في إشراقة آية
[ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون] [*]
بقلم: د.عبد الكريم بكار
في هذه الآية الكريمة إخبار عن قاعدة من قواعد الخلق، وناموس من نواميس
الوجود؛ وهي في الوقت نفسه: دليل على أن القرآن من عند اللطيف الخبير الذي
أحاط بكل شيء علماً.
إن المعرفة والتقدم العلمي الذي كان متوفراً في زمان النبي -صلى الله عليه
وسلم- لايمكِّن على أي نحو من الكشف عن قاعدة (الزوجية) في الوجود، بل إن ما
كان في حوزة الناس آنذاك من استقراء واطلاع لم يكن كافياً للكشف عن ظاهرة
(الزوجية) في (الأحياء) فضلاً عن ميادين الوجود المختلفة، وإن الكشوفات الكونية
المتسارعة؛ تميط اللثام في كل يوم عن أشكال من التزاوج والاقتران والارتباط في
ميادين الحياة كافة، وعلى مستويات مختلفة، ابتداءً بالذرة، وانتهاءً بالمجرة؛ مما
يُضيف شواهد جديدة على صدق محمد -صلى الله عليه وسلم-.
ولنا مع هذه الآيات وقفات عدة، نوضحها في الحروف الصغيرة الآتية:
١- إن فَطْر الله (جل وعلا) للكون على المزاوجة دليل إضافي على المغايرة
بين المخلوق والخالق المتفرد في ذاته وصفاته وأفعاله؛ حيث إن ما يترسخ في
الخبرة البشرية على الدوام من أن الخلق واحد، ويخضع لقوانين واحدة، وتحكم
حركتَه ونموه وانهياره قواعدُ واحدة.. إن كل ذلك يدل على توحد الخالق (جل
ثناؤه) الذي أوجد كل ذلك التنظيم الدقيق المعجز.
وفي ختم الآية بقوله [لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] إشارة واضحة إلى هذا المعنى، حيث
يدرك الناس تفرد الخالق وأَحَديته من خلال ما يشاهدون من ظواهر تزاوج الأشياء
وتركيبها، وارتباطاتها، وتوازناتها على نحو يستحيل معه العبث، والارتجال والمصادفة.
وكأن في الآية بعد هذا وذاك إيحاءً إلى أهمية استثمار المعرفة بسنن الله في
الخلق في غرس الإيمان وتقويته، والارتقاء في إدراك واجبات العبودية وآدابها.
٢- إن ظاهرة الزوجية ليست دليلاً على وحدانية الخالق (جل وعلا) فحسب،
وإنما هي دليل على نقص المخلوقات وافتقارها لغيرها، حيث لا تتحدد معاني
الأشياء وقيمها الحقيقية من خلال ذواتها، وإنما من خلال كونها أجزاءً في تركيبات
أعم، وفي هذا الصدد فإنه يمكن القول: إنه عند تدقيق النظر لا يخلو شيء عن
تركيب! .
لولا معرفة الناس بالقبح لما كان للجمال أي معنى أو قيمة إضافية؛ ولذا قالوا: إن للشوهاء فضلاً على الحسناء؛ إذ لولاها لما عُرف فضل الحسناء.
ما فضل التنظيم لولا الفوضى، والذكاء لولا الغباء، والغنى لولا الفقر،
والفضيلة لولا الرذيلة، والنهار لولا الليل، والحلو لولا المر ... أشياء لا حصر لها، ولا تستمد قوامها من ذاتها، وإنما من خلال غيرها! !
وهكذا: فالخلق، وما يَتَغَنّوْنَ به من خصائص فقراء فقراً مزدوجاً، فقراً إلى
الخالق الموجد، وفقراً إلى مخلوق آخر، يجعل له معنى!
ومن وجه آخر: فإن طبيعة العلاقة الزوجية تميل إلى المرونة، وذات أوساط
متدرجة؛ فالغنى درجات، وكذلك الفقر، وقل نحو ذلك في الذكاء والغباء،
والجمال والقبح، والاستقامة والانحراف ... حيث تلامس أدنى درجات الأول أعلى
درجات الثاني؛ مما يشكِّل مناطق برزخية متأرجحة، هذه الوظيفة للعلاقات
الزوجية تكسر من حدة تفرد كل طرف، وتجعل الخصائص الفائقة نسبية، فتتطامن، وجوانب النقص اعتبارية، فتشمخ، وكأنها بذلك تتهيأ للتعاون والاندماج عوضاً
عن التنافس والصدام.
وكأن ذلك يوحي إلينا بإيجاد الأرضيات المشتركة، والعدول عن النفخ في
الخصوصيات الاجتهادية الذي يحولها إلى حواجز منيعة وقواطع حقيقية بين أبناء
التيار الواحد، والأمة الواحدة! ، وهكذا: فإذا كنا عاجزين عن أن نستشف من
النصوص ما يساعدنا على صياغة علاقات ومواقف جيدة ومنتجة.. فإن علينا أن
نتعلم من إيحاءات السنن الكونية ما نُصلح به حياتنا الاجتماعية، وعلاقاتنا الأخوية؛ حيث إننا في نهاية الأمر جزء من الظاهرة الكونية الكبرى.
٣- الإخصاب أوضح نتائج التزاوج بين الأشياء، وهو أوضح ما يكون في
التقاء الأزواج من الإنسان والحيوان؛ فمن خلال لقاء الزوجين يتم حفظ النوع
وإعتاؤه بنسل على درجة كبيرة من التنوع والتعدد.
ولا يقلّ الإخصاب في الأشياء المعنوية والمادية عنه في الكائنات الحية؛ فمن
عناصر الأرض التي لا تزيد عن المئة إلا قليلاً يوجد بين أيدي الناس اليوم ما يزيد
على مليونين من المصنوعات! ، وعلى الرغم من صرامة القوانين والخصائص
الكيميائية يوجد في الأسواق ما يزيد على ثمانين ألف نوع من المركبات الكيميائية،
كما أنه يطرح منها في الأسواق كلّ عام أكثر من ألفي نوع جديد! .
هذه الخصوبة الهائلة هي نتيجة مباشرة لألوان التزاوج التي تتم بين العناصر
المختلفة.
ومما لا ينبغي أن يعزب عن البال أن اللقاء السعيد بين العناصر المختلفة
يجب أن يتسم بالمزيد من العناية والدقة والتجربة، إذا ما أردنا إنجاباً وخصوبة
على مستوى عالٍ من الجودة؛ ولهذا السبب أخذ التقدم في علوم الكيمياء يعتمد على
الرياضيات أكثر فأكثر، وقد كان من قبل يعتمد على التجربة، حيث تمنح
الرياضيات مستويات من الدقة، لا توفرها التجربة.
وقد أصبح من مقاييس التقدم العلمي الشائعة: قدرة دولة من الدول على إنتاج
(المواد الجديدة) ذات المواصفات الفائقة، والمواد الجديدة لا تتخلق إلا من خلال
التزاوج بين عناصر لم يسبق لقاؤها على النحو الجديد، وبالنسب الجديدة.
اللقاء بين الأفكار والثقافات لا يقل خصوبة عن اللقاء بين العناصر الطبيعية،
وهو الآخر يحتاج حاجة ماسّة إلى وعي وفطنة وحذق، حتى يكون منجباً، والقاعدة
في هذا: أنه إذا التقت فكرتان ضمن شروط إيجابية، فإنه ينتج عن ذلك اللقاء فكرة
ثالثة، هي أرقى منهما جميعاً؛ حيث تؤدي المزاوجة بينهما إلى نضج وتبلور كل
منهما، وحيث يتخلص كل منهما من أجزائه المعطوبة من خلال المقارنة ونمو
الوعي النقدي، لكن ذلك لا يتم إلا إذا اتّسم حاملو الفكرتين بالكثير من الموضوعية
والشفافية والهدوء والمرونة الذهنية والرؤية المركبة، ونحن نلاحظ في هذا السياق
أن أكثر من يذهب من إخواننا للدراسة في الغرب ينقسمون إلى فريقين:
فريق يُفتَتَن بما يراه هناك من تنظيم وتقدم صناعي ورعاية لحقوق الإنسان،
فيشغله ذلك عن إدراك بذور الانهيار في تلك المجتمعات، وجوانب التخلف فيها،
ويؤدي ذلك به إلى الزهادة فيما لديه، والاستحياء من طرحه على مسامع القوم.
أما الفريق الثاني: فإنه بِداعٍ من الكبر أو الخوف ينغلق على نفسه، ويتتبع
بجدية نادرة كل الجوانب السلبية لديهم، لكنه يعجز عن تلمس أسرار النهوض
والخيوط الدقيقة التي تمد التقدم المادي الهائل الذي أحرزوه بالحيوية والاستمرار.
ويعود هذا الصنف في العادة بنُتَف من المعلومات والمقولات والخبرات التي
لا تتكافأ أبداً مع الجهد والمال اللذين بُذلا خلال سنوات عدة، ولا يلامس هذا
الصنف أبداً آفاق المنهجية الفكرية والتنظيمية والأخلاقية والثقافية التي تقف خلف
(الحضارة الغربية) ، فكأنه ما سافر ولا اطلع ولا تعلم!
إن احتكاك الثقافات والأفكار والمناهج المختلفة قديكون عامل انحسار وهدم
وتمزيق، وقد يكون عامل إثراء وتصحيح وتطوير، والمهم في ذلك أبداً هو شروط
ذلك الاحتكاك والخلفيات، والأسس التي يقوم عليها.. إن العزلة والانغلاق لا
يكونان أبداً خياراً جيداً إلا إذا كانت شروط التزاوج سيئة وغير متكافئة، وإذا ما
استطعنا توفير الشروط الجيدة لذلك فإن في تلاقح الأفكار والثقافات من عوامل
التجديد والنفع والغنى ما لا يمكن التعبير عنه! .
٤- إن قاعدة اللقاء في ظاهرة الزوجية الكونية هي التخالف، وليست التوافق، فاللقاء الخصب المنجب يجب أن يتم بين متخالفين ومتباينين، ومن ثم: فإن
العلاقة بين الرجل والمرأة تقوم على التخالف، على المستويات العضوية والعقلية
والنفسية، وهذا التخالف هو الشرط الأساس لوجود ظاهرة (التكامل) والتعاون،
حيث يظهر لكل واحد من الزوجين: أن كمال البنية المشتركة بينهما وهو الأسرة لا
يأتي من أيٍّ منهما على انفراد، وإنما من خلال اللقاء الإيجابي بينهما، وتكميل
أحدهما للآخر.
ليس إدراك التكامل في ظاهرة الزوجية في الخلق متيسرَ الإدراك واللمس في
كل وقت؛ إذ كثيراً ما تتغلب علينا النظرة الأحادية، فنتعامل مع الأشياء على أنها
عناصر مفردة، ونغفل عن كونها عناصر في تراكيب أعم!
ولنضرب لذلك بعض الأمثلة:
أ - إن تضخم الجانب العاطفي لدى المرأة على النحو المعروف يُنظر إليه
عادة على أنه الحلقة الأضعف في تركيبها النفسي، كما أننا ننظر النظرة نفسها إلى
ما نحسّه من تضخم (عقلانية) الرجل وبرودة عواطفه.
فإذا نظرنا إلى كل منهما على أنه طرف في تركيب واحد هو الأسرة أدركنا
أن ما خلناه نقصاً هو في الحقيقة مظهر كمال، وعامل توازن وانسجام، إذ إن
طبيعة وظيفة المرأة في رعاية الأطفال ذوي الشفافية والرهافة المطلقة.. تتطلب
مشاعر وعواطف كالتي عند المرأة، وطبيعة وظيفة الرجل في قيادة الأسرة،
ومعاناة طلب الرزق، وخوض المواقف الصعبة.. تتطلب من قوة الشكيمة وتماسك
الشخصية كالذي نجده عند الرجل.
إن دعاة تحرير المرأة لم ينظروا هذه النظرة، فدفعوها إلى المطالبة بالمساواة
مع الرجل، وأدى ذلك إلى الإخلال بالتوازن الأسري، وكثرت حوادث الطلاق،
وكُلِّفت المرأة بالقيام بأعمال لا يتحملها تكوينها ولا جملتها العصبيّة، والأخطر من
ذلك: انتشار مظاهر الشذوذ واستغناء النساء بالنساء! !
ب- إننا كثيراً ما نصوِّر (القلق) على أنه مرض نفسي، وهو كذلك عندما
يتجاوز حدوداً معيّنة، لكن حين نتذكر أن الطمأنينة كثيراً ما تكون زائفة ومبنية
على معطيات موهومة، وهي حينئذ أخطر من القلق وأشد فتكاً بوجود الإنسان،
ولذا: فإن بعض صور القلق ولا سيما (القلق المعرفي) تكون ضرورية لتوازن
الشخصية، وللوعي بالمصير وتدارك الأخطار قبل فوات الأوان.
ج- إذا نظرنا نظرة أحادية إلى ثبات المبادئ والتشبث الشديد بها، فسوف
نراه جموداً وعائقاً في سبيل التطور، وربما دفع ذلك ببعض الناس إلى التفريط بها
أو إلى الثورة عليها.
وإذا نظرنا إلى (التطور) على أنه مجموعة من التغيرات المستقلة، فسوف
نراه (تفلتاً) وطيشاً وخيانة للأصالة ...
ولكن حين نسلك كلاً من الثبات والتطور في ظاهرة (الزوجية) الكونية،
فسوف يتبين لنا أن ثبات الأصول والمبادئ والنواميس ليس جموداً ولا عائقاً للتغير
المطلوب، وإنما هو سمة أساسية لطبيعتها؛ إذ لا يستطيع المبدأ أداء وظيفته إلا من
خلال ثبوته واستمراره، كما أننا سنجد أن جمود المبادئ شرط أساس لجعل التطور
ذا معنى، ولإبقائه تحت السيطرة، وفي الاتجاه الصحيح.
والتطور في الأدوات والأساليب والخطط والأشكال ليس تفلتاً، بل إنه
ضروري للمحافظة على المبدأ والجوهر والهدف؛ إذ إن صروف الأيام والليالي
تعطب بعض جوانب المناهج والخطط والأشياء، وليس هناك حلّ لذلك سوى
التخلي عن الأجزاء المعطوبة، وإحلال غيرها محلها.
وإن تحويل الأشياء إلى بنًي ثبوتية في سياق وسط مائج بالتغير والتطور لا
يعني سوى التضحية بالأصل والفرع، والجوهر والمظهر، والمبدأ والوسيلة ...
وهكذا: فما يُظن نقصاً في بعض الأشياء يتحول إلى ضرب من ضروب الكمال إذا
ما نظرنا إليه على أنه جزء من كل، وعنصر في تركيب أشمل.
٥- خَلَق الله (جل ثناؤه) الدنيا داراً للابتلاء، فوفّر فيها كلّ شروط الابتلاء،
ومن ثم: فإنه حيث يكون أمام المرء مجال للاختيار، يكون في الحقيقة منغمساً في
حالة ابتلاء، سواء أأخذ بأحد الخيارات، أو ظل عاطلاً عن اتخاذ قرار.
كثيراً ما تتيح ظاهرة (الزوجية) مجالات للاختيار والابتلاء، وكثيراً ما يجد
الإنسان نفسه مأموراً بالتوازن الدقيق في التعامل مع الظواهر الزوجية؛ لأن
الإخلال به يعني خروجاً عن المنهج الرباني، وقد يعني ظلماً للنفس أو تفويت
مصلحة كبرى.
وحتى يكون الابتلاء تامّاً، فإن الله (جل وعلا) قد فطر الإنسان على قابلية
قوية للانجذاب نحو أحد المتقابلات وإهمال غيره؛ مما يجعلني أذهب إلى أن
الإخلال بالتوازن المطلوب في هذه المسألة، يكاد يكون أصلاً!
ومن هنا: فإن الموقف الصحيح كثيراً ما يتطلب نوعاً عالياً من اليقظة
الفكرية والشعورية، وإلا: فما أسهل الانحراف إلى طرف على حساب طرف آخر!
عند تقليب النظر في واقعنا التاريخي، وواقعنا المعيش، نجد أن عدم إقامة
التوازن بين الأشياء المتزاوجة كان سبباً لانحرافات كثيرة، إذ كثيراً ما نرى جماعة
تهتم بالفكر والتنظير ورسم الخطط والتحليل السياسي، لكنها تهمل جانب الروح
والأخلاق، وجانب السلوك؛ مما جعلها فقيرة في جنود التنفيذ وأرباب الهمم العالية، وجعلها بالتالي قليلة العطاء والتضحية! .. ونجد في المقابل: جماعات تركز
على مسائل صفاء القلوب وحسن السلوك، لكنك لا تجد عندها أدنى وعي بأدب
الوقت ومتطلبات العصر، وقد يكون عدد أتباعها عشرات الألوف، ثم إنك لا تعثر
فيهم على مفكر واحد مرموق! ، وكثيراً ما يقودها ذلك إلى أن تكون ألعوبة في يد
القوى المتنفذة، مما يدفعها إلى حتفها ويجعل ضررها لا يقل عن نفعها! .
في الماضي البعيد قامت مزاوجة في بنية التربية والتعليم بين علوم الشريعة
والعلوم الحياتية والكونية، وقد أنجب ذلك الاقتران حضارة إسلامية زاهية باهرة،
ثم أخذت علوم الحياة تنسحب من المناهج والحلق الدراسية شيئاً فشيئاً، حتى جهلت
الأمة أبجديات المعرفة في الطبيعة والكون والصناعة، ووصلت إلى الحضيض،
واليوم ترتكب الأمة الخطأ نفسه على نحو معكوس، حيث تَرَاجع نصيب العلوم
الشرعية في المناهج الدراسية في أكثر البلدان الإسلامية، كما تراجعت المفردات
القيمية والأخلاقية في لغة التربية والإعلام، وكان حصاد ذلك: أعداداً كبيرة من
البشر تحيط بالكثير من المعارف المختلفة، لكنها تجهل بدهيات وأساسيات في
عباداتها ومعاملاتها! ، وصار لدينا اليوم كمّ هائل من المفردات التي تحث على
النشاط والفاعلية والنجاح والتنظيم وحيازة الثروة وتحقيق الذات.. على حين
تنوسيت المفردات التي تغرس أخلاق الصلاح والاستقامة والبعد عن الحرام،
والإقبال على الآخرة.. ولا بد أن الناس بدؤوا يشعرون بعواقب هذا الخلل من
خلال انتشار اللصوصية وهي أصناف، والرشوة، والشره المادي، والأنانية،
والانغماس في الشهوات، وقطع الأرحام، ونسيان الله والدار الآخرة.
٦- إذا كانت (الزوجية) تمثل قاعدة مهمة من قواعد خلق الوجود، فإن ذلك
يعني أن ننسجم نحن مع تلك القاعدة، ونحاول أن نمتلك رؤية مركّبة للأشياء، ما
دام ليس هناك شيء لا ينتمي إلى مركبٍ ما على وجه من الوجوه.
وامتلاك هذه الرؤية سيكون ضروريّاً للمحافظة على توازننا العقلي والنفسي،
وضروريّاً لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وعلى سبيل المثال: فإنه مهما بلغ
صلاح الأفراد والجماعات، فلا ينبغي أن نفسر ما نراه لهم من تصرفات على
أساس المبادئ وحدها، فهناك مبادئ، وهناك مصالح أيضاً، وليس في هذه
الأرض من يستطيع النفض عن مصالحه على نحو كامل.
وفي مقابل هذا: فإن السواد الأعظم يحاولون تحقيق مصالحهم في إطار
المبادئ التي يؤمنون بها، ما وجدوا أن ذلك ممكن، وبما أن المبادئ والمصالح
طرفان في تركيب زوجي واحد، فإن احتمال جور الإنسان على أحدهما لحساب
الآخر، يظل أمراً وارداً، بل يكون في كثير من الأحيان أمراً لا مفر منه، ولست
أقصد من وراء هذا شيئاً سوى الاستبصار في فهم سلوك الناس، وفهم خلفياته،
ومحاولة تفسيره على أنه يتم وفق موازنات، وفي سياق ضرورات وطموحات،
وتحت ضغوط وأحياناً تهديدات، وهذا مهم في الاقتداء والإعذار وأمور أخرى..
الرؤية المركبة تجعلنا نبصر القصور الذاتي إلى جانب التآمر الخارجي،
وإعطاء كلٍّ منهما وزنه وتأثيره الحقيقي، كما أنها تجعلنا نشعر بنعمة الرخاء
وفيوض النعم إلى جانب الإحساس بالحساب والسؤال عنها يوم القيامة.
بالرؤية المركبة ندرك الصبر وعواقبه، والظلم ومآلاته، وبذلك يتم لنا توسيع
مجال الرؤية؛ لنقف على طرفي الموازنة وعنصري المزاوجة، وبذلك نجسِّر
العلاقة بين الأطراف المتنافسة والمتحالفة، ونحاول أن نرى الأرضية المشتركة
التي تجمع بينها.
(*) الآية: ٤٩ من سورة الذاريات.