للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قراءة في كتاب

[الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية]

المؤلف: الدكتور حامد عبد الماجد قويسي.

الناشر: دار التوزيع والنشر الإسلامية.

حجم الكتاب: ٥٦٦ صفحة من الحجم الكبير.

عرض: وائل عبد الغني.

هذه الدراسة المنهجية المتخصصة في النظرية السياسية الإسلامية نال بها

الباحث درجة الماجستير من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.

تنطلق الدراسة من افتراض مفاده: أن النجاح أو الإخفاق على المستوى الداخلي

والخارجي في ممارسة الوظيفة العقيدية للدول أو الأنظمة التي تعاقبت على حكم أمة

الإسلام ما هو إلا اختلاف في الدرجة لا في النوع؛ ومن ثم اتصفت الممارسة بقدر

كبير من الاستقرار والاستمرار.

هذه الوظيفة قد عرفتها الخبرة الإسلامية بدرجة مكثفة دون أن يكون لها

الوضوح الكافي على مستوى الدراسات من قبل، وقد رأى الباحث أن يتم التنظير

لها على ثلاثة مستويات:

١ - مستوى القيم التي تحكم الوظيفة (المبادئ) .

٢ - مستوى البناء النظامي (الهياكل والمؤسسات) .

٣ - مستوى قواعد الممارسة ونماذجها التطبيقية.

وتسعى الدراسة لبيان قيمة الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية في إطار نظرية

وظائف الدولة الإسلامية وتحديد موقعها منها في إطار من التجريد والعمومية.

ويتقدم المؤلف بين يدي بحثه بفصل تمهيدي يوضح فيه أهمية انطلاق

التنظير من (المنهج المعرفي المستمد من الوحي) بواقعيته المثالية؛ لتلافي آثار

أزمة الانطلاق من المنهج الغربي التي اتضحت معالمها هناك على مستوى: المنهج،

والنظرية، والتطبيق، بالإضافة إلى ما يمكن أن ينشأ من إشكاليات مضاعفة عند

تطبيقه على واقعنا الإسلامي؛ لقصوره عن تفسير كثير من الظواهر التي تنشأ

داخل مجتمعاتنا المسلمة نتيجة لقصور مسلَّماته وجمودها عند حدث معين ولحظة

تاريخية معينة، ولعل هذا يفسر جزءاً كبيراً من إخفاق الأنظمة العربية في تحقيق

أي من أهدافها التي رفعتها غداة استقلالها.

فطبيعة المنهج وضرورة التميز العقيدي تمليان علينا ضرورة البناء العلمي

والتطبيقي على هدي قواعده وأصوله المستمدة من الشرع.

ويحتوي الكتاب إلى جانب المقدمة القيمة التي تصلح لأن ينال على

موضوعها مع شيء من العمق والتوسع درجة علمية بجدارة خمسة فصول، يقطع

في كل منها شوطاً نحو بناء النظرية:

ففي الفصل الأول:

يضع إطاراً لوظائف الدولة الإسلامية، ويبين موضع الوظيفة العقيدية، وفيه

يتناول برؤية نقدية الكتابات التي عالجت وظائف الدولة الإسلامية، ويفرق فيها بين

اتجاهات تقليدية، وتجديدية.. والقديم منها والمعاصر، من أجل استخلاص بعض

النتائج التي تمهد لبناء مفهوم الوظيفة العقيدية لغوياً وأصولياً ليعتمده أساساً للتنظير.

ويرى المؤلف أن الاتجاه التقليدي قد ركز بوجه عام على الإمامة والخلافة

والإمارة باعتبارها تحقق أهدافاً منبثقة من التصور العقيدي العام، وقد ركز على

وظائف الدولة باعتبارها واجبات الإمام واختصاصاته دون اهتمام بواجبات الرعية

والعلماء وأهل الحل والعقد باعتبارهم جزءاً من الحقيقة البشرية للدولة.. وقد قدم

لنا هذا الاتجاه قوائم سردية بوظائف الإمام وواجباته مع خلط وقع بين الوظائف

وأدوات الممارسة.. ويُعَدُّ الماوردي والفراء أبرز من تكلم في هذا المجال، وكثيراً

ما تأثرت كتابات هذا الاتجاه في أسلوب عرضها بالواقع السياسي الموجود سواء في

المذكور أو المسكوت عنه.

أما كتب الفارابي وإخوان الصفا وأمثالهم فلا تنطلق من أنموذجنا المعرفي؛

إذ كتبت في ظروف تعرَّض فيها العالم الإسلامي لموجة تغريب من الحضارتين

الفارسية واليونانية ربما كانت أقسى مما هو مشاهد اليوم من أوْرَبَةٍ وأمْركة، وقد

كانت تلك الكتابات بمثابة نقطة البدء في الفصل بين ما يمكن أن يسمى «وظائف

دينية» و «وظائف دنيوية» .

ورغم الإسهامات الجادة لهذا الاتجاه فإنه لم يقدم لنا مفهوماً واضحاً لوظائف

الدولة، ولم تنضج منهجيته لتقدم لنا حواراً منهجياً فعالاً بين الأوامر المنزلة وبين

قضايا الواقع.

وفي المقابل نجد أن الاتجاه التجديدي قد ركز في كتاباته القديمة على الخطوط

العامة دون خوض في التفصيلات مع أهميتها في كثير من الأحيان، لكنها شكلت

تياراً مستمراً مرتبطاً بحركة الاجتهاد على امتداد الساحة الزمانية والمكانية للدولة

الإسلامية.

وقد قطعت هذه الكتابات شوطاً في التأصيل؛ إذ قدمت نظرة شاملة ومتكاملة

لمضمون وظائف الدولة، وأصَّلت له وربطت مفهومه بمفهمومَيْ: «الولاية»

و «الأمانة» كما جاء في كتابات ابن تيمية، وبـ «الخطط» كما هي في كتابات

ابن خلدون، وكما ربطته بالمقاصد والمصالح الشرعية التي محورها: «حراسة

الدين وسياسة الدنيا به» .

أما الكتابات المعاصرة في الاتجاه نفسه فقد ربطت هذه الوظائف بمفهومَيْ

«الحاكمية» و «الاستخلاف» وبين مفهوم الدولة ووظيفتها وفكرتها وعقيدتها في

نظرة شاملة ومتكاملة، دون أن ترقى لتشكل نظرية في هذا الجانب، كما أنها لم

تستخدم المداخل الاجتهادية (القياس، والاستصلاح، والاستصحاب) في ضبط

الممارسة.

ويرى المؤلف في نظرته التي تأتي امتداداً للاتجاه التجديدي أهمية وجود

تصور واضح عن مفهوم الدولة ونشأتها وتطورها - ووظائفها حتى يمكننا التعرف

على طبيعة الوظيفة العقيدية وبلورة مفهومها في شكل نظرية؛ فيرى أن مفهوم

الدولة: عبارة عن بلورة نهائية لترابط عضوي بين حقيقتين: معنوية (عقيدة

التوحيد) ، وبشرية (أمة إمام أهل الحل والعقد) .

ومن حيث نشأة الدولة وتطورها: يرى وجود رابط سببي وزمني بين نشوء

الدولة وبين مولد الرسالات السماوية، فنجد في القرآن تأصيلاً لهذه النشأة: [كَانَ

النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ

لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ

البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] (البقرة: ٢١٣) ، فهناك مرحلة الأمة الواحدة.. ثم مرحلة

الاختلاف.. ثم مرحلة إرسال الرسل ونشأة الدولة التي نشأت بجهد أتباع الرسل

المسدَّد باتِّباعهم لمنهج الرسل.

أما الوظائف: فيفرق بين مستويات ثلاثة:

- الوظيفة باعتبارها قيمة.

- الوظيفة باعتبارها بناءً مؤسسياً.

- الوظيفة باعتبارها ممارسة وسلوكاً.

ويرى المؤلف أن «الوظيفة العقيدية» و «الوظيفة الاستخلافية» هما

مضمون وظائف الدولة؛ حيث تتبلور كل وظيفة عن قيمة محددة.. ثم تتمحور

القيم لتعبر عن قيمة واحدة هي قيمة «التوحيد» ، وتسعى لإنجاز مقصد واحد هو

«حفظ الدين» ، والذي يرتبط هو الآخر بمفاهيم: العبادة.. والأمانة..

والاستخلاف.

أما الوظيفة الاستخلافية فهي في جوهرها تابعة ومساندة للوظيفة العقيدية،

وتشتمل على وظيفتين يندرج تحت كل منهما وظيفتان:

العمران: ويندرج تحتها الوظيفة الإنمائية والأمنية.

والعدل: ويتحقق ب: الوظيفة التوزيعية والجزائية.

هذه الوظائف تتساند لتشكل الوظيفة الاستخلافية التي تتبع وتساند الوظيفة العقيدية

التي جوهرها التوحيد وتتحدد في ثلاثة أبعاد:

١ - تحديد موقف واضح من العقيدة (إعلان الالتزام) .

٢ - بناء وتأسيس الكيان العقيدي بما يحويه من نظم.

٣ -القيام بواجب الدعوة من خلال الإقناع.

وهو ما ستوضحه الفصول القادمة.

الفصل الثاني: بناء مفهوم الوظيفة العقيدية:

بدءاً بالدلالة اللغوية للتركيب حيث يشير إلى: «مجموعة الأنشطة والعمليات

الملزمة التي تقوم بها الدولة لتحقيق المنهج الذي ينبثق من العقيدة التي يعتقدها

ويرتبط بها مجتمع من المجتمعات أو نظام من الأنظمة» .

ومروراً بالدلالة الأصولية التي تعني: الولاية الشرعية العامة للدولة

الإسلامية في تنفيذ وممارسة الفروض والواجبات الكفائية المتعلقة بحق الله تعالى

بوجه عام «والتي تخدم كثيراً في صياغة النظرية.

وعلى مستوى النظرية نجد أمامنا ثلاثة مقومات تتشكل منها معاً هذه الوظيفة:

- حقيقة معنوية جوهرها التوحيد.

- حقيقة بشرية تشكل الجسد السياسي للدولة (الخليفة العلماء أهل الحل

والعقد الرعية) .

- العلاقة بين الحقيقتين وهي علاقة إيمان واعتقاد من جانب، وتوظيف

وعمل من جانب آخر.

هذا المفهوم وفق هذه الرؤية يتفرد بسمات الشمول والحركية والواقعية وتعدد

المستويات والأبعاد والأطراف والعموم والتجريد الذي يؤهل لصلاحيته للإنسان في

أي زمان ومكان.

وسيتم تفصيل ذلك في الفصول القادمة.

الفصل الثالث: مضمون الوظيفة العقيدية وأبعادها:

أما من جهة المضمون: فإن وظائف الدولة تعبر في التحليل الأخير عن القيم

الأساسية في المجتمع التي جوهرها التوحيد باعتبارها القيمة المحورية العليا،

والتي تفرض تحديد مقصد الوظيفة التي تعبر عنها، كما تحدد نظام القيم الإسلامي

الذي يتميز بخصائص الشمول والمثالية والواقعية والحكمة في الممارسة والوحدة في

التعامل والطابع الإنساني العالمي، كما يتميز بالجمع بين الجماعية والفردية في آن

واحد.

وتسعى العقيدة من وراء ذلك إلى إحداث التغيير كمّاً وكيفاً من خلال الممارسة

وصولاً إلى المثالية العليا التي تتميز في نموذجنا الإسلامي برؤية واضحة وهدف

محدد هو الفوز الأخروي، وترتبط بوظيفة الاستخلاف على منهاج النبوة.

وبأسلوب أوضح تعد ممارسة الوظيفة العقيدية في الواقع العملي جوهر التطبيق

الواقعي لتوحيد الألوهية وتقترب كثيراً من الصياغة الحديثة لمفهوم الحاكمية، أو

بالتعبير الشهير مقصد (حفظ الدين) ليس بمفهوم الدولة الحارس الذي عرفته

الخبرة الأوروبية والذي يعني الحفاظ على العقيدة في أصولها وإنما بتطبيقها في

الواقع العملي الحيوي بجميع جوانبه وأبعاده والذي لا يتم إلا في إطار كيان سياسي؛

ذلك أنه لا يسع المسلمين أن يعبدوا الله بالمفهوم الشامل إلا حين يغدون رعايا

مخلصين لدولة إسلامية، ولن يتاح لهم أن يعيشوا بما يتفق مع أخلاقيات عقيدتهم

إلا من خلال الانتماء إلى أمة المؤمنين؛ ولهذا فمقصد» حفظ الدين «مقصد سابق

لوجود الدولة التي تفقد مسوِّغ وجودها إذا ما تخلت عنه أو تنكرت له.

وفي هذا الصدد يمكننا أن نتصور حدين في هذا المجال:

حداً أدنى: تغدو به الدولة مسلمة، ويتمثل في إعلانها الالتزام بالإسلام،

وعدم إخلالها بمنطقة المحكمات (المعلوم من الدين بالضرورة) .

وحداً أعلى: تكون به الدولة إسلامية، وهو نموذج أرقى تسعى فيه الدولة

لتحقيق مقاصد الشريعة كلها في إطار المحكم وفي إطار الظني بإعمال الاجتهاد في

مجاله.

وعندما تصل الدولة إلى تحقيق مقاصد الشريعة الخمسة على الأقل في درجة

الضروريات التي تتبلور في مقصد حفظ الدين، فإنها تصبح مسلمة.. وبينها وبين

أن تكون إسلامية مسافة أخرى تشمل الاجتهاد في مساحة الظنيات. والفارق كما

يبدو نوعي وكمي في آن واحد؛ فهي لا تصبح إسلامية دون أن تكون مسلمة؛ كما

يشك بدرجة كبيرة في أن تظل مسلمة دون أن تنجز المقاصد الشرعية من خلال

الانتقال من مجرد إعلان قبول الالتزام العقيدي وحمايته إلى محاولة تحقيقه وبناء

المجتمع العقيدي من خلاله، والتعامل الخارجي انطلاقاً من مبدأ الدعوة، وأن يكون

رجوعها إلى الشرع رجوع افتقار لا رجوع استظهار، ولا يقبل التعلل بالتدرج في

التطبيق؛ إذ الفرق جلي بينه وبين الانحراف؛ فالتدرج لا يمكن من خلاله الإخلال

بمبدأ الاحتكام إلى الله ورسوله من خلال التلاعب بالنصوص لتسويغ الانحراف في

عملية الممارسة.

ويلفت النظر إلى أن مقصد» حفظ الدين «لا يجوز أبداً قصره على المعاني

المباشرة للّفظ؛ بل يعني أيضاً الحفظ الحقيقي المنصرف إلى الكيان البشري الذي

يكوّن الجسد السياسي للدولة، أي حفظ العقيدة مطبقة في الأمة، ويرتبط بهذا مقصد

آخر هو الوحدة.. سواء على مستوى الكينونة الفردية، أو الكيان الاجتماعي على

مستوى الإدراك.. والولاء.. والنظام.

أما من حيث الأبعاد: فنجد أمامنا ثلاثة جوانب رئيسة كبيرة ومتكاملة يؤدي

بعضها إلى بعضها الآخر وهي:

١ - تحديد موقف من العقيدة وحمايتها.

٢ - بناء الكيان العقيدي (المجتمع الملتزم بالعقيدة) .

٣ - تحقيق غايات البناء من خلال الممارسة (أداء الوظائف) .

ومن الثابت أن الدولة في جميع نماذجها التاريخية كانت تسعى لممارسة عقيدة

معينة ارتبط وجودها المعنوي والحضاري بها؛ ولهذا فإن الموقف من العقيدة لا

يعدو القبول أو الرفض، أما فكرة الحياد التي تدعيها بعض النظم؛ فهي نوع من

القفز على الحقائق؛ إذ لا بد من استبطان عقيدة أو أيديولوجية تسعى لتحقيقها.

ولهذا فإن الموقف الإيجابي بإعلان الدولة التزامها العقيدي يعد أول مستويات

الممارسة.

أما عن الحد الفكري لإسلام الدولة قياساً على الشهادتين بالنسبة للفرد فيتمثل

في الإقرار بأمور هي:

١ - أن الحاكمية لله وحده، وأن الدولة أداة من أدوات الاستخلاف.

٢ - أن القانون الأساسي للدولة الإسلامية هو الشريعة الإسلامية.

٣- بطلان كل قانون مخالف للشريعة وإلغاؤه.

٤ - على الحكومة ألا تتصرف في شؤون الدولة إلا ضمن الحدود المرسومة

في الشريعة لوظيفتها.

هذه الأمور تعد الخطوة الأولى التي لا يقبل دونها؛ لأن إعلان الالتزام

العقيدي يوضح» فكرة الدولة «الأساسية وغاية قيامها.. ويحدد مواطنيها وماهية

حقوقهم وواجباتهم، وعلى أي أساس تُكتسب أو تفقد، والمبادئ التي يسير عليها

جهاز حكومتها المتحكم في سلطاتها الإدارية وقواعد مسؤوليتها وحدود وظيفتها؛

ولهذا يرى البعض أهمية وضع دستور إسلامي يحدد النظام العام، وهو ما تحدده

المثالية الإلهية والعقيدة التوحيدية المنبثقة عنها، ولا يجوز مخالفته ويعاقب كل من

يخالفه أو يحاول الاعتداء عليه.

وأما حماية العقيدة فتكون من كل ما يشكل نقضاً (الردة) أو تحريفاً

(الابتداع) .

وفي مجال الدعوة يبرز المنطق الاتصالي ودوره في إزالة اللبس وسوء الفهم

الذي يمكن أن يحول بين الناس وبين اعتناقهم للإسلام دون إكراه.

أما المستوى الثاني: فهو بناء الكيان العقيدي (أو المجتمع الملتزم بالعقيدة)

والذي يعني بلورة العقيدة على المستوى العملي في كيان عضوي بشري يحقق

غايات المثالية العليا الإلهية والعقيدة الإسلامية، والذي يؤسس حركته على الإيمان

بالله واليوم الآخر، ويؤسس روابطه على عقيدة الولاء والبراء التي تعطي عقد

الولاء للمؤمنين، والذمة لأهل الكتاب، والبراء من الكافرين والمنافقين.

وتتم عملية البناء على مرحلتين: التكوين، ثم البناء والتأسيس.

ثم يأتي المستوى الثالث: تحقيق غايات البناء التي تتبلور حول تمكين الفرد

والمجتمع من تحقيق ذاتيتهما الإسلامية في الواقع التطبيقي والاجتماعي داخلياً.

وتمارس الدولة واجبين في إطار قيامها بوظيفتها العقيدية هما:

١ - الإشراف على إقامة فروض الكفايات وتنظيمها.

٢ - مراقبة إقامة فروض الأعيان.

أما على مستوى التعامل الخارجي فنجد وظيفة الدعوة التي تنطلق من رؤية

توحيدية للعالم الذي يتمحور جغرافياً حول القبلة، وإنسانياً حول آدم» الناس بنو

آدم، وآدم من تراب « [١] ، ومن منطلق عالمية الحضارة الإسلامية صاحبة الدين

الخاتم المنفتح على الإنسانية كلها؛ ولهذا نجد التعامل الخارجي يخضع لمجموعة

من الأسس هي:

١ - الاتصال هو محور التعامل الخارجي.

٢ - وحدة الانطلاق من القاعدة الثقافية والتعامل الفكري (الإقناع والاقتناع) .

٣ - وحدة قيم التعامل حيث إن التعامل الخارجي هو امتداد للداخلي.

٤ - الاتصال مع القيادات الحاكمة بصدد الإقناع بالدعوة وعرض الرسالة.

وإلى جانب مسلك الدعوة هناك مسلك مساند هو الجهاد الذي يراه المؤلف أداة

فكرية وحقيقة معنوية تضم مجموعة من المبادئ المعنوية والأخلاقية.

وتوضح لنا الخبرة التاريخية الأدوات التي تمت الدعوة من خلالها؛ كالرسائل

والسرايا والغزوات وعقود الصلح والموادعة والمعاهدات.

الفصل الرابع: الإطار النظامي والمؤسسي للوظيفة العقيدية:

ويعني بها المؤسسات التي تترجم مدارك الأمة ووعيها إلى واقع عملي، وتعد

صلة بين الوظيفة كقيم والوظيفة كممارسة؛ ومن هنا فإن التوحيد بوصفه قيمة

محورية يمكن تحقيقها من خلال قيمتين نظاميتين هما:» الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر «داخلياً، و» الدعوة «خارجياً.

وكلا المبدأين واضح الأبعاد والدرجات والمستويات وفق أسس واضحة محددة

المحتوى والمضمون، مقننة لأشكال نظامية تقوم على تطبيقه وتحويله إلى واقع

حيوي.

أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وهو متردد بين الفرضية العينية والكفائية، ولا تسقط عهدته إلا بالأداء أو

العجز، وتتأكد فرضيته في مثل حال المحتسب وأهل الاختصاص في تخصصهم،

وهو من حيث القدرة متدرج يبدأ من التغيير بالقلب بالمفارقة والمفاصلة

الشعورية.. ثم باللسان الذي يمكن لنا أن نُدخِل في إطاره بعض الممارسات

المعاصرة في المجالات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية.. ثم يأتي المستوى

الثالث: التغيير من خلال القوة التي توسَّع مفهومها اليوم فاستوعبت صوراً

معاصرة يمكن أن تستخدم في عملية التغيير، خاصة في وقت لم يعد المعروف

الأكبر هو التوحيد، كما لم يعد حد المنكر يقف عند المناكير والكبائر الجزئية

والمحلية، بل يتصاعد حتى يصل إلى مناكير السياسة العامة التي يتمثل أكبرها في

التبعية والإذعان لهيمنة القوى الاستعمارية.

ثانياً: الدعوة:

وهي وظيفة خارجية مكملة للوظيفة الداخلية وكلاهما مستمر في الأمة كما

عبَّرت عنه الآية بصيغة المضارعة: [وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ

بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] (آل عمران: ١٠٤) ، ولهذا فإن الدعوة تمثل

ممارسة واجبة الأداء على الكفاية لإدخال أمة الدعوة في أمة الإجابة، وهو مبدأ

توظف له الدولة إمكاناتها كافة لتحقيق الهدف الأسمى، وترسم خططها لتحقيق

متطلباته الآنية والمستقبلية وفق منطلقاته الثلاثية: الحكمة.. الموعظة الحسنة..

الجدال بالتي هي أحسن؛ وهي مبادئ تكفل حسن الأداء في ظل تغير الظروف

الدولية والداخلية.

وتفاعلاً مع هذه القضية يطرح المؤلف مدى قابلية النظام الدولي الجديد

لممارسة الدولة الإسلامية واجبَ الدعوة إلى الله.. ويحاول أن يتلمس الإجابة في

ظل وضع دولي محفوف بالمخاطر..! ويقدم ملامح عامة يمكن من خلالها بناء

تصور ما حول الرؤية الواقعية والمستقبلية لهذه الفريضة المهمة.

ويفرق المؤلف بين الدعوة بوصفها وظيفة اتصالية وبين المفاهيم السائدة في

هذا المجال على الساحة الدولية؛ كالدعاية، والحرب النفسية، والتسميم السياسي.

وبعد أن أوضح صورة الإطار النظامي للوظيفة العقيدية بدأ في الاقتراب أكثر

من طبيعة الأداء، فتحدث عن الأشكال النظامية معتمداً على الخبرة الإسلامية.

ويفرق في هذا الصدد بين نوعين من الأشكال النظامية:

أ - أشكال تأسيسية: (تقوم بإنشاء الأشكال المؤسسية) .

ب - أشكال مؤسسية: (أساسية مساندة) .

ويمكن فهم الأشكال التأسيسية في إطار مؤسسات المسجد باعتباره شكلاً نظامياً

تأسيسياً؛ إذ يحوي العناصر التي تقيم الأشكال المؤسسية؛ فيحوي مؤسسة أولي

الأمر وأهل الحل والعقد وهم أهل الاختيار الذين يختارون الحاكم، وأهل الشورى

من أهل العلم والدراية، وأهل الاجتهاد من العلماء الحائزين لشروط الاجتهاد.

أما الأشكال المؤسسية فمنها ما هو أساسي، ومنها ما هو مساند، وتحمل لنا

الخبرة الإسلامية صوراً للأساسي مثل مؤسسة الحسبة، ودور العلم، والمدارس

الإسلامية التي تعالج تطبيق مبدأ الأمر بالمعروف على مستوى الداخل، إلى جانب

ديوان الرسائل وديوان الجند اللذين يمارسان الدعوة على مستوى الخارج.

كما عرفت الخبرة عدداً من الأشكال المساندة كان أهمها مؤسستي: أهل

الفتوى، وأهل القضاء.

ولكل شكل من هذه الأشكال مبادئه وصوره وقوانينه وأدواته النظامية التي

تحكمه وتضبط عمله بما يحفظ لعملية ممارسة الوظيفة العقيدية الأداء.

وتكشف لنا الممارسة العصرية عن ثلاثة أنواع للأشكال النظامية يجب التمييز

بينها:

١- (أشكال أصلية) ناتجة عن حكم شرعي يوجبها لإنفاذ أحد فروض الكفاية،

ويأتي في حكمها الأشكال الطبيعية الناتجة عن وضع تكويني في مجتمعنا يقره

الإسلام.

٢ - (أشكال طارئة) وجدت قبل الاستعمار لكنها مثلت انحرافاً عن الإسلام

٣ - (أشكال وافدة) جاءت مع الاستعمار الأوروبي المعاصر.

وقد تم تحجيم النوع الأول، وضربت فعاليته لصالح النوعين الآخرين بما

يعني قطع أي إمكانية لتطوير الأشكال النظامية الأصيلة وتوليدها لأشكال تحقق

التواصل! وقد خلفت هذه المعضلة كثيراً من المشاكل والتعقيدات تحول دون

الاستقلال الحقيقي والتنمية في ظل اغتراب السلطة عن الجمهور وهامشية

المؤسسات الأصلية الموجودة وعدم فاعليتها.

ومن هنا كان لا بد من طرح تساؤلات جادة حول منهجية بناء الأشكال

المؤسسية في الواقع الحالي التي نجد في مدخل الذرائع حلولاً لإشكالاتها.

وينبه المؤلف إلى أن معالجة الوظيفة العقيدية على مستوى التنظير بوصفها

وظيفة لدولة إسلامية قائمة وموجودة بالفعل هو أمر غير واقع الآن، دون أن ينفي

ذلك وجود مستويات لممارسة الوظيفة يقوم بها المجتمع المسلم حتى في ظل غياب

الدولة تنبني على الاجتهاد المرحلي أو الانتقالي، كما ينبه إلى ضرورة الابتعاد عن

النمط الأوروبي المتَّسم بالضخامة والتعقيد والعودة إلى النماذج الصغيرة في

المجتمعات الاجتماعية والسياسية، في ضوء ما يسميه: (تفاعل المقاييس) الذي

يعتمد على الأبعاد المقدارية والوصفية والآماد والمعدلات، بجوار الجوانب

الموضوعية التي يعالجها مدخل الذرائع في فهم الواقع، وإيجاد ما يناسبه من حلول

لمعضلاته.

الفصل الخامس: فاعلية الوظيفة العقيدية في الممارسة:

وقبل أن يعرض المؤلف لنماذج تاريخية تعبر عن صدقية ما بناه في فصوله

السالفة يشير إلى مبدأ علمي مهم هو: عدم جواز الخلط بين الظاهرة باعتبارها

مبدأ، والخبرة باعتبارها معالجة.

يقدم لنا أربعة نماذج تطبيقية متقابلة: اثنين للنجاح.. واثنين للإخفاق..

تجمع الدلالات السلبية والإيجابية بوصفه أمراً علمياً مقصوداً في ممارسة الوظيفة

العقيدية بمستوياتها المختلفة.

النموذج الأول: نموذج الدولة النبوية: من حيث كونه نموذجاً قياسياً للنجاح

يمكن الاحتكام إليه في فهم دلالات أي ممارسة للوظيفة سواء في مرحلة التأسيس،

أو مرحلة الممارسة، بدءاً بإعلان الالتزام العقيدي وحمايته، ومروراً بمستوى بناء

الكيان العقيدي، ووصولاً إلى التعامل الخارجي من منطلق الدعوة؛ هذا النموذج

مع مثاليته المرهفة مثّل واقعاً يمكن القياس عليه والاستلهام منه.

وفي المقابل نجد النموذج الثاني: يتمثل في دولة بني إسرائيل في عهد نبي

الله موسى عليه السلام بدلالاتها الغنية ونتائجها، كنموذج قياسي للإخفاق في أداء

هذه الوظيفة، يمكن أن يمثل عنصر خبرة في فهم أسباب الإخفاق النفسية والإيمانية

والأخلاقية والاجتماعية للنموذج الذي يعد افتراقاً عن إطاره العقيدي في مستويات

الممارسة ويصلح في فهم أي مرحلة تاريخية أخرى.

النموذج الثالث: من النماذج التاريخية نموذج الدولة في عهد عمر بن

عبد العزيز: باعتبارها مؤشراً قوياً على إمكانية التطبيق، ومدى النجاح في

الاقتراب من النموذج القياسي؛ متى ما صحت المنطلقات وتبنت الدولة أداء هذه

الوظيفة، هذا ما تظهره التجربة وتؤكده الدلالات التي يمكن استخلاصها

هنا.

وفي المقابل يأتي النموذج الرابع: ليبرز تجربة دول (ملوك الطوائف)

باعتبارها نموذجاً تاريخياً للإخفاق؛ سواء في الميلاد أو التأسيس أو في الممارسة

التي افترقت كثيراً عن الإطار العقيدي الجامع.

وفي الخاتمة:

يعود المؤلف فيفصّل في قضية التميز المنهجي الذي افتتح بها دراسته القيمة.

- فيمايز بين الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية وبين الوظيفة الدينية للدولة

البابوية التي يقدس فيها الحاكم، وتطلق سلطاته كما هو معروف في الخبرة

الأوروبية وفي النموذج الفرعوني، أما النموذج الإسلامي فيجمع بين إلهية

المصدر، والطبيعة الاجتهادية المنضبطة بالأصول الشرعية - المحتملة للخطأ

والصواب.

- كما يمايز بينها وبين الدولة والحكومة الأيديولوجية التي تقوم على فكرة

إلغاء الدين باسم السياسة، والمجتمع الديني باسم سيادة المجتمع المدني، أما الدولة

الإسلامية فالسياسة في حركتها تصير ديناً، كما يعبر الدين عن الظاهرة السياسية.

- ويمايز كذلك بينها وبين الدولة والحكومة القيادية التي ظهرت في أعقاب

الحرب العالمية الثانية والتي يبرز فيها دور محوري للزعامة السياسية التي تجسد

عقيدة الأمة، وهو نموذج يمكن إدراجه تحت الفرعونية السياسية.

- وكذا الأمر مع الدولة العلمانية التي تزعم خدمة الصالح العام، وتقوم على

الفصل بين ممارسة السلطة والنواحي العقيدية، وبدلاً من المعتقد أو الدين فإنها

تقدس الدستور، ويأتي سن القوانين وفق التأسيس الوضعي للمصالح المشتركة

للمواطنين والتي تحكمها لغة القوة لا الحق.

ثم يُسدل الستار بمجموعة من الدلالات السياسية لممارسة الوظيفة العقيدية في

الواقع المعاصر:

فعلى المستوى النظري:

- يؤكد على أن الوظيفة العقيدية تقدم تنظيراً حقيقياً لمفهوم الدولة ونشأتها

وتطورها، وهو ما زال يشهد أزمة وتضارباً في الفكر الأوروبي.

- كما يؤكد على أهمية الانطلاق من النموذج المعرفي المستمد من الوحي في

التفاعل الموضوعي مع الواقع، وفي تقديم رؤية على درجة عالية من الوضوح

والضبط والتكامل لبناء نظرية الدولة ووظائفها في إطار التنظير السياسي الإسلامي

وعلى المستوى العملي والحركي:

- يؤكد على حقيقة أن وجود عقيدة أو فلسفة سياسية واضحة وحقيقة بشرية

مؤمنة وملتحمة بها، ووجود سياسة عامة نابعة منها هو الذي يحدد للدولة خطوات

ممارستها الحركية، وماذا تريد على وجه التحديد.

- كما أن الوظيفة العقيدية تطرح إجابات معاصرة لقضايا الواقع على مستوى

الأنظمة والمجتمعات العربية والمسلمة، بالإضافة إلى الواقع العالمي.

- كما تقدم منهجاً للتعامل مع الأزمات التي يعاني منها الواقع (دلالات

الحاضر) ، إضافة إلى غناها بالحلول للخروج منها (دلالات المستقبل) .

- وهي تقدم منهجاً لمعالجة الأزمات الثلاث الأساسية التي تواجه الدول

العربية والمسلمة: أزمة التأسيس.. أزمة الهوية.. أزمة الشرعية.

- إلى جانب ما تقدمه من تفسير لظهور حركات التجديد والإحياء الإسلامية

ونموها من جهة، وفهم حركات التبديد من جهة أخرى.

وعلى المستوى الدولي تمنحنا الدلالات الآتية:

- فهم جوانب الاستقرار في الدول المتقدمة.

- تراجع مفهوم العلمانية أو اللادينية في الواقع العالمي المعاصر.

- تقدم تفسيراً لما نشهده من سقوط الأيديولوجية؛ إذ تمثل دراسة الوظيفة

العقيدية مدخلاً مقارناً لتحليل السلوك الداخلي في الأنظمة القائمة في تعاملها مع

شعوبها ومجتمعاتها؛ من حيث علاقة التربية السياسية، والتلقين الأيديولوجي،

والتعبئة السياسية.

- عودة الدين ليمارس دوراً مهماً على الساحة الدولية.


(١) أخرجه أحمد في المسند، (٢/٥٢٤) .