قديم جديد
الأوروبيون والكيل بمكيالين
شكيب أرسلان-حاضر العالم الإسلامي ٤/٦٧-٦٨
جاءني مرة - وأنا منذ سنتين في برلين - اثنان من سفارتين من سفارات
الإنكليز الكبرى في أوروبا، يريدان أن يباحثاني في المسائل الشرقية، فكان من
جملة ما قال لي أحدهما: قُلْ لنا هل تعتقد كوْن هذه الشعوب الشرقية القائمة كلها
بطلب الاستقلال هي أهلاً له. فأجبته: قل لي هل بلاد اليونان منذ قرن والبلغار
منذ ٤٠ سنة والجبل الأسود والصرب كانت أرقى مما هي عليه مصر وسورية
وتونس الآن؟ فلماذا يطلب لتلك الاستقلال مع مساعدة جميع أوروبا وأثناء تصفيقها
وابتهاجها وينكر على هذه بحجة أنها لم تصل إلى درجة الكفاءة؟ !
قال الإنكليزي: أفلا تعترف بكوْننا أقدر على إدارة مصر من أهلها. وإن
وجودنا فيها أضمن لمرافقها المادية. قلت له: أفلا تعترف بأن النمسا أقدر على
إدارة يوغوسلافيا من الصرب وأنها أرقى بدرجات من الصرب؟ أفلا تعترف بأن
النمسا هي التي هذبت ورقت مستوى جميع تلك الأمم التى انسلخت عنها بمساعدتكم؟ أفلا تسلم بكون الرومان الذين كانوا في المجر هم أرقى من رومان نفس رومانيا
وأن حكومة بودابست هي أعلى مراراً من حكومة بوخارست؟ أفلا تقر بكون
الألمان هم أقدر من البولونيين على إدارة سليزيا العليا؟ وأن مرافق سليزيا العليا
تكون تحت إدارة ألمانية مضمونة أكثر مما تكون تحت إدارة بولونية؟ فلماذا إذا
سلختم يوغوسلافيا عن أوستريا وترانسيلفانيا عن المجر وقسماً من سليزيا عن ...
ألمانيا؟ ربما تقولون لملاحظات أخرى وطنية واعتبارات قومية لابد منها؛ إذ
كل أمة لها حق في أن تدير نفسها بنفسها فلماذا هذه الاعتبارات القومية والوطنية تبقى مرعية ما دامت في أوروبا فإذا كانت المسألة في الشرق لم يبقَ هناك من سبب يجب اعتباره سوى حسن الإدارة؟ قلت له: أنا لا أشك في أنه لو استولت ألمانية على أستونية أو ليتوانية أو لاتفيا لإدارتها أحسن مما يديرها أهلها اليوم، ولو استوليتم أنتم على البرتغال لكانت حال البرتغال المالية والإدارية أحسن ... منها في أيدي البرتغاليين وهَلُمَّ جَرَّا، أفتسمح أوروبا لألمانية بحجة علوية ... الإدارة أن تستولي على بلاد البلطيك أو لكم بأن تستولوا على البرتغال؟ لا أظن ذلك. ... فلماذا بحجة أفضلية الإدارة تتمسكون بالبقاء بمصر ولا تنظرون إلى ما هنالك من العوامل القومية والوطنية؟ ولماذا جمهورية أريفان الأرمنية تستحق الاستقلال وكرجستان هي أهل للحرية، ومصر وسورية لا تستحقان الاستقلال ولا الحرية؟ أترى أريفان هذه بل كرجستان أرقى من مصر أو سورية أو العراق أو تونس؟ كلا. فلماذا تحللونه عاماً وتحرمونه عاماً. وأغرب من هذا أن آذربيجان التي هي أرقى جداً من أريفان لم نجد دولة من دول أوربا طلبت لها الاستقلال
وهن بأجمعهن يطلبنه لأريفان. مع أن آذربيجان أربعة ملايين وأريفان أربعمائة ألف وآذربيجان متمدنة وأريفان بجانبها تعد متوحشة. وكذلك جميع الدول
مهتمة بدفع البولشفيك عن أريفان وكرجستان وليس من واحدة تطلب دفعهم عن
آذربيجان والطاغستان، هل في ذلك سبب إلا كوْن الأوليين مسيحيتين والآخريين مسلمتين؟ أفبمثل هذا العدل وهذه المساواة تطمع أوروبا أن يكون بينها وبين الإسلام سلام؟ .