أدب
متابعات ... ومطالعات
إعداد: يحيى محمد رسام
خصصت مجلة الهلال المصرية عددها الأخير (ديسمبر ٨٩ م) (كعدد تذكاري
لعقد الثمانينات.. عمالقة.. وأحداث عامة) ، وقد احتوى العدد على بعض القضايا
الأدبية الجديرة بالإشارة والتعقيب والتعليق ومن ذلك ما يلي.
القضية الأولى: محمود شاكر ... منجم الأصالة العربية:
نشرت المجلة كلمة قصيرة عن الأستاذ الأديب محمود محمد شاكر، تعتبر
بحق شهادة صدق، نوردها حتى يطلع القارئ الكريم -ممن لا يتابع أمثال هذه
المجلات -مع شيء من الاختصار:
قالت المجلة تحت عنوان: (محمود شاكر.. منجم الأصالة العربية) :
(شهدت حقبة الثمانينات من هذا القرن اعترافاً متتابع الخطوات، بمكانة
الأديب العربي الكبير محمود محمد شاكر، بدءاً من منحه جائزة الدولة التقديرية في
الأدب عن عام ١٩٨١م ثم اختياره لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة عام ١٩٨٣م، وحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب عام ١٩٨٤م.. بصفته
مفكراً إسلامياً بارزاً.
وقد تألق اسم الأستاذ محمود محمد شاكر في سماء الأدب العربي باعتباره أديباً
شاباً في فترة الثلاثينات والأربعينات من هذا القرن وخاصة بعد صدور كتابه
(المتنبي) الذي نشرته مجلة المقتطف في عدد خاص منها في عام ١٩٣٦م، فضلاً
عن عشرات المقالات، والقصائد الشعرية في مختلف الصحف والمجلات إلى بداية
الخمسينات من هذا القرن، حيث توقف لفترة عن الكتابة لينصرف إلى تحقيق
العديد من أمهات كتب التراث العربي والإسلامي، حتى استفزته بعض الظواهر
الأدبية في بلادنا، فامتشق قلمه في مجلة (الرسالة) من جديد في عام ١٩٦٤م،
وأنشأ سلسلة من المقالات في الرد على ما كتبه لويس عوض في (الأهرام) عن
رسالة الغفران للمعري، وهي المقالات التي جمعها بعد ذلك، الأستاذ شاكر في
واحد من أهم كتبه وعنوانه (أباطيل وأسمار) .
وفي العام الماضي نشر كتاب (الهلال) للأستاذ محمود شاكر (رسالة في
الطريق إلى ثقافتنا) التي أنشأها لتكون مقدمة للطبعة الثالثة من كتابه عن (المتنبي)
وكان لها بدورها دوي هائل في الأوساط الأدبية والثقافية ... ولكن الكتابة
والتحقيق والمعارك الأدبية لم تكن هي كل جهود الأستاذ محمود شاكر في خدمة
الثقافة العربية ففي فترة كمونه في داره بمصر الجديدة معتزلاً الكتابة عاكفاً على
نشر كتب التراث كان بيته قد شرع في التحول إلى (جامعة) يقصدها الدارسون من
مختلف أرجاء الوطن العربي للتتلمذ- على يديه، ولا تزال كذلك إلى اليوم، حتى
استحق وصف المرحوم الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل له بأنه، (كنز الثقافة
العربية، والمنجم الباقي لأصالتها العريقة) [١] .
كانت هذه الكلمة - الصادقة - والتي شكلت صفحة واحدة فقط من صفحات
الهلال والتي تقترب من مئتي صفحة بمثابة شهادة حق في حق الأستاذ محمود شاكر
باعتباره أحد العمالقة في عقد الثمانينات والذي خصص العدد للحديث عنهم..
ومجلة الهلال، والتي أنشئت لمحاربة الأصالة، وتأصيل التبعية، بدأت منذ فترة
ليست قصيرة تفسح المجال لنشر بعض المواد الإيجابية..
وجدير بالذكر أن الأستاذ محمود شاكر حفظه الله كان قد أطلق على (لويس
عوض) في مقالاته بمجلة (الرسالة) (صبي المبشرين أجاكس عوض) ... وإذا كانت المجلة قد أحسنت عندما أشارت إلى سبب عودة الأستاذ شاكر للكتابة في الستينات وذلك: (عندما استفزته بعض الظواهر الأدبية في بلادنا) . فإنها لم تشر إلى الأسباب التي جعلت اسمه يتألق في سماء الأدب، وهو لما يزال أدبياً شاباً، في فترة الثلاثينات والأربعينات.. وما أغفلت المجلة ذكره، هو أعظم دور لعبه الأستاذ محمود شاكر حينذاك، وهو انتصابه بشجاعة لمنازلة عميد الأدب طه حسين عندما افترى على الشعر الجاهلي، مدعياً عدم جاهليته وأنه من صنع المسلمين ليفسروا قرآنهم، وقد فضحه الأستاذ شاكر على الملأ بعد ما أبان بأن هذه المقولة إنما سطا عليها الدكتور طه حسين، وادعاها لنفسه بينما هي في الأصل دعاية استشراقية تولى كبرها المستشرق المشهور مرجليوث.
ثم نازله أخرى، عندما تجرأ الدكتور طه حسين وبوقاحة فريدة، فسطا على
كتاب (المتنبي) الذي أشارت إليه المجلة وأعاد إخراجه باسم (مع المتنبي) .
وقد ذكر كل ذلك الأستاذ شاكر في مقدمة كتابه (المتنبي) بأسلوبه الرائع،
وجدير بكل شاب مسلم غيور أن يقتني هذا الكتاب ويعيد قراءة المقدمة الطويلة،
والتي لو أخرجت لوحدها لكانت كتاباً كاملاً ... ففيها من كشف أساليب أدباء الحداثة
الكثير مما لا زال يمارسه الكثير منهم في ساحة الثقافة العربية..
القضية الثانية: رأي ناقد كبير في أدب الثمانينات:
لعل من أهم المواد التي نشرتها (الهلال) ضمن عددها التذكاري المشار إليه، ... ذلك المقال الذي خصصته للحديث عن (مستقبل الأدب.. في بلاد العرب)
ونظراً لأهمية الموضوع، فقد انتدبت المجلة للكتابة حوله الأستاذ الدكتور: شكري
محمد عياد والذي كتب مقالاً رائعاً، يعد تقويماً جاداً، ومنصفاً للأدب العربي في
الثمانينات، ونظراً لأن المقال قد احتوى على لطائف وطرائف كثيرة كلها جدير
بالقراءة الواعية المتأنية، فقد رأينا أن نختار أهمها ونسلط عليها مزيداً من الأضواء، ونضعها في إطارها الصحيح الذي ينبغي أن توضع فيه.
اللطيفة الأولى:
اعترف الأستاذ الدكتور عياد، بعجزه عن متابعة ما ينشر سواء في مجال
الدراسات الأدبية والنقدية الأكاديمية (رسائل الماجستير والدكتوراه) والتي يقول
عنها (والحمد لله على أن معظمها يبقى محصوراً في طبعته المحدودة، والتي تكفى لحصول أصحابها على الدرجة) ! (أو ما تنشره المجلات الأدبية) الشهرية (أو) الفصلية (من دراسات مبتدئة أو مترجمة أو مقتبسة وأن ذلك ناتج عن ضيق وقته كما قال.
ونحن مع تقديرنا لهذا الاعتراف، إلا أن وجه الشاهد هو فيما قاله بعد ذلك
مباشرة عندما خاطب القارئ بقوله:) وإذا كان ضيق الوقت عذراً غير كاف في
نظرك، فهل يشفع لي عندك، أن ما أقرأه من القسم الأول رسائل الماجستير
والدكتوراه يصيبني عادة (بغثيان شديد) وأن ما أقرأه من القسم الثاني - ما تنشره
المجلات الأدبية الشهرية والفصلية - يجعلني عادة أشعر بالغباء الشديد..) انتهى.
والذي نريد قوله هنا أن رأي الأستاذ الدكتور عياد له أهمية خاصة في تقويم
أدب الثمانينات ويمكن أن ينسحب على الأدب الحديث في العقود الأخيرة، وأغلبه
أدب علماني حداثي، لأنه كلام خبير، فالأستاذ الدكتور كما رأيت معدود في كبار
النقاد المعاصرين وأشهرهم، وله مكانته التي لا تنكر، بدليل أن (الهلال) طلبت
منه أن يكتب لها عن (مستقبل الأدب.. في بلاد العرب) وبالتالي فالرأي السابق
ليس كلاماً لأحد علماء الدين، أو خطباء المساجد حتى يتهم من قبل بعض الأدباء
بالتحيز، أو أنه يسل سيف الإرهاب.. ولكنها الحقيقة المرة التي يجب أن يسلم بها
الأدباء من القوميين والعلمانيين والحداثيين الذي عناهم الأستاذ أن أدبهم يصيب
قارئه (بالغثيان الشديد) ليس ذلك فحسب، ولكنه أيضاً (يشعر بالغباء الشديد)
ولذلك فقد اعتذر الأستاذ الدكتور عن الكتابة عن هذا الأدب الذي يطبع سواء
كرسائل ماجستير أو دكتوراه، أو ما تنشره المجلات الأدبية الشهرية والفصلية قائلا: كيف أكتب إذاً عن شيء لا أقرؤه وإذا قرأته (لا أستسيغه، أو لا أفهمه؟) هل
أكون كعابر الطريق الذي تسأله عن مكان ما، لأنك تفترض فيه العلم، فيصفه لك،
لتتبين بعد أن تكل قدماك ويتصبب عرقك أنه أبعدك عن المكان المقصود أميالاً
كثيرة، وكنت على بعد خطوات منه؟) .
اللطيفة الثانية:
إن أمثال الدكتور الناقد الكبير شكري عياد، (لا يستسيغ ذلك الأدب، ولا
يفهمه) .. والدكتور غير متهم في قدرته على الفهم، ولكنه فعلاً أدب لا يستساغ ولا
يفهم.. وأهمية هذا الكلام أنه يبطل دعوى أدباء الحداثة، والتي يكررونها دائماً
وهي أنهم (لا يكتبون أدباً لا يفهم) وأن العيب ليس فيهم، لكن العيب في القارئ
الذي لا يفهم أدبهم، أو الأصح (مغزى إبداعهم) .. ولأن تلك الدعوى باطلة،
كشف زيفها النقد المحايد والمنصف (والشجاع) ولأن الأستاذ يعرف قدر نفسه،
ويحترمها فهو ليس مستعداً للكتابة عن مثل هذا الأدب، لأن في ذلك تضليلاً للقارئ..
والذي سوغ للأستاذ الدكتور إعلان تقويمه ذاك أنه ناقد محايد ومنصف
وشجاع، وليس من أدباء الطوائف الأدبية، الذين يتعصبون (لإبداع) . الشعراء
والقصاص المنتمين، فيعددون مزايا، ويشيرون إلى نواحي (الجمال والإبداع) فيه، حتى لو كان خالياً من كل جمال، أو إبداع، بل حتى لو كان لا يستساغ، ولا
يفهم، ويثير الغثيان، ولذلك فقد أكد الأستاذ عياد حقيقة مهمة في نهاية كلامه السابق
هي أن ما ينشر في هذه المجلات (ليس الأنضج فنياً، أو الأصدق تعبيراً عن زمنه) ؟ !
اللطيفة الثالثة:
فإن سؤالاً يفرض نفسه هنا، هل كل ذلك هو الأدب العربي في الثمانينات،
أم أن هناك نوعاً آخر من الأدب، هو أنضج فناً، وأصدق تعبيراً عن زمنه، ولكنه
يتجاهل ويُعزل عن الجماهير، لأن الطائفية الأدبية المتربعة على عرش الصحافة
ووسائل الإعلام في دنيا العروبة تضرب حوله أستاراً من التعتيم والحصار حتى
تخنقه، فلا يعرفه أحد.. وللإجابة على هذا السؤال والذي لا يقل أهمية عما سبقه،
نصحبك عزيزي القارئ معنا في رحلة قصيرة جداً لنقرأ معاً هذه الفقرات الثلاث
المختارة من مقال الدكتور عياد السابق:
١ - قال الأستاذ وهو يتحدث عن الموقف السلبي الذي تلعبه الصحافة سواء
اليومية أو الأسبوعية في بلادنا العربية والتي يفترض فيها كما يرى الدكتور أن:
(تقوم بدور الوسيط بين الكتاب والمجلات الأدبية والعلمية المتخصصة، من ناحية،
وبين وسائل الإعلام الجماهيرية المسموعة والمرئية من ناحية أخرى.. وهذا ما
يلاحظ - وما زال الكلام للدكتور- في صحافة البلدان المتقدمة ونفتقده في صحافتنا)
ثم يقول: (وهكذا تسهم صحافتنا بموقفها السلبي من (الثقافة الراقية) في تدني المادة
الثقافية التي تقدمها الإذاعة والتلفزيون على الخصوص بل وتشترك معهما في التدني
(ثم يقول مباشرة:) أما (الأدب) فيبقى معزولاً عن الجماهير، ومن ثم تتكون له
في بلادنا العربية المنكوبة بالطائفية طائفية أخرى من نوع عجيب (طائفية ...
الأدباء..) .
٢ - وأما عن دور الطائفية الأدبية في إفساد الأدب والأدباء خاصة الشبان
منهم، قال: (فالطائفية الأدبية هي المسئولة في تقديري عن رواج النزعات الشكلية بين الأدباء الشبان، إن لغة (القصة الحديثة) هي أشبه باللغات السرية التي تتفاهم بها فئة من الناس تريد أن تخلق لنفسها عالماً خاصاً منعزلاً عن عالم الناس، وكثيراً م ايكون هذا العالم الخاص (بريئاً وساذجاً، ليس فيه أكثر من الانفلات من العالم المادي البشع.. ولكن الطائفية الأدبية في أحيان أخرى توجه لخدمة طائفية أخرى زرقاء الناب تقطر سمها رويداً، رويداً، لتحول الشباب المتحمس للحداثة إلى خونة وجواسيس) .
٣-هناك تحالف بين النزعات الشكلية في الأدب، وبين طائفة النقاد، في
نفس الوقت الذي يتجاهل فيه الإبداع الحقيقي.. قال: (والنزعات الشكلية عند
بعض المبدعين تحظى بالعناية كلها من طائفة النقاد المخصصين، إذاً لا (تباعد)
هنا، بل تحالف وثيق! ! ولكنه تحالف يتم على حساب الإبداع الذي يجري في
حضن المجتمع، فهذا الإبداع يتجاهل حتى حين يأتي من قبل أدباء استطاعوا أن
يرسخوا أقدامهم، ويدعموا شهرتهم في أدوار سابقة والإغراء قوي، إنه إغراء
(العلمية) من ناحية و (العالمية من ناحية أخرى) ..
وقد وضح للقارئ - أو لعله قد أدرك أي نوع من الأدب هذا الذي يُتجاهل
ويُعزل عن الجماهير وتقف منه الصحافة الطائفية موقفاً سلبياً فلا تسمح بنشره، إنه
الذي وصفه الدكتور (بالثقافة الراقية) .
ووصفه أيضاً بالأدب هكذا معرفاً في قوله: (أما الأدب فيبقى معزولاً عن
الجماهير) .
ووصفه ثالثاً: بالإبداع الحقيقي في الفقرة الثالثة عندما قال: (بأن النزعات
الشكلية تحظى بالعناية من النقاد، بل بينهما تحالف ولكنه يتم على حساب الإبداع
الذي يجري في حضن المجتمع، فهذا الإبداع يُتجاهل حتى وإن جاء من قبل أدباء
كبار مشهورين ولهم مكانتهم، ولكنه ما دام يناقض أدب الحداثة أو أدب الطائفية فلا
يسمح بنشره، وستمنع الجماهير من معرفته.
فهل يصح لنا أن ندّعي بأن الدكتور عياد يريد بكل ذلك: الأدب الحق، لا
المزيف، أدب الفضيلة لا الرذيلة، الأدب الأصيل لا المستورد، الذي يجلب
السعادة، لا الذي يثير الغثيان، والاشمئزاز، الأدب الذي يحاربه الحداثيون،
وأدباء الطوائف، وتتجاهله الصحافة المدفوعة الحساب من خارج الحدود أو من
داخلها ولكن بإيعاز وتوجيه من الخارج..
نظن أننا قد وضعنا النقاط على الحروف، وأشرنا إلى الحقيقة بوضوح، أما
الأستاذ الدكتور، فقد أشار إشارات هنا وهناك ووضع ما يقصده بين كلام كثير،
واكتفى بالتلميح دون التصريح وهو معذور لأنه كان يقفز على الأشواك.. ولذلك
فقد كان نبيهاً جداً عندما كتب مقالته تلك تحت عنوان صغير (القفز على الأشواك)
(١) الهلال، ديسمبر ٨٩ م، ص١٣.