[تغطية (المؤتمر الإقليمي للقادة الدينيين)]
حول الإيدز
الهيثم زعفان
في القاهرة وداخل فندق النيل هيلتون ولمدة ثلاثة أيام نظم البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة مؤتمراً اجتمع فيه عدد من العلماء المسلمين ورجال الدين المسيحي أُطلق عليهم اصطلاح: «القادة الدينيون في الدول العربية» هادفين تبني بيان يوضح التزام هؤلاء القادة في الاستجابة لبرنامج الأمم المتحدة لمكافحة مرض الإيدز.
وتضمن برنامج المؤتمر كلمات لبعض الشخصيات الرسمية والدينية، وحقائق عن الإيدز، وشهادات وخبرات أشخاص يتعايشون مع الإيدز. وقد كانت جلسات المؤتمر مغلقة، ولا يسمح لغير القادة الدينيين المحددين سلفاً من قِبَل الأمم المتحدة بحضورها؛ حيث أوضحت تلك الجلسات أن آخر الإحصائيات المتوفرة حول انتشار الوباء في المنطقة العربية - ديسمبر ٢٠٠٤ - الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة تشير إلى:
- ٩٢٠٠٠ حالة عدوى جديدة بفيروس نقص المناعة المكتسب من البالغين والأطفال.
- من ٢٣٠٠٠٠ إلى ١.٥ مليون من البالغين والأطفال يتعايشون مع مرض نقص المناعة المكتسب.
- ٢٨٠٠٠ حالة وفاة بين البالغين والأطفال بسبب الإيدز.
- ٤٨ % من مجموع المصابين نساء.
وقد عمدت بعض جلسات المؤتمر المغلقة إلى إعداد دليل عمل القادة الدينيين المسلمين والمسيحيين مع وضع خطة عمل مشتركة لحشد كل طاقات الهيئات الدينية في مواجهة الإيدز للحد من خطره ورعاية المصابين به، وهذا الدليل ستصدره الأمم المتحدة مستقبلاً.
أما عن الهدف العام للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة من هذا المؤتمر فقد تمثل في إصدار (إعلان القاهرة) الذي تم توقيعه في اليوم الأخير للمؤتمر بعد إعداده على مدار يومين من قِبَل ثلاث مجموعات تضم (٩) أعضاء من مسلمين، ومسيحيين، وممثلي الأمم المتحدة. وقد أوضح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن هذا الإعلان يشكل الركيزة الأساسية لمواجهة تحديات هذا المرض، وأن الاجتماع والإعلان يتوِّج سلسلة من الخطوات السابقة لإشراك القادة الدينيين في كسر حاجز الصمت حول مرض الإيدز في المنطقة العربية؛ حيث يعتبر (إعلان القاهرة) تتويجاً وامتداداً لإعلان دمشق الصادر عن ثلاثين قائداً دينياً اجتمعوا في دمشق في الفترة من ٢٨يونيو إلى ١ يوليو ٢٠٠٤، وصاغوا اتفاقاً مبدئياً يدعو إلى احترام حقوق مرضى الإيدز والوصول للمجموعات الأكثر عرضة للمرض، وتطبيق طرق تقليل الإصابة، واستخدام الواقي الذكري؛ مع توضيح أهمية الامتناع والإخلاص والقيم العائلية.
وقد جاء (إعلان القاهرة) في ورقتين موضح في بدايتهما أن المبادرة كانت من البرنامج الإقليمي للإيدز في البلدان العربية التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وتضمن أربعة محاور: المبادئ العامة - الوقاية - العلاج والرعاية - مخاطبة القيادات الأخرى.
المبادئ العامة ركزت على وجوب التحرك العاجل أمام خطر وباء الإيدز انطلاقاً من تكريم الله للبشر أيّاً كانت ظروفهم أو خلفياتهم أو حالتهم المرضية. ومن واقع الجلسات المغلقة؛ فإن كلمة (الظروف) تعني الوضع الفردي للشخص سواء كان يمارس الجنس داخل النطاق الزوجي أو خارجه، أو هؤلاء الأشخاص غير الأسوياء الذين يخرجون عن الفطرة البشرية لممارسة الجنس. أما كلمة (خلفياتهم) فقد عُني بها معتقدهم الديني، وأما حالتهم المرضية فتمثل الإشكالية المرضية التي يعانيها الفرد، ومن ثم ينظر للإنسان المصاب أيّاً كانت ميوله الجنسية أو معتقده ومرجعيته الأيديولوجية على أنه إنسان مبتلى؛ لذلك ضمّن الإعلان عبارة: (المرض اختبار من الله يصيب به من يشاء من عباده، والمريض أخ لنا، ونحن معه حتى يأخذ الله بيده إلى الشفاء) .
الوقاية: لما كانت الأمم المتحدة هي راعية المؤتمرات التي أثار حولها العلماء المسلمون الشبهات مثل: المؤتمر الدولي للسكان (القاهرة ١٩٩٤) ، والمؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة (بكين ١٩٩٥) ، وهاهي الآن ترعى مؤتمر «القادة الدينيين» ؛ فقد كان من الطبيعي أن يصدر (إعلان القاهرة) وفق أجندة الجندر (المبنية على إلغاء أي تفرقة تترتب على الاختلاف الجنسي بين الذكر والأنثى - انظر الطروحات النسوية العولمية تجليات للاستعمار الجديد البيان العدد ٢٠٧) ؛ فبعد أن كان الخطاب الإسلامي يحرم الزنا والشذوذ، ويوضح العقوبات الشرعية في هذا الصدد تبدلت النظرة من خلال (إعلان القاهرة) إلى مرض نحاول علاجه جندريّاً؛ حيث أوضح الإعلان أن الفئات المتاجرة بالجنس وزبائنهم ومتعاطي المخدرات بالحقن والرجال الذين يمارسون الجنس مع الرجال وباقي أصحاب العادات الضارة كل هؤلاء وإن كان الإعلان لا يوافق على هذه السلوكيات (وليس يحرمها) فإنه يدعوهم إلى التوبة، وينادي بتصميم برامج تأهيل وعلاج لهذه الفئات نابعة من ثقافة وقيم القادة. وهنا يبدر تساؤل: هل ثقافة وقيم القادة مردودة إلى المجتمع الإسلامي والعربي، أم إلى أجندة الامم المتحدة؟
ويلاحظ في هذا الصدد التأكيد على استقلال المرأة عن الرجل، وظهر هذا في استثناء السحاقيات من الفئات المذكورة، وعدم استخدام مصطلح إجمالي كلفظ (المثليين) علمًا بأن الإعلان فصّل في حالة اللوطيين؛ وتفسير ذلك يتضح في الفقرة المستقلة في إعلان القاهرة والتي جاء فيها: (ننادي بحق المرأة في حماية نفسها من التعرض للإيدز) تلك الفقرة التي تتفق مع البند ٩٦ من وثيقة بكين (حق المرأة في أن تبت بحرية ومسؤولية في المسائل المتصلة بحياتها الجنسية) .
جاء (إعلان القاهرة) ليؤكد على طرح الأمم المتحدة في علاج الإيدز والمعروف بـ safe sex والذي يرى حق الفرد في إشباع غريزته بأي وسيلة، ولكن بطريقة آمنة باستخدام الوسائل الوقائية؛ حيث جاء في الإعلان (التأكيد على أن العفة والإخلاص هما العنصران الأساسيان لدعوتنا الوقائية، مع تفهمنا لدعوة الأطباء وأهل الاختصاص لاستخدام وسائل الوقاية المختلفة لدفع الضرر عن النفس والآخرين) والوسائل الوقائية واضحة في إعلان دمشق الذي يدعو إلى تطبيق طرق تقليل الإصابة واستخدام الواقي الذكري، كما أنها تظهر جليّاً في وثائق بكين (البند ٨٣/ل - البند ٩٨ - البند ١٠٨/م - البند ١٠٨/ل - البند ١٠٨/ن) وبكين +٥ (البند ١٠٣/ب من الوثيقة الختامية) .
يلاحظ أيضاً ذكر عبارة: «دعوة الأطباء وأهل الاختصاص» غاضين النظر عن الأبحاث الطبية المعتبرة التي تشدد على المنع كعلاج وحيد، وأن نسبة الأمان في الوسائل غير كاملة.
تطرق الإعلان للعَرَض ولم يتطرق إلى المرض الذي هو أصل القضية، وهي حرمة الممارسات التي تتم في غير فراش الزوجية من زنا ولواط وسحاق؛ فقد جاء في الإعلان: (نرى حرمة كل ما يتسبب في نقل عدوى الإيدز عمداً أو إهمالاً نتيجة عدم استخدام كل وسائل الوقاية المتاحة والممكنة والتي لا تخالف الشرائع السماوية) .
ففضلاً عن أن إعلان القاهرة لم يحرم الزنا؛ فقد حرم نقل الإيدز إذا أهمل الزاني استخدام الواقي الذكري، وتسبب في نقل الإيدز إلى الطرف الآخر ذكراً كان أم أنثى. ومن هنا لم يحرم الأصل وحرم الفرع. أما عن عبارة: (لا تخالف الشرائع السماوية) فهي عائدة في هذا الإعلان إلى كون الوسيلة نفسها هل مخالفة للأديان أم لا؟ وذلك من حيث الوظيفة وليس من حيث التوظيف.
في ضوء كل ما سبق يدعو الإعلان إلى (ضرورة كسر حاجز الصمت من على منابر المساجد والكنائس والمؤسسات التعليمية وفي أي مجال ندعى للحديث فيه عن كيفية مواجهة الإيدز بمبادئنا الدينية الأصلية، وإبداعنا المتسلح بالعلم لابتكار طرق جديدة للتعامل مع هذا التحدي الخطير) . والطرائق الجديدة المطلوب ابتكارها واضحة في أجندة الأمم المتحدة من خلال ما يعرف بـ (sex education) أو تعليم الجنس؛ وذلك بوضع برامج تعليمية (سمعية وبصرية وعملية) تعلم الأطفال والمراهقين والنساء عموماً كيفية ممارسة الجنس بطريقة أطلق عليها: (مسؤولة) يتم من خلالها توفير الجنس الآمن، ومن ثم يتم في نظرهم تفادي الإصابة بالإيدز. في ضوء ذلك توزع الواقيات الذكرية والنسائية بأسعار زهيدة وأحياناً مجاناً لتحقيق هذا الغرض، وثيقة بكين (بند ٨٣/ل - بند ١٠٧/هـ - بند ٢٦٧) مؤتمر القاهرة للسكان (بند ٧/٣، ٨/٣١) .
الأديان - خاصة الإسلام - كانت تمثل عائقاً كبيراً أمام الأمم المتحدة أثناء مراسم مؤتمراتها، وهو الأمر الذي دفع وثيقة بكين البند ٢٧٦/د إلى «دفع الحكومات لاتخاذ الخطوات الكفيلة بألا تُتخذ التقاليد (والأديان) ومظاهر ممارستها أساساً للتمييز ضد البنات» . لكن هذه الاستراتيجية أتت بنتائج عكسية على الأمم المتحدة، فكان لا بد من استحداث استراتيجية جديدة يتم معها احتواء الأجواء المعارضة بصورة دبلوماسية.
(إعلان القاهرة) نجحت الأمم المتحدة من خلاله في صناعة خطاب ديني جندري وقَّع عليه ٨٠ شخصية مسلمة ومسيحية، ومن خلاله تمت إذابة الخطاب الإسلامي في الخطاب المسيحي، وقد جاءت كلمات ممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي معبرة عن ذلك المناخ؛ حيث يقول: «إن القادة الدينيين في المنطقة العربية قد أظهروا للعالم أجمع مدى حكمتهم وتراحمهم وتفتحهم واستعدادهم لتجاوز كل الاختلافات العقائدية ليحققوا لمنطقتنا جيلاً قادماً خالياً من مرض الإيدز» . لهذا وُصف هذا التجمع من قِبَل الأمم المتحدة بأنه (خطوة عملاقة للأمام - كسر حاجز الصمت - حدث عظيم - حدث هام وفريد) ولعله كذلك فعلاً؛ لأن هذا الإعلان سيتم استثماره جلياً في مؤتمر عشر سنوات على بكين المزمع عقده في نيويورك في الفترة من ٢٨ فبراير - ١٠ مارس ٢٠٠٥ لتقييم ما تغير في العالم في ضوء وثيقة بكين، وبعد عشر سنوات على وضعها.