للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أبو بكر الطرطوشي

وكتابه: «الحوادث والبدع»

دراسة وتحليل بقلم:

أحمد عبد العزيز أبو عامر

لقد كان لعلماء الإسلام الأعلام موقف حازم من البدع والمبتدعة، في بيان

حقائقهم وأساليبهم في فهم الشريعة والتحذير منهم ومخالطتهم، مع الحث على اتباع

الوحيين، واعتبارهما منهجاً للحياة، ولما كان للطرطوشي جهدِ بارز في هذا الباب؛ ومع ذلك فهو مجهول الجهد مغمور الذكر لذى الكثير من القراء؛ ناسب التعريف

به وبأعماله وتراثه الفكري، مع عرض كتابه في البدع، ووقفات على ما بذل من

جهد في تحقيقه. وسيكون الموضوع على النحو التالي:

أولاً: حياته وأعماله وتراثه الفكري:

هو أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب القرشي

الفهري الطرطوشي، ولد سنة ٤٥٠ هـ، وقيل بعدها بسنة في مدينة طرطوشة

بالأندلس، وفيها نشأ وتعلم في مسجدها الكبير على يد بعض العلماء، ثم أخذ عن

(أبو الوليد الباجي) في (سرفسطة) مسائل الخلاف، وسمع عنه وأجازه، والذي

يظهر أن والده كان عالماً أو من المشتغلين بالعلم، ولذا وجه ابنه هذه الوجهة،

وكانت أسرته على شيء من الثراء، ولذا عاش في وطنه حتى الخامسة والعشرين

من عمره، في كنف أهه يطلب العلم ويكفونه مؤنة السعي وراء الرزق، وفي سنة

٤٧٤ غادر إلى الشرق وعمره آنذاك ٢٥ سنة تقريباً، فأدى فريضة الحج ودرّس

بمكة ولم يقم بها طويلاً، فاتجه إلى بغداد حيث تلقى المزيد من العلم في المدرسة

النظامية وتجول بالبصرة، ولقي بها القاضي الجرجاني، وروى عنه شيئاً من

أشعاره الزهدية والتي ضمنها كتابه: (سراج الملوك) وغادر العراق وعمره آنذاك

حوالي الثلاثين سنة إلى بيت المقدس وفيه لبث وقتاً يعلم الناس، ثم غادرها إلى

جبل لبنان ومنه إلى أنطاكية وكانت آنذاك محاصرة من قبل الصليبيين مما دفعه إلى

ترك الشام ميمماً وجهه صوب مصر، فنزل في (رشيد) فجاءه وفد من أهل

الإسكندرية يحثونه على الانتقال إليهم قاضياً بعدما قتل (بدر الدين الجمالي) القائد

العبيدي عدداً من العلماء، فاستجاب لهم ومن ثم استقر بالإكسندرية وبها تزوج

وحفلت حياته بالنشاط والتدريس والتأليف مما جمع الناس حوله، وكان لا يغادر

الإسكندرية إلا للاتصال بوزراء الدولة لنصحهم وإرشادهم مما جعل له مكانة

أوغرت صدر القاضي (أبو طالب بن حديد) الذي كان منتظراً منه أن يكون من

حاشيته، لكن زهد الشيخ وجرأته التي تصل أحياناً إلى نقد أحكام القاضي، كما

فعل في تحريمه للمؤكولات الواردة من أوربا (كالجبن الرومي) .. كل ذلك حدا

بالقاضي إلى كتابة تقرير فيه ورفعه للحاكم (الأفضل) الذي ما يزال يتذكر موعظة

الطرطوشي له والتي تسمت بالقسوة فأمر الحاكم بتحديد إقامته الجبرية في (مسجد

جنوب الفسطاط) ولم يخرج من إقامته تلك إلا بعد قتل الأفضل، ولما تولى (الوزير

المأمون البطائحي) مكانه أكرمه وأخرجه فظل في الإسكندرية لامع النجم يفد إليه

طلبة العلم من الإسكندرية ومن غيرها، ومن أهم تلاميذه من الإسكندرية (سند بن

عون) العالم الفقيه الذي خلفه في التدريس إحدى عشرة سنة، وكذلك (ابن الطاهر

بن عوف) والذي قام بنفس المهمة في التدريس، ومن تلاميذه الآخرين (أبو بكر بن

العربي المعافري) (وهو غير ابن عربي الصوفي) وكذلك (المتمهدي بن تومرت

البربري) .

مؤلفات الطرطوشي:

كان خصب الإنتاج وقد أحصي له أكثر من عشرين مؤلفاً ومن أهمها:

١ - الكبير في مسائل الخلاف.

٢ - شرح رسالة أبي زيد القيرواني.

٣ - معارضة إحياء الغزالي.

٤ - العدة عند الكرب والشدة.

٥ - سراج الملوك.

وفاته:

توفي إلى رحمة الله سنة ٥٢٥ ولعل حياته امتدت بعد هذا إن صح ما نقله ابن

خلكان في (وفيات الأعيان) [١] .

ثانياً: كتابه (الحوادث والبدع) [٢] :

قال الطرطوشي في مقدمته: هذا كتاب أردنا أن نذكر فيه جملاً من بدع

الأمور ومحدثاتها التي ليس لها أصل في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع ولا

غيره فألفيت ذلك ينقسم إلى قسمين:

قسم يعرفه الخاصة والعامة أنه بدعة محدثة إما محرمة وإما مكروهة.

وقسم يظنه معظمهم - إلا من عصم الله - عبادات وقربات وطاعات وسنناً.

فأما القسم الأول: فلم نتعرض لذكره، إذ كفينا مؤنة الكلام فيه لاعتراف

فاعله أنه ليس من الدين.

أما القسم الثاني: فهو الذي قصدنا جمعه، وإيقاف المسلمين من هذه المنكرات

والبدع لا مطمع لأحد في حصرها لأنها خطأ وباطل، وذلك لا تنحصر سبله ولا

تتحصل طرقه، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق لأنه أمر

واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه ... ثم بين أبواب الكتاب

الأربعة كما يلي:

١- الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور التي ظاهرها

سلم جرت إلى هلك، مورداً بعض الآيات ومنها: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا

رَاعِنَا وقُولُوا انظُرْنَا] [البقرة: ١٠٤] ، وذلك أن المسلمين كانوا يقولون للرسول:

(راعنا) و (ارعنا) سمعك، وهي بالعبرانية كلمة سب من الرعونة، فكانت اليهود

تقولها للنبي سباً، فمنع الله المسلمين أن يقولوها، وإن كانت جائزة، لئلا تتذرع

اليهود بذلك إلى ما لا يجوز، وهذا في الحقيقة منع جائز في الظاهر لما كان يتطرق

به إلى باطل ممنوع.

ومن ذلك قوله تعالى: [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ

عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ] [الأنعام: ٦/١٠٨] ، فمنع الله سائر المسلمين من سب آلهة الكفار، وهو مباح، لئلا يصير طريقاً لهم إلى سب الله تعالى عند ذلك.

ثم بين أن مما يدخل في هذا الباب والتحذير من الزيادة في دين الله تعالى

والنقصان منه، قوله تعالى: [وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً] إلى قوله تعالى: [فَبَدَّلَ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ

بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ] [الأعراف: ٧/١٦٢] .. قال أهل التأويل: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فيدخلوا سجداً منحنين متواضعين ويقولوا حطة - معناه حط عنا خطايانا - فقالوا: (حنطة) استخفافاً بأمر الله فأرسل الله تعالى عليهم رجزاً من العذاب لقوا منه ما لقوا، لأنهم زادوا حرفاً في كلمة، فما بالك بالابتداع والتغيير مما لم يأذن به الله، ولم يرد في سنة رسوله.

٢ - الباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من النهي عن محدثات الأمور

وأورد بعضاً من الأحاديث في التحذير من الأهواء والبدع، ومنها حديث ابن مسعود

عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خط لهم خطاً ثم خط إلى جانبه خطوطاً، ثم

قال للخط الأول: «هذا سبيل الله يدعو إليه» وقال للخطوط: «هذه سبل

الشيطان علي كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: [وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي

مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] ، وما رواه الشيخان أن

النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:» لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً

بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتوهم، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ «.

وحديث البخاري عن أبي واقد الليثي قال:» خرجنا مع النبي -صلى الله

عليه وسلم- قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها

وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: (ذات أنواط) فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله،

اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

الله أكبر، إنها السنن، لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل [اجْعَل لَّنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ

قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ] لتركبن سنن من كان قبلكم «رواه الترمذي وصححه.

قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها

الناس ويعظمون من شأنها ويرجون البرء والشفاء من قبلها وينوطون بها المسامير

والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها.

ثم عقد فصلاً في تعريف البدعة قال فيه: إن أصل الكلمة من الاختراع وهو

الشيء الذي يحدث من غير أصل سابق، ولا مثال احتذي ولا أُلف مثله ومنه قوله

تعالى: [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ] أي خالقها ابتداء.. وهذا الاسم يدخل فيما

تخترعه القلوب وما تنطق به الألسنة وفيما تفعله الجوارح والدليل على هذا ما

سيذكره في أعيان الحوادث من تسمية الصحابة وكافة العلماء بدعاً للأقوال والأفعال.

٣ - الباب الثالث: منهاج الصحابة في إنكار البدع وترك ما يؤدي إليها.

ساق فيها آثاراً عن بعض الصحابة توضح ذلك، ومنها: ما رواه البخاري في كتاب

الصلاة عن أم الدرداء قالت: (دخل علي أبو الدرداء مغضباً فقلت له: ما لك؟

فقال: والله ما أعرف فيهم شيئاً من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً) .

وروى مالك في الموطأ عن أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: (ما أعرف

شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة) ، يعني الصحابة، وذلك أنه أنكر

أكثر أفعال أهل عصره، ورآها مخالفة لما أدرك من أفعال الصحابة. وروي

البخاري عن أنس قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا

نعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات) .

قال الطرطوشي: فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمان طمس للحق

وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة فما ظنك بزمانك هذا، والله

المستعان. (قلت) : وما ظنك أخي القارئ بزماننا هذا! ..

ثم ساق صوراً لفقه الصحابة في العبادات ومنها: عدم قصر عثمان بن عفان

الصلاة في السفر، معللاً ذلك لئلا يعتقد الناس أن الفرض ركعتان، وقول أبي

مسعود البدري: إني لأترك الضحية وإني لمن أيسركم مخافة أن يظن الجيران أنها

واجبة، ثم عقد باباً في صلاة التراويح وأحكامها، وكيف بدؤها ومستقرها، وبين

فيه أن الأصل في هذه الصلاة ما رواه الشيخان ومالك في موطئه وأبو داود في

سننه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يرغب في قيام رمضان

من غير أن يزمر بعزيمة.. قال ابن شهاب الزهري: فتوفي رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدر خلافة عمر.. ثم لما خرج

عمر يوماً إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي

بصلاته الرهط فقال عمر: (والله إني لأراني لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد

لكان أمثل) فجمعهم على أبي بن كعب، ولما رآهم يصلون بقارئهم قال: (نعمت

البدعة) ، ثم شرح المتون التي أوردها في هذا الباب ووجه الجمع بينها، موضحاً

فيها: هل الأفضل أن تصلى في البيوت أو في المساجد والجماعات، وعند القيام،

الفصل بين الترويحتين، وهل يؤمهم في المصحف والقنوت، خلص في ذلك إلى

أن هذه أحكام القيام مما روي في السنة ولم يرووا فيها بشيء مما أحدثه الناس من

هذه البدع من نصب المنابر عند ختم القرآن والقصص والدعاء وختم هذا الفصل

ببيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين، وبين أن سبيله الجهل

والأخذ عن العلماء الجهال لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:» إن الله لا

يقبض العلم انتزاعاً ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس

رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا «.

وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفاً فقال: (ما خان أمين قط ولكنه أؤتمن

غير أمين فخان) قالا لطرطوشي: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتي من

ليس بعالم فضل وأضل، وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال -

صلى الله عليه وسلم -:» قبل الساعة سنون خداعات يصدق فيهن الكاذب ويكذب

فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهم الرويبضة [وهو

التافه الخسيس] ينطق في أمور العامة «، وقال سفيان: (كانوا يتعوذون بالله من

شر فتنة العالم ومن شر فتنة العابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) .

٤ - الباب الرابع: في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها، ومنها ما يلي:

١- القراءة بالألحان: وهو التطريب الذي ينقل القراءة إلى أوضاع لحون

الأغاني من مد المقصور، وقصر الممدود، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك..

لاقتفاء نغمات الأغاني المطربة.. فاشتقوا لها أسماء من شذر ونبر وتفريق وتعليق

وهز وخز ومزمر وزجر، فهذا مخرجه الأنف وهذا من الصدر وهذا من الشدق..

فهذا الألحان أحدثها في القرن الرابع رجال منهم (محمد بن سعيد) و (الكرماني)

و (الهيثم) وغيرهم ممن هم مهجورون عند العلماء.

٢- ومنها القص في المساجد: لقصص الغابرين كبني إسرائيل، وغالبها لا

يصح، ولذا منع عمر بن الخطاب تميماً الداري عن القص في المسجد.

٣- ثم عقد فصلاً عن آداب المساجد وما داخلها من البدع، ومنها الأكل في

المسجد وبناء السكن فوق المسجد والبصق به، والسؤال فيه وإنشاد الضالة ورفع

الصوت فيه.

٤ - ما روي من فضائل الأعمال في منتصف شعبان، وبيان أنه لا يلتفت

إليه، وأورد قول ابن أبي مليكة رداً على ما قاله زياد البحترى: إن أجر هذه الليلة

كأجر ليلة القدر، قائلاً: لو سمعته وبيدي عصاً لضربته.

٥- بيان عدم صحة صلاة الرغائب وأنها مبتدعة من قبل ابن أبي الحمراء

سنة ١٤٨ في بيت المقدس ولم يسمع بها قبله.

٦-- تعظيم رجب بصوم أو عبادة: لا أساس له، بل الآثار ضده فعن أبي

بكر أنه دخل على أهله وقد أعدوا لرجب فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجب نصومه

فقال: (أجعلتم رجباً كرمضان؟) ، وكره ابن عباس صيام رجب كله، وكان ابن

عمر إذا رأى الناس وما يعدون لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا فإنه شهر

تعظمه الجاهلية.

قال الطرطوشي: فهذه الآثار تدل على أن ما يعظمه الناس فيه إنما هي

نزعات من بقايا عهود الجاهلية.

وأنهى الكتاب بفصل في جوامع من البدع ومنها:

١ - دخول الحمام بغير مئزر مع أهل الكتاب.

٢ - الإنذار للعرس والجنائز للمباهاة والفخر.

٣ - البناء على القبور بالحجارة.

٤ - التمسح بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.

٥ - إقامة المآتم للأموات والتصدي للعزاء.

٦ - خروج النساء للمقابر واتباع الجنائز.

ثالثاً: تحقيق الكتاب:

١ - قام الأستاذ محمد الطالبي بتحقيق الكتاب على نسختين (نسخة مخطوطة

في أسبانيا محفوظة في المكتبة القومية، ومخطوطة في تونس بالمكتبة الأحمدية

بجامع الزيتونة) مع إيراد مختلف الروايات وأضاف أحياناً بين حاصرتين بعض

العناوين إيضاحاً وبالإضافة إلى المقارنة بين المخطوطتين عرف المحقق بعض

الأعلام والمواقع والكلمات، وأرجع الآيات إلى أماكنها في المصحف وبعض

الأحاديث إلى مصادرها، مع الرجوع إلى أقوال بعض المفسرين، وعند ذكر بعض

الفرق يحيل القارئ إلى الكتب المعرفة بها.

٢ - عرف بإيجاز بالمؤلف وكتب تمهيداً عن التأليف في البدع موضحاً إنكار

السلف للبدع المحدثة، وتحرجهم في التأليف في ذمها والتحذير منها ما لم يكن

المؤلف ضابطاً عارفاً بما يقوم به ولئلا يكون ذلك سبباً في إظهار الجدل مما يؤدي

إلى ما يخاف عاقبته، وهذا هو موقف الإمام مالك من تلميذه (ابن فروخ) حينما

استأذنه في الرد على المبتدعة، ثم ظهرت المؤلفات في الرد على أهل البدع،

ومنها:

١ - (البدع والنهي عنها) لابن وضاح (١٩٧ - ٢٨٦) .

٢ - الرد على أهل البدع لابن سحنون (٣٠٢ - ٣٥٦) .

٣ - الطرطوشي في كتابه هذا، ثم بين رأي العلماء في كتابه وثناءهم عليه

(كابن فرحون) و (أبو شامة) وابن الحاج، ثم بين المحقق محتويات الكتاب بإيجاز

وأسلوبه في النقل موضحاً أنه استفاد ممن سبقه ولم يذكر ذلك عنهم، ثم بين

(أسلوب المؤلف الجدلي) موضحاً أن كتابه هذا ليس موجهاً للعموم فحسب كي يقلعوا

عما هم فيه من منكرات الأمور، بل هو موجه أيضاً إلى الخصوص والمخالفين،

فهو كتاب إرشاد وتوجيه من ناحية، وكتاب جدل متحمس.. من ناحية أخرى،

ألفه مولع بمسائل الخلاف، عارف بالأساليب المنطقية، مناقش لكل رأي.. لا يدع

فرصة تمر إلا وأبرز تناقض المخالف ودحض حجة بحجة مردداً: فإن قال.. قلنا.

ثم يبين قيمة الكتاب قائلاً: إن الكتاب يتعدى قيمته التي ألف من أجلها إلى

وصفه المحيط الاجتماعي الذي قامت فيه هذه المآخذ ووصف للبيئة وأهلها بل لعدد

ممن أنكروها.. وهو كتاب متين الصلة بالشعب أي إنه شعبي في تبويبه،

واستطراده، وفي لهجته ومشاكله التي يريد لها حلاً، وإن الكتاب يهم المشتغل

بالتشريع الإسلامي كما يهم المؤرخ والباحث الاجتماعي ولا غنى لمن يؤرخ لحركة

الإصلاح الاجتماعي عنه، وختم الكتاب بعدة فهارس علمية هي:

١ - فهرس مراجع تحقيق النص.

٢ - فهرس الأعلام.

٣ - فهرس المصنفات الواردة في النص.

٤ - فهرس المواضع والمواقع والفرق.

٥ - فهرس الآيات وفهرس أخير للأحاديث.

رابعاً: ملاحظات وتصويبات على ما جاء في تمهيد المحقق:

١ - ما ذكره المحقق الأستاذ محمد الطالبي من عدم إشارة الطرطوشي في

كتابه هذا إلى البدع المستحسنة، والحقيقة أن العلماء المحققين لا يرون أن هناك

بدعاً مستحسنة مستدلين بقوله تعالى: [اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] الآية، وبقول

الرسول - صلى الله عليه وسلم -:» من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد

«، مما جعل العلماء الأعلام يقولون بما يفهم من هذين الدليلين، فهذا الإمام مالك

يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) ،

وقال الإمام أحمد: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب الرسول -

صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة ضلالة) ، والشافعي

يقول: (من استحسن فقد شرع) ، وعليه يتبين خطأ من جعل البدع على أحكام

الشريعة الخمسة ولم يجعلوها قسماً واحداً مذموماً، وقد ذهب لهذا الرأي الخاطئ

العراقي في (الفروق) عن شيخه العز بن عبد السلام، ولتعرف أخي القارئ رد هذا

الرأي انظر (الاعتصام) للشاطبي [٣] ، و (البدع والنهي عنها) لابن وضاح [٤] ،

وكذلك (البدعة وأثرها السيئ في الأمة) [٥] لسليم الهلالي، وأيضاً (تحذير المسلمين

من الابتداع في الدين) [٦] أحمد بن حجر القطري.

٢ - إن أسلوب الطرطوشي في نقاشه ونضاله فيه تأثر بأسلوب المعتزلة،

وذلك في بيانه الحكم في التشريع وإن أقيسته فقهية، ولا يؤمن معها الزلل.

والحقيقة أنه من الخطأ أن يتصور كثير من الباحثين أن (أهل السنة وأعني

بهم أهل الحديث) لا يرون سبيل النقاش العقلي. وأن ذلك طريق أهل الكلام

فقط، وفي هذا تجن عليهم، فأسلوب فقهاء أهل السنة وعلمائهم لا يخلو من استدلالات عقلية فيما يكتبون ويرددون، لكنها أدلة وبراهين منطقية قائمة على تفسير القرآن والحديث، وهذا ما بينه باستفاضة واستدلال الدكتور مصطفى حلمي في كتابه القيم (منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) [٧] ، وكذلك د/ زاهر الألمعي في كتابه (مناهج الجدل في القرآن) [٨] .

٣ - ما ذكره المحقق أنه لم يطلع على طبعة سابقة لهذا الكتاب في معرض

رده على محمد دهمان الذي ذكر أنه مطبوع في تحقيقه لكتاب البدع لابن وضاح،

وكون الأستاذ المحقق لم يعثر على ما يدل على أنه مطبوع من واقع رجوعه لبعض

المصادر لا يعني أنه غير مطبوع، فلقد رأيت طبعة قديمة لهذا الكتاب مطبوعة في

تونس وتحت نفقة أحد الأمراء السعوديين ممن لا يحضرني الآن ذكره.

٤ - ما ذكره المحقق من أن كتاب الطرطوشي هذا تتجلى فيه فلسفة خاصة

تكشف عن بعض سر الماضي والحاضر، فلسفة عمادها خلط الزمني بالروحي،

وضع الأمور كلها على بساط واحد، وهذا عجيب جداً من حضرة المحقق ومتى

كان علماء الإسلام يفرقون بين الزمان والروح أو بمعنى أوضح بين الدين

والسياسة؟ إنها شطحة غريبة جداً لا سيما في عصر تبين فيه سخف هذه

المقالة المنقولة عن النصرانية التي تفرق بين الدين والسياسة، أما الإسلام فهو دين ودولة ولمزيد الضوء يرجع إلى (مؤامرة فصل الدين عن الدولة) للأستاذ محمد حبيب كاظم أو (فصل الدين عن الدولة ضلالة مستوردة) للأستاذ يوسف العظم، وقد طبعت ضمن كتاب (المنهزمون) .

٥ - زعم المحقق أن حرص بعض العلماء على القتداء بالسلف ووزن كل

شيء في الحياة بميزان الإيمان والتقوى يمنع من التطور! والحقيقة أن هذه

التصورات غريبة جداً على كل مسلم يعرف دينه حق المعرفة ولا توجد هذه الأفكار

إلا لدى العلمانيين الذي يحكمون على الإسلام حكمهم على الدين المسيحي المعروف

بكهنوته ورهبانيته، ولا شك أن الحرص على القيم الروحية الخالدة في الإسلام

هدف سامٍ، لكن تصور اتباع السلف بهذا التصور يحتاج إلى تصحيح ومعرفة

للإسلام من جديد، ولبيان ذلك ودحض الشبه العلمانية في هذا الباب أنصح بالرجوع

إلى الرسالة العلمية القيمة للأستاذ / سفر الحوالي وهي بعنوان: (العلمانية نشأتها

وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة) .

والخلاصة أن هذا الكتاب قيم جداً في بابه، ولكن أفكار المحقق هداه الله كما

وضحت تحتم أن تعاد طباعة الكتاب بتحقيق أكثر استيفاء بالمؤلف في التعريف به

وبمؤلفاته وبتخريج الأحاديث والآثار تخريجاً علمياً على ضوء المصادر المعتمدة في

علم الجرح والتعديل، وبيان الحكم الشرعي لبعض البدع باستفاضة وتوضيح، مع

مدخل في التعريف بالبدع والمبتدعة ونهج من ألف فيها، خاصة وأن هذا الكتاب

نادر جداً.


(١) بتصرف من كتاب (أبو بكر الطرطوشي) د/جمال الدين الشيال، سلسلة أعلام العرب، العدد ٧٤.
(٢) الحوادث والبدع للطرطوشي من منشورات كتابة الدولة للتربية بتونس، وطبع في المطبعة الرسمية عام ١٩٥٩م.
(٣) الاعتصام للشاطبي، نشر دار المعرفة ببيروت، تحقيق محمد رشيد رضا، وقد نال الأستاذ / عمر الكحل رسالة الماجستير من (أصول الدين بجامعة الإمام) في تخريج أحاديث وآثار الاعتصام للشاطبي.
(٤) البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي، تحقيق / محمد أحمد دهمان، نشر دار البصائر بدمشق ١٤٠٠ هـ.
(٥) (البدعة وأثرها السي في الأمة) للأستاذ سليم الهلالي، نشر المكتبة الإسلامية بعمان، الأردن ط: ١٤٠٠هـ.
(٦) تحذير المسلمين من الابتداع في الدين، لأحمد بن حجر القطري.
(٧) (نهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين) د/ مصطفى حلمي، نشر دار الدعوة بالإسكندرية ١٩٨٢م.
(٨) (نهج الجدل في القرآن الكريم) د/ زاهر عوض الألمعي، مطبعة الفرزدق بالرياض، وهو رسالة نال بها درجة دكتوراة من الأزهر.