن البحث جار لمعرفة
حقيقة ما جرى ... في هذه الأثناء فتحت زوجة رشيد نافذتها وهي تحوقل وتستعيذ
بالله ... هواء الليل يحمل إليها رائحة البارود وغبار الموت أطلت من النافذة، لم
تر شيئاً.. لكنها بقيت واقفة تنتظر عودة رشيد.