للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

افتتاحية العدد

لا عزاء للطغاة

كانت فترة الخمسينات والستينات الميلادية مليئة بنماذج مشوهة من الطواغيت

الذين ملؤوا الدنيا ضجيجاً ممجوجاً، عقوداً مديدة ... مريرة.

فكان منهم: الرفيق، والقائد الأوحد، والجنرال والماريشال، والكولونيل،

إلى آخر ذلك من ألقاب اكتسبوها في غفلة من البطولة الصادقة، واستغفال الشعوب

المنقادة بالظلم وبمباركة أولي الأمر من شرق وغرب.

أطبق طغيانهم على شعوبهم ظلمات بعضها فوق بعض، وتبدلت المفاهيم

الصادقة إلى ضدها؛ فكان الظلم عدلاً، والباطل حقاً، وأضحى الناس بين خفض

ورفع، فمن أتقن الانتهازية وأدرك اللعبة وكان من التابعين؛ فروح وريحان، ومن

أبت نفسه ذلك وتمسك بمبادئ الأولين، فله شقاء الكادحين، وشظف المعدمين، إن

لم يكن من المسجونين.

إذا جاعت الشعوب.. أكلت جوعها لتزداد جوعاً، أما الطغاة، فإذا شبعوا ...

جاعوا ليأكلوا حتى يموتوا.

لبست الشعوب على عظامها جلوداً كجلود الأحذية، وهم لبسوا شحوماً على

لحومهم.

استثمروا أموال تلك الشعوب بطريقة خاصة، في مصارف خاصة، فلم يعد

منها لهم شيء البتة.

ولكن سنة الله في الطغاة وإخوانهم لا تتبدل، فلهم خزي الدنيا، ولَعَذاب

الآخرة أشد.

في الأيام القليلة الماضية هلك الماريشال (موبوتو سيسي سيكو) النمر المرقط، إمبراطور زائير السابق، وهو الذي قام في (أيلول زائير الأسود) بانقلاب

عسكري عام ١٩٦٠م مقابل خمسة ملايين دولار من بلجيكا، لكن المحاولة أخفقت

لقلة الأموال، وربما لأن الإخفاق كان هو المستهدف، ثم انقلب مرة أخرى بأموال

أخرى وذلك عام ١٩٦٥م ونصب نفسه رئيساً مطاعاً، وكان يراد له أن يلعب دوراً

فجثم على صدور الزائيريين أكثر من ثلاثين عاماً، حلب فيها الوصيلة والحامي،

وتردى شعبه بعدما نطحه، بينما هو قد أكل لحوم السباع ولبس جلودها.

بلغت ثروته التي جمعها من راتبه الشهري! ! ما يقارب السبعة مليارات من

الدولارات، وتوزعت ثروته العقارية ما بين قصور.. وقصور، في فرنسا

وبلجيكا، ولوكسمبورج وإيطاليا، وأسبانيا.

مرض الرجل بمرض الطغاة المعتاد.. (سرطان البروستاتة) وخرج للعلاج،

فانقلب البلد ولكن هذه المرة بأموال أمريكية قدمتها أياد غير بلجيكية.. هام الرجل

على وجهه يطلب ولو كوخاً يؤويه؛ فقد حيل بينه وبين قصوره، وتنكر له رفاقه

الطغاة حين طلب أن يكون لاجئاً لا إمبراطوراً، فحنطوه في ذله، وأذلوا كبرياءه.

ظن موبوتو وهو على سرير المرض أن الشعب سيفديه بالأرواح والمهج،

وأنهم سيحملونه على جناحي طائرة ويعودون به مرة أخرى، ولكنه عندما أيقن

بالنهاية، قطع حبال الأحلام، وأحضر القساوسة الكاثوليك، وتوسل إليهم أن يدعوا

له بالمغفرة والرحمة! !

خرج القساوسة بعدما ترحموا عليه، ودخلت مجموعة من المحامين

والمحاسبين لوضع الشكل النهائي لمصير ثروته وأملاكه! !

مات موبوتو ولم يبكه أحد، حتى أبناؤه كانوا منشغلين بالتركة التي تركها،

وحاولوا أن يختموا حياة أبيهم بكرامة، ولو صغيرة، فطلبوا حضور مندوبين عن

الدول الكبار التي وضعته في الحكم، فاعتذر الجميع، ودُفِنَ (مؤقتاً) في جوار

الأطلسي.

وإذا كان الرجل قد هان على أوليائه في نهاية حياته؛ فلم يروا أن يدفعوا عنه

آثار ظلمه وعاقبة بغيه على الرغم من أنه كان أداة لظلمهم ومجدافاً في أيديهم، بل

لم يفاوضوه حتى يحفظ ماء وجهه، وأقصى ما قدموه له أن سمحوا له أن يفر بجلده

كي لا يموت ذليلاً مغموراً مرتين.

فهل يتذكر العقلاء أن تلك النهاية هي ثمرة ولاية الشيطان التي قصها القرآن:

[وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا

كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا

أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ

لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [ابراهيم: ٢٢] وهل يتذكر قوم يشترون ما عند أولئك الأولياء بعز

أوطانهم ودماء شعوبهم؟ .

لقد عاد موبوتو إلى قساوسته فهل يعود قومنا إلى الله قبل أن يلقوه حكماً عدلاً

فيسألهم عما أضمروه [وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ

تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (٤٢) ] [فَلا تَحْسَبنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ

ذُو انتِقَامٍ] [إبراهيم: ٤٢، ٤٧] .

إن حديثنا الذي هو صدى للحدث منطلق من ثوابت، ولنا منه نحن أيضاً

نصيب: فالليل خطوة والنهار خطوة، ثم ما يلبث العمر حتى ينقضي والأيام تطوى، ويمثل المرء أمام الحكم العدل لينظر عن يمينه فلا يرى إلا عمله، وعن يساره

فلا يرى إلا عمله، لقد أمرنا الله سبحانه في قرآنه الكريم أن نسير في فجاج التاريخ، ونضرب في أصقاع الدهور، ونستنطق الأحداث، ونفتش عن مواضع العبرة

ومواطن العظة: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُجْرِمِينَ]

[النمل: ٦٩] فكيف إذا جاءتنا الأحداث وقرعت أبوابنا الوقائع ورأيناها رأى العين

[إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ] [ق: ٣٧] ؟

يقول سيد قطب (رحمه الله) : إن تلك النهايات كلها تفيض الطمأنينة على

القلب المؤمن، وهو يواجه الطغيان في أي زمان ومكان، تفيض طمأنينة خاصة؛

فربك هناك راصد لا يفوته شيء، مراقب لا يَندّ عنه شيء، فليطمئن بال المؤمن،

ولينم ملء جفونه، فإن ربك بالمرصاد للطغيان والشر والفساد..

[هَذَا وَإنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ] [ص:٥٥، ٥٦]

إن أولئك الطغاة وأمثالهم يصدق فيهم قول الحق (تبارك وتعالى) : [فَمَا بَكَتْ

عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] [الدخان: ٢٩] وقوله: [وَمَن يُهِنِ

اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ] [الحج: ١٨] وليكون ذلك تحذيراً لكل مستبد، فإن ربك

بالمرصاد؛ [وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ] [هود: ٨٣] .

ومن الخسران المبين: ألا يعتبر اللاحق منهم بالسابق، وأن يسلك الطريق

نفسه إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة!