[هكذا يعبثون بالثوابت]
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن مسلَّمات الدين وقطعياته من الأقوال والأعمال هي روح الإسلام والإطار الذي تقوم بقية أجزائه عليه؛ فمن أتى بها وحافظ عليها فقد استمسك بحقيقة الدين، ومن فرط فيها فقد ضيع أصل الهداية والأساس التي تقوم عليه الديانة.
ومن دعا إليها وبذل وسعه في التعريف بها والذود عنها فقد سلك طريق المرسلين، وسار على هدي مستقيم. وفي المقابل فمن دعا إلى ما يخالفها، وتبنى سَوْق الناس إلى الإعراض عنها أو تنكبها ولم يُبالِ بها فقد جعل من نفسه زعيماً للضلالة، وأحد رؤوس التغرير والغواية.
وفي عصرنا الذي ظهر فيه كثيرٌ من عوامل ضعف الأمة وهوانها وتبعيتها؛ حيث تكالب علينا أعداؤنا فيه بكل وسيلة من كل حدب وصوب انبرى بعض بني جلدتنا المتحدثين بألسنتنا ـ ممن صنعهم الغرب على عينه فأرضعهم من أفكاره، ونبتت أجساد كثير منهم واشتد عودها وذاع صيتها من سُحته ـ لاستهداف الديانة في مقوماتها الصلبة الثابتة، وإعادة تشكيل عقلية المسلم المعاصر وملامح شخصيته وفق رؤية خاضعة للهيمنة الغربية إن لم تكن مؤيدة له؛ ليكونوا بذلك مغرقين في الدعوة لجهنم بشتى السبل المعلنة والخفية، وعلى مجالات الحياة كافة وأصعدتها المختلفة، حتى صارت رسالتهم التسويق لبضاعة الغرب يوماً، والصد عن هدى الرحمن يوماً آخر، وإيذاء أولياء الله (علماء دينه ودعاة شرعه والمستمسكين بالذي أوحى به إلى رسوله) في أيام أخر.
ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لهان الخطب وما جَلَّ؛ إذ ذاك ديدنهم والعمل المرجَّى منهم، لكن القوم بزعمهم حملوا لواء الإصلاح والتصحيح، ورفعوا عقيرتهم بأنهم ماضون في قياد الأمة لتنهض من كبوتها وتخرج من نفق الغفلة التي تمر بها، معلنين في الوقت ذاته اعتزازهم بالديانة، وحفاظهم على قيم الأمة وثوابتها؛ مما زعزع قلوباً، وحيَّر عقولاً، وشكك فئاماً من الخلق ليست بالقليلة؛ فكيف إذا انضاف إلى ذلك دغدغتهم لنفوس العامة وإلهائهم من خلال الصدع ببعض همومهم وتبنِّي بعض مصالحهم، ليتمكنوا من ضمان قبول إن لم يكن مساندة ـ غير واعية ـ شريحة كبيرة من أبناء المجتمع أثناء تنفيذهم لأجندتهم الخفية؟! لا شك أن الحال عندها سيكون أخطر والمصيبة أعم.
ومَنْ سَبَرَ أفعال القوم وتأمل صنيعهم في هذه المرحلة العصيبة من عمر أمتنا وجدهم معتمدين جملةً من السياسات، ومرتكزين على عدد من الممارسات.
وقد وجدنا ـ في ظل مسارعة تلك الفئة في استهداف الثوابت، واشتداد هجمتها الشرسة على القيم، وتنامي جهدها في تطويع الأمة وتهيئتها لتقبُّل ما يريد أعداؤها منها: إملاءً وهيمنة أو نهباً واستغلالاً ـ وجدنا أن من المستحسن أن نعرض بين يدي قارئنا الكريم إضاءات عن نهجهم، في النقاط التالية:
٣ تركيزهم على الممارسة والعمل، وتبني الغموض، والتخفف من حرج التنظير، الذي استنفد منهم جهوداً كبيرة في العقود الماضية، فكان سقوطه مدوياً في سُوق الأفكار، ومحكمة النص، وحجج العقل السوي. ولأن المهم هو تحقق الأهداف وتطبيق الخطط لا الإقناع بها، ومع مرور الزمن ستكون تلك الممارسات حالة واقعة، وجزءاً مهمّاً من مكونات المجتمع الذي ستنبري فئات كثيرة من أبنائه للتقعيد لها والذود عنها دفاعاً عن ذواتهم من جهة، ورغبة في عدم وصم بيئتهم بشيء من الخلل أو التقصير.
٣ تلبيسهم على عامة الناس ومن يدور في فلكهم من أنصاف المثقفين ومحدودي العلم الشرعي، عبر التسربل بالتدين، وكثرة ترديد نصوص الكتاب والسنة أثناء التحدث والكتابة ولو في غير موضعها، والتلاعب بدلالاتها وبدلالات المصطلحات الشرعية من خلال تحميلها ما لا تحتمله من المفاهيم الغربية والممارسات الدخيلة على مسلَّمات الأمة وثوابتها، استغفالا، ً وتغطيةً لعمق الصلة بالدول والمؤسسات الغربية المعنية بشأن تغريب الأمة من جهة، وتجهيزاً لخط الرجعة حين انكشاف الستر وتجلي العمالة أو التبعية الفكرية على الأقل من جهة ثانية، ولصرف جوهر خلافهم مع الأمة من مدى قدسية النص المنزَّل، ومرجعية الشريعة وحاكميتها لكافة جوانب الحياة، إلى النزاع في فهم مقاصد الشرع ودلالات نصوصه وتحديد متطلبات تطبيقه من جهةٍ ثالثة.
كل ذلك يتم في أجواء تُرفَع فيها شعارات حقة كأهمية تعميم ثقافة الحوار والمناقشة، والتحلي بسعة الأفق وتفهُّم الثقافات الأخرى والانفتاح على المفيد منها، وضرورة تشجيع ممارسة النقد وزيادة حجم دائرة الاجتهاد، وتشجيع حرية التعبير والإبداع، وحاجتنا الماسة لمراعاة التخصص، والمبادرة لكثير من عمليات التصحيح والمعالجة؛ ومحاربة العادات والتقاليد الخاطئة، ليمارس تحت سقفها مشاريع ضخمة الزيغ، كزعم نسبية الحقيقة، والتشكيك في المبادئ والمسلَّمات لتتحول إلى متغيرات قابلة للأخذ والرد، محتملة للصواب والخطأ، محتاجة إلى تقويم ومراجعة مستمرة، وتعميم حق قراءة نص الوحي المنزل وتفسيره لكل من هب ودب بعيداً عن دلالات اللغة وفهم السلف الصالح، وفتح أبواب الردة والفسق والفجور تحت عناوين: أهمية تقبُّل التعدد الفكري والثقافي، وضرورة ضمان حرية الاعتقاد والتعبير، والانطلاق في التعامل مع الناس من الإقناع لا الإجبار، والمناداة بما يسمى بالممارسة الديمقراطية كعقيدة وإطار مرجعي لا أسلوب للتعبير عن الرأي والإرادة تحت سقف ثوابت الأمة وحاكمية الشريعة، والسماح بوجود منابر مقننة لذوي الأهواء والشهوات، وتعديل مناهج التعليم الخاصة بالعقيدة الإسلامية واللغة العربية والتاريخ وبقية مواد الاجتماع أو تغييرها، وإحلال اللغات الأجنبية مواكبةً للتطوير والتغيير!! في مقابل ذلك يتم الإعراض عن الرقي بمناهج العلوم التطبيقية التي تحتاجها الأمة كمتطلب أساس لإحداث نهضة تقنية داخلها، وإعادة هندسة المجتمع وتشكيله بصورة تؤدي إلى انتهاك الفضيلة، وإشاعة التفسخ والسقوط الأخلاقي، ووجود نوعٍ من العداء لدين الأمة وتاريخها الطويل تحت شعارات وممارسات تغير النمط الاجتماعي وتعيد صياغته وفق المفهوم الغربي، مثل الحرية والترفيه ومساواة المراة بالرجل ورفع الظلم والتمييز عنها، وتمكينها من حقها في الاختيار والممارسة والعمل، وتضخيم دائرة المنفعة والتعلق بالماديات، وتعميم تطبيقات ذلك في التصور والسلوك على حساب قضايا الروح ومسائل الغيب والاعتقاد والربح الأخروي ... ، وهلم جرّاً.
وإغراقاً في التغرير والخداع لا ينسى القوم التستر بثياب النصح والشفقة والمحبة والحرص على تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، وفي أحيان يتقمص القوم مرتبة الإفتاء والتوقيع عن الله تعالى، ويحرصون على إظهار بعض ممارساتهم التعبدية، إضافة إلى استثمار غفلة أو واقعية منهزمة يتسم بها بعض أهل الإسلام تُستغَل لتطويع الإسلام واستثمار بعض المواقف والأطروحات لخدمة المخطط التغريبي - ولو في إطار مرحلي على الأقل ـ ليكون بمثابة النفق الذي يُعْبَر من خلاله إلى ما يُرَاد، والقيام بنبش التراث الإسلامي طمعاً في الحصول على خلاف في مسألةٍ لفقيه أو عبارةٍ لعالم عامل يمكنهم توظيفها في المنافحة عن باطلهم كيفما لزم الحال.
ومن المفارقات في هذا الجانب أن هذه الفئة دعاة انفتاح وحرية رأي وتعبير حين يُمَكِّنهم ذلك من التحرر من المسلَّمات وتجاوز الثوابت والتشكيك في القِيَم، وهم في الوقت ذاته رواد مصادرةٍ للرأي وحجرٍ على الفكر بصورة فجة مقززة تذكِّر بعقد الستينيات من القرن الماضي وما قبلها، وذلك حين يكون الطرف الآخر مُعَرِّياً لضلالهم؛ هاتكاً لسترهم أمام أبناء المجتمع، تحت ذريعة أن من كان في السابق متسلطاً لا يستحق حرية لا يؤمن بها، ولذا نجد المنابر الإعلامية والرسمية التي بأيديهم مقصورة في الجملة على من يداهنهم أو يقف بوعي أو بدونه في نطاق تطبيق مخططاتهم.
أليست هذه حرية انتقائية؟!
وليس من الغريب القول إنك لا يمكن أن ترى للقوم سقطة واحدة تتجاوز تحقيق المصالح الغربية، وتتجه إلى تثبيت قيمةٍ خيِّرة أو الدفاع عن حق، ولو على سبيل المزايدة والتلبيس على العامة؛ وهذه قضايا الأمة الكبيرة، ونكباتها المتوالية التي تقع على يد القوى الغربية أكثر من أن تحصر، والقوم أصحاب نفوذ وحظوة؛ فهل رأى أحد لهم من موقف يستحق التقدير؟ إن لسان حال القوم يقول: لتسقط كل الأقنعة في سبيل كسب قوى التسلط والهيمنة الغربية، والأمريكية منها على وجه الخصوص!
٣ تسطيحهم وعي المجتمع وثقافته، من خلال تزيين المنكرات لأفراده، وإغراقه في بحور الشهوات والملذات داخلين عليه من بوابة المباح، الذي تنسي لذته في دوائر مثل الترفيه والكسب ما يشوب القوم فيها من مخالفات؛ من أجل إطالة أمل الأفراد وإيلاجهم في أودية التسويف لتضعُف مبادرتهم إلى الخيرات، ويُلْهَوْا عن تحقيق مزيد من جوانب العبودية الواعية والخضوع المتين لله تعالى، ولأجل الحيلولة بينهم وبين استثمار الأوقات في الحفاظ على مكتسبات الأمة وهويتها، واستعادة عزها ورفعتها، وإعادة صياغة أولوياتها ـ في ظل ضحالة فكرية ـ في سياقات مثل المتعة وتضخيم النزعة الأنانية والبيئية الضيقة، والتفاني في اكتساب المال والانغماس في ملذات الدنيا وتضخيم مقدارها في التصور والممارسة على حساب عمل الآخرة ... ونحو ذلك.
ولعل من أبرز ما يمارسه القوم لتعميق التسطيح: إشغال الأفراد والمجتمعات المحلية بالهموم الخاصة، وتشتيت الاهتمام على أكثر من جانب، لتقليل التركيز على عبث تلك الفئة بالثوابت وتخفيف عمق المدافعة وسعة انتشارها.
وفي هذا السياق: يتم تهميش دور الجهات الشرعية والاحتسابية ومؤسسات التوجيه التربوي في مجتمعاتنا الإسلامية - والتي يمكن أن يكون لها دور في تعميق وعي المجتمع وصد الانحرافين: الفكري والأخلاقي، وتوثيق الصلة بالله ـ تعالى ـ أو الانحراف بها من خلال مجموعات نفعية أو بدعية لا تؤدي قوة نشاطها إلا إلى مزيد من التمكين لأولويات تلك الفئة المفسدة، ومزيد من الإضعاف لقوى المجتمع المناوئة لأطروحاتها التغريبية، ولن يعجز القوم عن إيراد حالات واقعة مضخمة الحجم معممة الوقوع، أو ركوب موجة مدافعة الإرهاب واستئصال جذوره كمبرر لمحاربة كل ما يعمق الثوابت ويجذِّر القيم العقدية والسلوكية في أوساط الأمة.
٣ ممارستهم التخويف وزراعة الرعب والشعور باليأس في وجدان أفراد المجتمع ومكوناته المختلفة؛ فالحكام يُخوَّفون من العلماء والدعاة وأن نشاطهم هو باعث القلق الأمني المؤدي إلى زعزعة الاستقرار، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى يُبَان لهم أن دعمهم لثوابت الأمة واتساق سياساتهم مع قيمها، يجر إلى الصدام مع الغرب والتعرض لضغوطه وإشكالاته، ولا بد من تقبل الأمر الواقع وعدم الخروج عليه وتجاوزه.
وفي هذا السياق يتم التنسيق مع الجهات الغربية للقيام ببعض الملاحظة والضغط على الحكام للبرهنة على صدق ما يشيرون به، وعندها يقومون بإكمال الباقي، ويكونون غُرُباً أكثر من الغرب نفسه.
كذلك يُخوَّف العامة من سلوك طريق الاستقامة، ومن التلقي عن العلماء الربانيين والدعاة الصادقين حتى لا يوقعوا أنفسهم تحت العين والمساءلة من جهة، وحتى لا يقع أبناؤهم في أخطاء جلية الانحراف وقع فيها بعض من قَلَّ علمه وانجرف خلف هواه من أبناء الإسلام.
أما ترهيب العلماء والدعاة ومثقفي الأمة، والذين يجب ـ من وجهة نظرهم ـ أن يصمتوا ويغضوا الطرف عما يرونه من سير حاد في عمليات التغريب؛ فالوصم بالجهل والظلامية، والاتهام بالإرهاب أو مساندته جاهزان لكل من يقوم بالصدع والتعبير، بل قد تجاوز الأمر حد التخويف إلى الممارسة، واتخذوا من النماذج المظلومة والمُسْقَطة من الدعاة وطلاب العلم نماذج تستثمر في تعميق الرعب في نفوس بعض طلبة العلم والدعاة، والتي أودت ببعضهم إلى الإحجام عن تعميق الثوابت، ونشر الخير والدعوة إليه بصورة ظاهرة.
ومن أبرز ما أعان القوم على ذلك تضافر جهود قوى كثيرة وتوجهات مختلفة ذات أهداف ونوايا متعددة تحت لواء ما يعرف بحملة مكافحة الإرهاب، وفيهم من يريد حقاً، وآخرون ـ وهم الأكثر ـ من ركب موجتها لتعزيز نفوذه وتطبيق مخططاته الهدامة، التي تصيب قيم الأمة وثوابتها في مقتل. ولذا نجد القوم قد ركبوا تلك الموجة، وتجاوزوا كثيراً من السياسات والآليات التي من خلالها يُتَّخَذ القرار في كثير من بلداننا، بذريعة معالجة الأزمة من جهة، وضرورة التفاعل مع الضغوط والقرارات الدولية المتعلقة بهذا الجانب من جهة أخرى.
ولعل من أبرز وسائل القوم في تعميق الإحباط مبالغتهم في إظهار قوة الغرب وإحداث الانبهار بقيمه وثوابته، وطرحها في سياق المسلَّمات، وعدم التعريج على شيء من جوانب ضعفه والخلل الذي لديه، وتجلية جوانب ضعف الأمة من جهة وإهمال مقومات نهوضها، وكأن القوم يُنشِدون: نحن زراع اليأس في الأمة ومزهقو روح الأمل.
٣ مشاركتهم في تفتيت وحدة الأمة وتقزيم مفهومها من خلال انكفاء على الذات، والعمل عبر أطر محدودة، وولاءات ضيقة، وأهواء شخصية، وتبنِّي مبادرات بديلة، وتصنيفات ممزقة، تبذر البغضاء، وتنمي الشك، وتضعف الثقة بين الأفراد والمجتمعات والشعوب.
والعجيب أن أطروحات هذه الفئة في هذا الجانب ـ إلى فترة قريبة كانت مستهجنة إلى حد كبير من عامة الأمة فضلاً عن دعاتها ومثقفيها، أما اليوم فَمِن نُصح الأمة القول: إن تلك الأطروحات قد بدأت تتسرب إلى فكر وسلوك فئات عريضة من الأمة بما فيهم بعض طلبة العلم والدعاة؛ وما لم تُحَث خطى المعالجة فإن عمليات علاج أورام الأمة قد تأخذ مدى زمنياً ليس بالقصير.
وفي هذا المجال تكاتفت جهود قوى الشر من خارج الأمة وداخلها لإضعاف قيم الأمة وخلخلة ثوابتها وموازينها المتعلقة بالولاء والبراء، والوحدة والتواصل والتراحم، وتم تجاوز ذلك إلى القيام بتصفيات عملية للعديد من المؤسسات القومية والشعارات البراقة التي ملَّت الأمة كثرة ترديد القوم لها في العقود الماضية، وضجرت من كثرة سماع أقوال تُنَاقِضُها الأعمالُ حول المصير المشترك واللغة والدم والتاريخ الواحد وهلم جرّاً. ومن الحق القول: إن هياكل بعض المؤسسات القومية ما زالت قائمة، وبعض الشعارت ما زالت معروضة لأجل دفعها إلى الواجهة متى توفرت ظروف مواتية يُحتاج فيها إليها.
ومن سلوك القوم فالظاهر أنهم ـ في هذا الجانب ـ يدورون مع الرغبة الغربية في تذويب الهوية ومحاربة (الأنا العقدية) ، وحتى (الأنا القومية) التي لم تعد تتماشى ـ فيما يبدو ـ مع مطالب الهيمنة الغربية في المرحلة الراهنة؛ لمزيد من التهجين للأمة والقضاء على دوافع المقاومة، وكل جهود الحفاظ على الهوية والمطالبة بحقوق الأمة من جهة، وليتم تقبل ابنة الغرب المدللة ونبتة الشر التي سقاها من سُحته ورعاها على عينه في ديارنا (الدولة الصهيونية) كمهيمن وحيد على المنطقة من جهة ثانية.
ومصيبة أمتنا بهذه الفئة جلل؛ إذ تسيِّرهم في الأصل الأهواء والمصالح الشخصية أنَّى اتجهت، وقد وجد القوم أن وجاهتهم وسؤددهم وحظوتهم وبوابتهم للكسب الضخم السهل لا تقوم إلا ببيع خدماتهم للغرب وكسب رضاه، والذي يرمي في ظل التصارع العقدي والحضاري بينه وبين أمة الإسلام إلى تذويب الهوية وتفتيت الثوابت والإطاحة بالقيم أو تقزيمها على الأقل، لتبقى له الساحة خاوية من مقاومة صامدة محركها الدين وباعثها الحرص على الظفر برضا رب العالمين، وهو أمر ليس بمقدوره أن ينفذه إلا من خلال هذه الفئة المشؤومة المحسوبة على الأمة. فاشترك الهدفان وتطابق المرادان.
وإشكالية هذه الفئة تكمن في كل ابن للإسلام صادقِ الولاء لهذا الدين، عالي الانتماء لهذه الأمة، واعٍ بحقيقتهم، مدركٍ لحجم خطرهم، ساعٍ إلى فضحهم ومجابهة باطلهم ـ وهؤلاء كثر بفضل الله ومنته ـ فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً على عامة الأمة، وبخاصة الدعاة والمصلحين، ولذا توجهوا إلى التشويه والإيذاء والتضييق، وتجفيف المنابع واستعداء الحكام ... وبقية قائمة الحقد والغدر والبغضاء الطويلة، ولكن الله ـ تعالى ـ حافظٌ أولياءه، متمٌ نوره، ولو كره الحاقدون.
ومن إحسان الله ـ تعالى ـ ورحمته أن قِيَم الأمة وثوابتها مصانة من التحريف والتبديل بحفظ الله ـ تعالى ـ وصيانته لها، مهما حاول المبطلون، ومن مقتضيات الحفظ الإلهي: تساقُطُ قِيَم الباطل واندثار ثوابته المزيفة أمامه متى شمَّر المشمرون لحمل لواء الحق؛ ولذا فالقضية لا تتجاوز أن تكون مرتبطة بمصداقية تديُّن هذا الجيل، المُطَالَب من مولاه القدير ـ سبحانه ـ بأخذ الكتاب بقوة: تعلماً وعملاً وتعليماً وتربيةً ودعوة، من خلال تخطيطٍ واعٍ، وعملٍ جادٍ، ومثابرةٍ متواصلة تمكن للإسلام في الأرض، وتنشر مبادئه، وتحكم شريعته، في كافة جوانب الحياة.
فهل ـ يا ترى ـ يكون جيلنا مؤهلاً لنيل ذلك الشرف العظيم؟!
إن أمل الأمة في علمائها والصادقين من أبنائها كبير، والله ناصر دينه، وغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
اللهم ألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، وقنا شر أنفسنا وكيد شياطيننا، يا ذا الجلال والإكرام! إنك الحافظ الهادي إلى سواء السبيل، وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين!