للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منتدى القراء

والناس في أوهامهم سجناء

بقلم: طارق عبد الفتاح السيد

لا شك أن العقيدة التي يحملها الإنسان في صدره ذات أثر كبير في سلوكه،

بل نستطيع أن نقول: إن سلوك الإنسان العملي في حياته ومواقفه تجاه الأحداث

التي تواجهه في رحلة الحياة ما هي إلا ترجمة حية لما يحمل بين حنايا قلبه من

عقيدة، وما ينطوي عليه فؤاده من مبادئ وقيم، وقديماً قالوا: إن الإناء ينضح بما

فيه.

وهذه بدهية مسلّمة لا يشذ عنها أحد؛ إلا المنافقون الذين يعانون من (انفصام)

بين ما يحملون ويعتقدون من عقائد وما يسلكون في الحياة من مواقف، ولذلك فهم

أتعس الناس في الدنيا وأشقى الناس في الآخرة.

والوهم ضرب من العقيدة بهذا الاعتبار؛ فإن الإنسان إذا توهم أمراً في أي

شأن من شؤون حياته دفعه ذلك (الوهم) لاتخاذ مواقف معينة وسلوك محدد يتفق

نصّاً وروحاً مع ما يمليه عليه هذا الوهم؛ فقد صار الوهم بالنسبة له عقيدة يعتقدها

ولو لفترة مؤقتة، وأظنك توافقني إذا قلت: إن خطر الوهم لا يكمن في أنه عقيدة،

بل لأنه اعتقاد فاسد قد يجر صاحبه وحامله إلى المهالك في الدنيا قبل الآخرة؛ فكم

ضيّع الوهم من فرص سانحة! وكم بددت الأوهام من طاقات وشتتت من جهود،

فأنت قد تخسر صديقاً وفياً يندر في هذا الزمن لأنك توهمت فيه الخسة والخيانة ولم

تحسن تفسير سلوكه. والآن أسمح لنفسي بالقول: (إن الوهم اعتقاد فاسد بسبب

تصور خاطئ أو تقدير غير دقيق) .

وإذا كان خطر الأوهام على عامة الناس كبيراً فإن خطرها وضررها على

أصحاب المبادئ والقيم وحملة الرسالات ورافعي لواء الحق والهدى والإصلاح،

أقول: إن خطرها على هؤلاء أشد وأعظم؛ وما ذلك إلا لأن هؤلاء القوم هم الرواد

الحقيقيون لأمتهم وبلادهم نحو الفلاح والرشاد، إنهم الشموع التي تحترق لتضيء

للناس الطريق، وإلا فقل لي بربك: من الذي سيوقظ الأمة من غفلتها؟ ومن الذي

سيساعدها على النهوض من كبوتها؟ ومن الذي سيحذرها من سهام مسمومة

تُصَوّب إليها من كل حدب وصوب وفي كل وقت وحين؟ ومن..؟ ومن ... ؟

أسئلة كثيرة لن يجد أي منصف نفسه إلا قائلاً: إنهم هم بإذن الله ومشيئته وتوفيقه،

وعند هذه النقطة أراني وإياك نستشعر حجم الخطر الذي سيقع لو تسلل الوهم إلى

نفوس هؤلاء، إنه (خطر متعد) لن يقتصر ضرره عليهم بل سيتعداهم إلى الأمة

كلها من ورائهم التي ستحرم من الخير والهدى الذي يحملونه وإليه يدعون، نعم

ستحرم الأمة من الحياة الكريمة التي يدعو هؤلاء الأفاضل إليها تحت مظلة منهج

الله وشرعه.

إن أثر هؤلاء في أقوامهم وشعوبهم لا يقل إطلاقاً عن أثر المطر الذي ينزل

على الأرض الموات التي يأذن الله لها بالإنبات.

وفي ميزان النهوض بالأمم قد لا يؤثر كثيراً أن يصاب ألف من الكسالى

والنائمين بالشلل فيعتزلوا الحياة؛ في الوقت الذي يُعدّ فيه من النكبات أن يتعطل

فقط عامل جاد نشيط مفكر، ومن أخطر الأمور أن يكون هذا العطل والتعويق

بسبب وَهْم مقيت قد يكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير.

لذا: فمن مقتضيات الحزم وشارات الفلاح أن نبادر لمعالجة أي خلل يعتري

نفسية هذه الكوكبة من حُدَاة الطريق ودعاة الإيمان، وإلا فسنجد أنفسنا مضطرين

إلى أن نردد مع شوقي: (والناس في أوهامهم سجناء) بل نزيد: (وفي مبادئهم

أيضاً) .