[القرآن الكريم وسنن الله في التاريخ]
أ. د. عماد الدين خليل
تلقى النص القرآني عبر العصور الكثير الكثير من المعالجات والدراسات سواء في العقيدة أو التشريع أو آداب السلوك، أو النحو واللغة والبلاغة؛ بينما ظلت حلقة مهمة لم تُعط العناية الكافية رغم أن القرآن الكريم منحها مساحة واسعة جداً تلك هي حلقة الفقه الحضاري التي تُعنى بمتابعة قوانين الحركة التاريخية، أو سنن الله العاملة في التاريخ.
كان هناك نوع من عدم التوازن في التعامل مع النص القرآني؛ حيث تركت هذه الحلقة إلى فترات متأخرة نسبياً عندما جاء ابن خلدون في القرن الثامن الهجري لكي يضع يديه في (المقدمة) على شبكة من قوانين الحركة التاريخية التي تشكل المجتمعات وتنشئ الدول والحضارات أو تقودها إلي التفكك والزوال، لكن ابن خلدون على تألقه وتفرده وقدرته على الاكتشاف وريادته في مجال علم الاجتماع، وتفسير التاريخ أو فلسفته، فيما يعترف به الغربيون قبل الشرقيين لم يشر ـ ولا يدري المرء لماذا ـ إلى أن القرآن الكريم سبقه في التأكيد على هذه المسألة وإعطائها مساحات واسعة في سوره وآياته البينات.
بوابات الخطاب الدعوي:
مهما يكن من أمر فإن الخطاب الدعوي في القرآن الكريم يتحرك عبر ثلاث قنوات أو بوابات كبرى: أولها التاريخ؛ أي الزمن، وثانيتها العالم والطبيعة والكون: أي المكان، وثالثتها اليوم الآخر: أي المصير. وسنقف قليلاً عبر هذه المحاضرة الموجزة عند البوابة الأولى؛ حيث نجد النص القرآني يمنح أكثر من نصف مساحته للتاريخ وسننه وقوانينه، وهو يقودنا من وراء الأحداث والوقائع والتفاصيل إلى المغزى أو القانون الذي يتشكل الحدث بموجبه، وتنسج حيثياته لحظة بلحظة ودقيقة بدقيقة.
يكفي أن نتذكر الآية الأخيرة في سورة يوسف: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١] ، لكي نعرف الأهمية الكبيرة التي أولاها القرآن الكريم للتاريخ وسننه للوقائع التاريخية ولما وراءها من قوانين تحركها وتسوقها إلى مصائرها.
ورغم أن القرآن الكريم أعطى هذه الأهمية للتاريخ وسننه إلا أنه لم يشأ أن يجعل الأجيال المتعاقبة على مر الزمن أسيرة للتاريخ، مشدودة الأعناق إلى الماضي، تنوء بوقره الثقيل. إن هذا الكتاب لا تنقضي عجائبه؛ فهو يضعنا عبر ما يزيد عن نصف مساحته من خلال قصص الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وحركة الصراع الأبدي بين التوحيد والشرك، وهو يحررنا ـ في الوقت نفسه من التاريخ فيما نجده في آيتين متقاربتين من سورة البقرة تصاغان بالمفردات نفسها: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: ١٣٤] ؛ وذلك من أجل أن يضعنا في قلب العصر قبالة تحديات الواقع ومطالب المستقبل وضروراته.
وبقدر ما يتعلق الأمر بمتابعة الظاهرة التاريخية في النص القرآني؛ فإنها بحاجة إلى المزيد من التحليل والدراسة بسبب من ارتباطها الوثيق بصراع الأمم والشعوب، والتحديات التي تجابه الأمة الإسلامية عبر اللحظات الراهنة، وإمكانات الانبعاث والنهوض مرة أخرى.
إن القرآن الكريم يقدم عبر تجواله في التاريخ جملة من الإشارات الضوئية التي تعين الأمة على وضع خطواتها على الطريق الصحيح، وتمنحها الأمل فيما سيتشكل من مصائر ومقدرات على مستوى العالم، وتخرجها من دائرة السوء والانكسار التي قادتها إليها معطيات القرون الأخيرة. إن الذي تعانيه الأمة ليس هو قدرها النهائي ولا نهاية المطاف: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: ١٣٧] ، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١٣٩ - ١٤٠] .
إن القرآن الكريم يربط دائماً الأسباب بمسبباتها والنتائج بمقدماتها، ولا بد إذن ـ في المنطوق القرآني ـ من الأخذ بالأسباب، هذا هو المفتاح الأساس، ونحن لا نستطيع أن نجد آية واحدة تعدنا بالنهوض كرَّة أخرى إلا وهي مشروطة بالعمل والفاعلية والأخذ بالأسباب، وبدون ذلك لن يكون بمقدور الإيمان، أو العبادة المنفصلة عن العمل في واقع الحياة أن تؤدي دورها في إعادة الأمة إلى التاريخ مرة أخرى، بعد أن خرجت من التاريخ وإلى أن تبدأ خطواتها في إعادة نسج حضارتها الإسلامية الواعدة بعد أن تفككت وفقدت قدرتها على الفعل والإنجاز. إن بحثاً كهذا لا يسمح بالخوض في قوانين الحركة التاريخية التي عُني بها فلاسفة التاريخ، وبخاصة في القرون الثلاثة الأخيرة بدءاً من (أوغست كومت) ومروراً بـ (هيغل وماركس وإنغلز وكروتشه واشبنغلر) ووصولاً إلى (أرنولد توينبي) .
ولحسن الحظ فإن ربع القرن الأخير شهد على مستوى دور النشر والدوائر الأكاديمية عدداً طيباً من الأعمال المعنية بدراسة هذا الجانب المهم من النص القرآني، ولا أكون مبالغاً إن قلت بأن ما يزيد عن عشر رسائل للماجستير والدكتوراه أنجزت عن سنن الله العاملة في التاريخ في الجامعات العربية والإسلامية المختلفة، والمستقبل القريب يعد بالمزيد لملء هذا الفراغ الملحّ الذي يُعدّ ضرورة من الضروريات على المستويين الدراسي والواقعي.
سأنتقل من التعميمات أو المداخل العامة إلى اختبار عينة محددة، أو تأشيرة قرآنية واحدة تعطينا مثلاً فحسب عما ينطوي عليه القرآن الكريم بخصوص قوانين الحركة التاريخية تلك الآية التي تقول: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: ٤١] .
إننا في العصر الراهن الذي منيت فيه الأمة بالهزائم والانكسارات بأمسِّ الحاجة إلى أن نقف طويلاً عند هذه الآية، لكي تمنحنا الأمل بالمصير من جهة وتبين لنا ـ من جهة أخرى ـ أن التاريخ لن يكون في يوم من الأيام ملكاً لقوة في الأرض، وأنه يقدم لنا معطيات معاكسة تماماً لما ادعته الماركسية ـ يوماً ـ بخصوص فكرة نهاية التاريخ حيث تتوقف حركته عند مرحلة حكم البروليتاريا (أي الطبقة العاملة) ، وتتراجع إلى الأبد معطيات الصراع الطبقي وإفرازاته كالعائلة والدين والوطنية والقيم الأخلاقية في ضوء ما سماه (ماركس، وانغلز) ـ في بيانهما الشيوعي بالقوانين العلمية لحركة التاريخ؛ حيث يبلغ التاريخ محطته الأخيرة فلا ظالم ولا مظلوم.
ما لبثت هذه النظرية التي تتناقض مع قوانين الحركة التاريخية أن انهارت، وانهارت معها المؤسسة الكبرى للاتحاد السوفييتي بعد أن تبين عجزها عن الاستمرار.
الآن، هناك ادعاء مشابه لدى المنظِّرين في الساحة الغربية الرأسمالية يوازي هذا الذي قالت به الماركسية، ولكنه يخالفه بزاوية مقدارها مائة وثمانون درجة، وسيؤول بالتأكيد إلى المصير نفسه الذي آلت إليه الماركسية تنظيراً وتطبيقاً، وهو ما يسمى بنظرية (نهاية التاريخ) التي كان المفكر الأمريكي (فرنسيس فوكوياما) قد نسج حيثياتها في ثمانينيات القرن الماضي، وقدمها في كتابه المعروف الذي يحمل الاسم نفسه، ثم ما لبث أن عاد في أواخر التسعينيات لكي يجري عليها بعض التعديلات بما يجعلها أكثر قبولاً وتوافقاً مع المعطيات والخصوصيات التاريخية للأمم والشعوب، وتلك هي إحدى إشكاليات العقل الغربي الوضعي التي تنطوي على ما يستحق التقدير والرفض في الوقت نفسه، التقدير للجرأة التي يملكها الغربيون في نقد وتعديل أنساقهم الفكرية لحظة يتبين وجود خطأ ما في جانب من جوانبها، وقد يقودهم هذا ـ كما حدث في كثير من الأحيان ـ إلى رفض النسق الفكري بكليته والانقلاب عليه والبحث عن بدائل أكثر إحكاماً.
وأما ما يستحق الرفض والنقد في ممارسات العقل الغربي فهو ذلك التقليد الفكري الخاطئ الذي يجعل أي مفكر في الساحة الغربية، عندما يكتشف حقيقة أو معلومة ما تحمل أهمية معرفية؛ فإنه يحاول أن يمطها بأكثر مما تطيق من أجل أن يحولها إلى نظرية أو عقيدة تتحكم بالحقائق الكبرى وتصادر العقل البشري، وتحاول أن ترغمه على الدخول من عنق زجاجتها الضيق؛ فما تلبث أن تقع في الخطأ، وتدفع المستعبدين بحكم قوانين رد الفعل إلى التمرد عليها وإسقاطها من الحساب. لقد حاول ماركس وإنغلز ـ على سبيل المثال ـ أن يحكِّما كشفهما بخصوص الصراع الطبقي والتبدل في وسائل الإنتاج، بمجرى التاريخ البشري ومعطياته كافة بما في ذلك الظاهرة الدينية. (سيغموند فرويد) فعل الشيء نفسه إزاء كشوفه في مجال النفس والضغوط الجنسية، و (دركايم) مع نظريته في العقل الجمعي، و (جان بول سارتر) مع وجوديته، بل ما حدث ويحدث عبر العقود الأخيرة بخصوص تيارات الحداثة: البنيوية والتفكيكية وما بعدهما ... إلى آخره.
يريد فوكوياما أن يقول بأن تاريخ البشرية ألقى قياده أو انتهى ـ بعبارة أدق ـ بالخبرة الليبرالية الرأسمالية التي تتزعمها ـ في اللحظات الراهنة ـ الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه ليس ثمة متغيرات تاريخية بعد هذا، لقد ألقى التاريخ عصا تسياره عند الحالة الليبرالية التي هي في زعمه أعلى صيغ الخبرة البشرية وأكثرها انطباقاً مع مطالب الأمم والشعوب، تماماً كما ادعت الماركسية على الطرف الآخر.
وفي الحالتين فإننا نجد أنفسنا إزاء معطيات مناقضة لقوانين الحركة التاريخية التي أريد لها أن تمضي في تمخضها الدائم فلا تقف أو تسكن عند هذه المرحلة أو تلك، إننا نرجع مرة أخرى إلى القرآن الكريم لكي نجد أنفسنا إزاء هذه الرؤية الواقعية المحكمة لمجرى التاريخ البشري: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: ١١٨ - ١١٩] ، أي أنه ـ سبحانه ـ خلقهم للتدافع والتغاير والاختلاف. وفي آية أخرى نقرأ: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: ٢٥١] .
ها هو ذا صنم جديد يبرز في الساحة الغربية باسم نظرية (نهاية التاريخ) يستعبد عقول أجيال من المعجبين في الغرب والشرق معتقدين أنها الإنجيل الذي يجب أن يتبع، وأن أي شعب من شعوب العالم في جانبيه الغني والفقير ما لم يحذُ حذو الخبرة الليبرالية الأمريكية بديمقراطيتها المدعاة، وبرغبتها في التنامي بالأشياء والتكاثر بالأموال والمتاع، والتنمية الاقتصادية التي تمضي إلى غاياتها بعيداً عن منظومة القيم الدينية والخلقية والإنسانية فلن يكون له مكان في العالم وفي التاريخ.
ومرة أخرى فإن هذا الادعاء يذكرنا بادعاءات الماركسية التي انسحبت في نهاية الأمر من التاريخ، بينما ظلت الحركة التاريخية على دفقها وتزاحمها وتمخضها الدائم. ومرة أخرى ـ أيضاً ـ نرجع إلى كتاب الله، لكي نرى أنفسنا إزاء مفهوم (المداولة) الدائم الذي لا يسكن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: ١٤٠] .
إنه الدولاب التاريخي الذي يظل يدور، يرفع قوماً ويضع آخرين، ولن تظل أمة أو دولة أو حضارة على حالها؛ إنها جميعاً تخضع للحركة ذاتها: الميلاد والنمو والشيخوخة والذبول. ليس ثمة نهاية للتاريخ في المنظور القرآني على الإطلاق، إنما هي الحركة الدائمة؛ لأن الله ـ سبحانه ـ أرادها منذ البدء أن تكون تدافعاً وتغايراً واختلافاً، وهذا هو الذي يحرك التاريخ ويعطيه طعمه وملحه، ويمكّنه من الانتقال من حالة إلى حالة أخرى، وإلا فهي المياه الراكدة التي تأسن، وتفقد القدرة على الاحتفاظ بصفائها ونقائها، والآن: ما الذي تريد الآية القرآنية أن تقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: ٤١] ؟
إن الدلالات القرآنية يأخذ بعضها برقاب بعض، ولا يمكن لأية كلمة إلا أن تصب في البؤرة الأساسية للمنظور. ها هنا نلحظ ـ أولاً ـ حركة التاريخ، وتآكل الدول والإمبراطوريات والحضارات التي تفقد شروط الديمومة والبقاء. لا بد أن تتآكل؛ شاءت أم أبت، وفكرة أن العالم يمكن أن تحكمه قطبية واحدة لمديات زمنية متطاولة مسألة مرفوضة في المنظورين القرآني والتاريخي على السواء.
إن الذي يشهده الميدان في الواقع، وليس في النظريات والأحلام، هو تآكل الأمم والجماعات والدول والإمبراطوريات والحضارات {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: ٤١] ؟ بعد أن كانت إرادة الله ـ سبحانه ـ ومن خلال قوانين الحركة التاريخية قد مدتها وفتحتها وأعطتها فرصتها التاريخية حضارياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً. ما من أمة تملك شروط التفوق أو جانباً منها، وتأخذ بأسبابها بالجد المطلوب ـ مؤمنة كانت أم كافرة ـ إلا ومنطق العدل الإلهي يمنحها الفرصة لأن تصعد إلى فوق: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: ٢٠] ، والذي يطمح للصعود للتمتع بالمنحة الإلهية المفتوحة عليه أن يعمل عقله وحواسه في كتلة العالم وأسرارها، فإذا أضفنا إلى هذا البعد (الإيماني) كأمة مسلمة ورثت مقدرات الأديان والنبوات قدمنا للعالم حضارة ليست كالحضارات، وحياة آمنة مطمئنة متوحدة سعيدة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ولكن ـ وفي مقابل هذا ـ فإننا حيثما آثرنا الانسحاب من التعامل مع كتلة العالم ونواميسه ولم ننتبه إلى الخطاب القرآني كان (للآخر) أن يتفوق علينا، من خلال قدرته المتفوقة على الإمساك بتلابيب العالم الذي سخره الله ـ سبحانه ـ للبشرية كافة.
إنه ـ إذن ـ التآكل المحتوم للقوى السياسية والعسكرية والاجتماعية والحضارية التي تتعاقب على مسرح التاريخ: {نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} إنه التأكيد على الإتيان الإلهي الذي لا راد لكلماته، هذا الإتيان الذي يجيء من خلال القوانين العاملة في التاريخ، والتي تقرض الأمم والدول والحضارات، فتتآكل يوماً بعد يوم، وسنة بعد أخرى وعقداً بعد عقد وقرناً بعد قرن.
إن هذا يذكرنا ـ على سبيل المثال ـ بتلك الشبكة الكثيفة من عوامل التدهور والانحلال والفناء التي تحدث عنها المؤرخ المعروف (جيبون) في (تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية) ، واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ البشري. إن هذا المؤرخ يمارس تغطية مدهشة عبر متابعته المتأنية الصبورة لقرون من الزمن تنخر فيها بجلاء وخفاء عناصر التآكل والدمار التي أتت في نهاية الأمر على هذه الإمبراطورية التي كانت يوماً تحكم العالم. ولسوف نؤشر بعد لحظات على تجارب كبيرة أخرى أعمل فيها قدر الله فأتى على بنيانها من القواعد {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: ٤١] ؛ فالذي يحكم هذا العالم بدوله وإمبراطورياته وقطبياته وحضاراته، ويقودها عبر رحلة الصعود والتنامي، ثم في حركة الانكماش والسقوط إنما هو الله ـ سبحانه ـ وليس (بوش) أو (بريجينيف) أو (ماوتسي تونغ) أو (هتلر) أو (موسوليني) .. الله ـ جل جلاله ـ هو الذي يحكم هذا العالم، وحكم الله ـ سبحانه ـ لا استنئناف فيه ولا مراجعات في دوائر القضاء العليا: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: ٤١] .
هنا تأتي الدلالة الزمنية في المنظور القرآني لكي تتعامل مع الواقع التاريخي؛ فمهما طال المدى بالنسبة للدول الكبرى التي أخذت نصيبها في قيادة العالم لا بد أن ينتهي بها الأمر إلى التدهور والتآكل والسقوط، شاءت أم أبت، ورغم كل المسوغات التي ادعت يوماً على الساحة الماركسية الشرقية، ويوماً آخر على الساحة الأمريكية الغربية، قدرة هذه التجارب على أن تبقى إلى الأبد، وأن تكون نهاية التاريخ.
الذي يحكم هو الله ـ سبحانه ـ وهو ـ على قدرته المطلقة ـ سريع الحساب.
نحن ـ في المنظور الزمني الأرضي المحدود ـ لا يتجاوز عمرنا الحضاري أربعة أو خمسة آلاف سنة، وهي مجرد أيام قلائل وربما لحظات في المنظور الفوقي لحركة التاريخ: {وَإنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: ٤٧] ، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: ٤] ، أي ثمانية عشر مليوناً ومائتين وخمسين ألف يوم أرضي؛ فماذا تساوي هذه الإمبراطورية التي عاشت قرنين أو خمسة قرون، أو حتى ألفين من السنين في المنظور الإلهي؟! ومن ثم يعقب القرآن الكريم على الآية المذكورة مخاطباً رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً * إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: ٥ - ٧] .
كل الدول الكبرى والإمبراطوريات التي امتدت في الزمن والمكان أتى عليها المقص الإلهي فتآكلت وآلت إلى الفناء.
ونحن في لحظات اليأس والعتمة والانكسار والخروج من التاريخ وتيه الأربعمائة سنة بعيداً عن مواقعنا المتقدمة التي أرادها لنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، نحن في هذه اللحظات نتصور أن القوة التي تحكم العالم اليوم وتسوده لن تنكسر أبداً.
في المنظور القرآني ستنكسر، شاءت أم أبت، ولسوف تخرج من التاريخ، والقضية قضية وقت، بدليل أننا على مدى خمس وسبعين سنة فحسب ـ ولا أقول قرناً بكامله ـ شهدنا مصرع العديد من الإمبراطوريات العتيقة والاستعماريات الكبرى والدول الشمولية التي بسطت جناحيها على قارات العالم القديم. ولنتذكر كيف أتى عليها حكم الله ـ سبحانه ـ وكيف طواها النسيان! وعد (هتلر) في كتابه المعروف (كفاحي) بإقامة (إمبراطورية الألف عام) فقدر الله ـ عز وجل ـ اختزالها باثني عشر عاماً فحسب، و (موسوليني) الذي كان يقف في شرفة قصره الكبير في روما مخاطباً عباده من الإيطاليين: (سنركز راياتنا فوق النجوم) بعدما غزا الحبشة، وسحق الحركة الجهادية في ليبيا، وأصبح الحاكم بأمره، ثم ما لبث بعد خمسة عشر عاماً أن هُزم وتجرع من الكأس نفسها حتى الثمالة، وأصبح الثائرون عليه يلاحقونه في سهول لومبارديا، وهو يهرب من بين أيديهم كالجرذ المذعور، حتى ألقي القبض عليه، وأعدم في حالة بائسة نقيضة تماماً لما كان عليه من أبهة وطاغوتية وجبروت.
هناك ـ أيضاً ـ الإمبراطورية البريطانية العظمى التي كان معلمونا في الدراسة الابتدائية يسمونها (الدولة التي لا تغيب عن أملاكها الشمس) ما لبثت أن تآكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وأصبحت مجرد دولة صغيرة منحسرة في الجزيرة البريطانية والقليل من إيرلندا، وأصبحت المشاكل والتحديات تلاحقها من جيش التحرير السري الإيرلندي في عقر دارها، ونحن نذكر كيف تعرض يوماً مجلس الوزراء البريطاني نفسه ـ زمن تاتشر ـ لتفجير عنيف من قِبَل المنظمة المذكورة، كانوا يحكمون نصف العالم فأصبحوا لا يأمنون على أنفسهم في عقر دارهم.
والإمبراطورية الفرنسية أين هي الآن؟ لقد وضع المجاهدون الجزائريون مسماراً في نعشها، تماماً كما وضع الأفغان أيام جهادهم الكبير مسماراً في جسد الاتحاد السوفييتي العملاق، كانت فرنسا تحكم مساحات شاسعة تمتد على قارات أربع، وترفرف راياتها ما بين (بيان بيان فو) في الهند الصينية و (كويبك) في كندا، والآن تنحسر في ديارها فيما كان يسمى يوماً بلاد الغال أو بلاد الفرنجة.
والاتحاد السوفييتي الذي أريد له أن يحكم التاريخ إلى الأبد، باعتباره المرآة الصادقة للاشتراكية العلمية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.. أين هو الآن؟
وحتى التنظيرات والمذاهب الوضعية التي غزت عقول أجيال من الناس، وهيمنت على الشارع والمؤسسة الثقافية تعرضت هي الأخرى للتآكل والاندثار، وليست الوجودية التي أعلن موسسها ومهندسها (جان بول سارتر) تنصله منها عبر لقائه الأخير مع عشيقته (سيمون دو بوفوار) هي المثل الوحيد.
كل المحاولات البشرية عرضة في نهاية الأمر للتآكل والزوال ... الأفكار الشمولية والدول الكبرى والنظريات التاريخية التي انعكست من خلال إمبراطوريات عملاقة كالاتحاد السوفييتي، تماماً كما تنعكس الآن نظريات (فرانسيس فوكوياما) في (نهاية التاريخ) و (صموئيل هنتنجتون) في (صراع الحضارات) ومعطيات العولمة، والقطبية أحادية الجانب، والنظام العالمي الجديد في الساحة الأمريكية التي يتصور المهزومون من ذوي النظر القصير أنها ستمسك بمقدرات العالم والبشرية إلى الأبد.
إن تنوع التاريخ واستعصائه على المسطرة يجعل من النظام ذي القطبية الواحدة حالة استنثائية لن تدوم طويلاً؛ فعلى مدى التاريخ البشري كانت دائماً هناك روما بمواجهة أثينا، والبابوية بمواجهة القسطنطينية، والرومانية المقدسة بمواجهة البابا، وفرنسا بمواجهة بريطانيا وألمانيا وروسيا، وبريطانيا بمواجهة القارة، والمحور بمواجهة المستعمرين القدماء، وأمريكا بمواجهة بريطانيا، والاتحاد السوفييتي ومن بعده أوروبا الغربية بمواجهة أمريكا.
ومعنى هذا أن تفرد قوة غربية واحدة بالسلطان أمر يكاد يكون مستحيلاً على الفترات الزمنية الطويلة نسبياً، وأن الثغرة التي قد ينفذ منها الإسلام المحاصر ستتشكل أو هي قد تشكلت فعلاً بحكم قوانين الحركة التاريخية التي طالما حدثنا عنها كتاب الله، ومعنى هذا أيضاً أن على عالم الإسلام اليوم ألا تذهب به الهزيمة النفسية إزاء التفرد الأمريكي إلى مدى بعيد، وأن يبذل جهده لكي يتماسك وينهض مستفيداً من حالة الثنائيات الغربية المتولدة باستمرار من الثغرات والممرات التي تفتحها في جدار الغالب، وقبل هذا من قدرات الإسلام الذاتية على كل المستويات النفسية والفكرية والاستراتيجية والاقتصادية، والحضارية في نهاية الأمر. وهي ـ بتميزها العقدي وعمقها التاريخي ـ ليست كلاماً يقال وأماني تزجى، ولكنها فاعلية في صميم الصيرورة التاريخية، قديرة في حالة اعتماد الصيغ المدروسة والمحسوب حسابها على أن تحمي الوجود الإسلامي من التفكك والذوبان، بل أن تمضي ثانية باتجاه مواقع أكثر تقدماً على خرائط العالم المعاصر، لكي تشارك في اتخاذ القرار وصياغة المصير.
هناك ظاهرة مدهشة في النص القرآني لا بد من الالتفات إليها لدى دراسة واستقصاء قوانين الحركة في سياقها التاريخي والمادي:
في الماركسية نلتقي بصيغتين من الحركة: إحداهما طبيعة مادية سميت بـ (المادية الديالكتيكية) ، والأخرى اجتماعية سميت بـ (المادية التاريخية) .
تفسّر أولاهما الحركة الكونية من منظور مادي، وتفسر الأخرى الحركة التاريخية للجماعات والطبقات من منظور التغير الدوري المحتوم في وسائل الإنتاج، فالظروف الإنتاجية، فالبنى الفوقية التي تصوغها وتتحكم فيها تلك الظروف.
وفي الماديتين يُستبعد الدين والإيمان، ويتم التنكر للوجود الإلهي، وتصير الرؤية الإلحادية هي الحَكَم الفصل في مجريات التقلبات الكونية والبشرية على السواء.
في النص القرآني نلتقي بالثنائية نفسها: الكون، والتاريخ؛ ولكن بصيغة تختلف اختلافاً كلياً؛ فها هنا ـ في كتاب الله ـ سبحانه ـ تصميم كوني يتوازى مع التصميم التاريخي.
التصميم الكوني حركة فرش ولمّ، والتصميم التاريخي يتحرك وفق المنطوق نفسه؛ فها هنا تفرش الإدارة الإلهية الفرص المفتوحة للجماعات والأمم والدول، والإمبراطوريات والحضارات، فيشهد التاريخ البشري وهو يتقلب ويدور دولاً وإمبرطوريات وحضارات للإنجليز والفرنسيين حيناً، وللروس والأمريكيين حيناً آخر، وللمسلمين حيناً ثالثاً. نحن كنا في يوم من الأيام ومن خلال أخذنا بالأسباب وتعاملنا الفاعل مع العقيدة قد فرشت لنا الأرض، ثم ما لبثت عملية التآكل واللم أن حاقت بنا بعد أن تخلينا عن الأخذ بالأسباب، وتهاونا في التعامل مع مطالب عقيدتنا العليا بمشروعها الحضاري الكبير، انسحبنا من التاريخ؛ لأن أيدينا ارتخت، وعقولنا عجزت عن أن تواصل التوتر المطلوب، ولو في حدوده الدنيا.
وما جرى علينا مضى لكي يسوق كل التجارب التاريخية الكبيرة إلى المصير نفسه: التآكل واللم والزوال بعد الفرش والامتداد والسلطان.
باختصار شديد فإن الحركتين الكونية والتاريخية تمضيان على خط متوازٍ بين الحالتين، ولكنهما في المنظور القرآني تتشكلان في إطار إيماني؛ حيث تصير إرادة الله ـ سبحانه ـ هي الحكم الفصل في بدء الحركتين وصيرورتهما، والمصير الذي تؤولان إليه في نهاية المطاف، والمساحة المعطاة للفعل الإنساني واسعة ممتدة فاعلة، ولكنها تتحرك في إطار الإرادة الإلهية المحيطة الشاملة التي يصير فيها الفعل الإنساني سبباً في الانبعاث والصعود أو الانحسار والزوال.
في المنظور القرآني تبدأ الحركة الكونية بإرادة الله ـ سبحانه ـ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: ٤٧] فنحن إزاء عملية اتساع دائم تؤكده الدراسات الطبيعية والفيزيائية، كما تؤكده معطيات (أينشتاين) عن (الكون المتسع) والمنحنيات المتمددة إلى مسافات لا يعلم مداها إلا الله سبحانه.
وبإزاء الفرش الكوني وبمرور الزمن وعبر مديات متطاولة قد تتجاوز مليارات السنين تبدأ عملية اللم المعاكسة التي تُؤْذِن بها ـ ربما ـ الثقوب السوداء التي تملك كما يؤكد الدارسون قدرة أسطورية على جذب الكتل والأجرام والتقامها. وفي كل الأحوال فإننا بإزاء إعادة الكتلة الكونية إلى ضيقها السابق يوم تشكلت أول مرة {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: ١٠٤] .
مرة أخرى إننا بإزاء مسارين للحركة في المنظور القرآني: إحداهما طبيعية كونية، والأخرى تاريخية اجتماعية، بإزاء حركة فرش ولمّ محتوم، ولن تستطيع قوة في الأرض مهما ادعت من جبروت وطاغوتية وسلطان أن تقف قبالة قوانين الله ـ سبحانه ـ العاملة في الكون أو التاريخ؛ لأن الذي يحكم العالم والتاريخ هو الله جلت قدرته، وليست أية قوة في الأرض: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: ٤١] .
(*) مؤرخ سياسي.