للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[العراق الحرب الأهلية مأساة لكنها ليست مفاجأة!]

ربيع الحافظ (*)

هل يطلق على ما يحدث في العراق حرباً أهلية؟ هل في ذلك مفاجأة للعراقيين؟ متى يدخل مصطلح «الحرب الأهلية في العراق» في قاموس الإعلام العربي لوصف ظاهرة قتل ألف شخص في الشهر الواحد في مدينة بغداد وحدها؟

يبدو أن هذه التساؤلات ستأخذ بعض الوقت قبل أن تجد إجابات واثقة. القضية الأخرى، هي أنه لم يتبقَّ ما يمكن إضافته إلى ما لاكته ألْسُنُ النقاد والمحللين السياسيين على مدى ثلاثة أعوام، وهم يحاولون دون جدوى وضع بضعة نقاط على حروف خرساء في عناوين تاريخية كبيرة صامتة.

تبدو الذاكرة الجماعية للشعوب أقصر الطرق إلى الإجابات الواثقة. فلا زالت الأمهات والزوجات العراقيات يذكرن ويردّدن الروايات التي كان يعود بها أبناؤهم وأزواجهم المعتقلون في إيران إبّان الحرب، ومعاناة الأسير، السنّي على وجه التحديد، في معسكرات الأسر، وبرامج التعذيب المنظم لانتزاع الاعترافات والبوح بمعلومات حساسة عن وطنهم، وعن أسماء العلماء والقادة العسكريين، وإرغام «المشاكسين» منهم على السير فوق حقول الألغام، أو ربط الأرجل بسيارتين تسيران باتجاهين متعاكسين.

في هذه المعسكرات كان يضطر الأسرى إلى طمس الهوية المذهبية، وإخفاء أسماء عمر ومروان وعثمان، والتحدث بلهجة تبعد الدلالة عن المدينة أو القرية التي ينتمي إليها، ويخضعون إلى برامج التشييع القسرية.

ليس لدى العراقيين شك في أن الصدور المتقيحة بالطائفية والشعوبية كانت الدافع وراء الجرائم التي كانت ترتكب على أرض إيران، وأن الفاعل كان فيلق بدر، التابع لما يسمى «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» ، الذي أسسته وموّلته وسلّحته إيران، ومرشده الروحي عزيز الحكيم الطباطبائي، الفارسي النسب، وحفيد المير علي بن مراد بن شاه، الطبيب الخاص للشاه عباس الكبير الصفوي، الذي غزا بغداد في عام ١٦٢٣ وحوَّلها إلى حَمَّام دم، ووزّع دفاتر لتقييد أسماء أهل السنَّة في بغداد بقصد قتلهم جميعاً، وجعل من جامع أبي حنيفة إسطبلاً لخيوله.

هذا ما تقوله لنا ذاكرة العراقيين. السؤال: أين وجه المفاجأة فيما يحدث اليوم؟

في ٩ أبريل ٢٠٠٣ عَبَرَ فيلق بدر الحدود الإيرانية إلى داخل الأراضي العراقية، واستبدلت عناصره لباسها ببزات نقش على أكمامها رمز (IP) ، التي تعني الشرطة العراقية، وزودت الحكومةُ الجديدة الفيلق سيارات تحمل شعار «وزارة الداخلية» ، وأصبح قائد الفيلق الإيراني الأصل، والمنتحل نسباً عربياً، نائباً عن الشعب في المجلس الوطني.

أصبح فيلق بدر مرة أخرى وجهاً لوجه مع ضحاياه السابقين، ومع الآخرين الذين لم يقعوا في الأسر، ومع الطيارين الذين حجبوا بطائراتهم الشمس في سماء قُمْ وطهران، ومع العقول التي أنشأت التصنيع العسكري، وصنعت الصواريخ وأبدعت، والذين انتزعت أسماؤهم في معسكرات تحت التعذيب، وحُفظت في دفاتر لمثل هذا اليوم.

- ماذا عسى أن يحدث؟

عادت عناصر فيلق بدر لتستأنف المعركة التي ابتدأتها على أرض إيران، وبأيديهم دفاتر الأسماء، يدورون بها كساعي البريد على المنازل، ويبثون الرعب في ساعات منع التجول، وينقضُّون على العلماء والمهندسين ونسور الجو وهم رابضون على الأرض.

أجواء معتقلات الأسرى انتقلت إلى بغداد، وفي بغداد اليوم مناشير توزع تحت عنوان: «تظاهر بالتشيع لتنجو من الخطف والتعذيب والقتل» ، ترشد العربي السني إلى كيفية إخفاء هويته ومذهبه، واستعارة أسماء تدفع الشبهة المذهبية، وتعلّمه ألفاظ سبّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وبني أمية المعتمدة عند الصفويين، وشيئاً من الطقوس الشيعية، والاحتفاظ في داره بعلم أسود، اتقاءً من أذى الميليشيات الطائفية، ونجاة بنفسه من الخطف والقتل.

شعوبية الميليشيات الطائفية ليست محلية، وسيسجل التاريخ أن مخيمات الفلسطينيين في الحقبة الصفوية من تاريخ شعوبنا لم تعد على حدود فلسطين، بل على أطراف بغداد الصفويين (عذراً بغداد فأنتِ العربيةُ المسلمةُ أبداً) ، يسامون العذاب بالنيابة عن الجار الصهيوني الجديد، ليس بعيداً عن بابل التي نجت من الدمار المغولي ولم تنج اليوم، والتي كان نبأ تدميرها حبة مهدئة للذاكرة اليهودية المتوترة من الخطر الشرقي.

ما يذوقه فلسطينيو العراق ذاقه قبلهم المهجَّرون من أصول فارسية، الذين أبعدهم العراق قبل الحرب مع إيران. لم ينسَ أولئك سوء المعاملة التي قابلتهم بها إيران، ولم يشفع لهم نسبهم الفارسي وحقيقة أنهم شيعة، وكان لسانهم العربي وتلوُّث دمائهم الفارسية بالدماء العربية من خلال المصاهرات، المعصية التي جعلت منهم عرقاً محتقراً، وأخرجتهم من الفردوس الفارسي. وكانت غربة وكآبة منافي أسكندنافيا أهون على أنفسهم من التمييز العرقي الذي لاقوه من «ذوي القربى» .

عودة ثانية إلى الذاكرة الجماعية: ما فعله الإيرانيون ووكلاؤهم المحليون بعد أحداث سامراء، وحرقهم المساجد، والقتل العشوائي للعزّل من السنة، كانوا قد فعلوا مثله إبّان ما يسمى بالانتفاضة الشعبانية، التي اندلعت بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩١، يوم أن اندفع عشرات الألوف من الحرس الثوري الإيراني و «إطِّلاعات» (المخابرات الإيرانية) إلى المدن العراقية، وعلت استغاثات الناس من هول المذابح على أساس المذهب واللهجة ولون البشرة.

تفادي مفاجآت إيران المتعبة ليس أمراً متعباً؛ إنه قراءة إيران، وقراءة نظامها السياسي الذي أتى به انقلاب ١٥٠٠م القومي - المذهبي غير الأبيض، الذي أخرجها من دائرة الحضارة العربية الإسلامية، وجعل منها الخروف الأسود في القطيع الأبيض. الانقلاب الذي جعل من يابسة أرض فارس وموانئها وسمائها موطئ قدم للقوى الأجنبية، ومنطلقاً للصراع الطائفي في المنطقة.

إن شعوب المنطقة التي ما عرفت منذ ذلك الانقلاب طعم الراحة والاستقرار، مطالبة تحت استراتيجية إقليمية للحصانة الثقافية والفكرية، بالابتعاد عن التسطيحات، والتعرف على المقدمات المبكرة لتكوُّن هذا النظام، وطبيعته الباطنية، كيف يفكر ويخطط، ما هي أوراقه، وبمن يستعين. (يقول ديبلوماسي غربي مختص بالشؤون الإيرانية: إن التفاوض مع الإيرانيين أشد صعوبة من اقتلاع ضرس من دون مخدِّر) .

إن إيران منكشفة اليوم، واستغاثات الشعوب والمذاهب والأقليات من داخل أسوارها مسموعة على مسافات بعيدة، وقضاياهم منشورة ومتيسرة، وتنتظر اليد التي تمتد إليها، وتركّب منها مَصْلاً فكرياً مضاداً للفيروس الصفوي، الذي يَعْبُرُ الحدود دون مصدّ، ويغزو الشعوب دون رقيب، مثلما تفعل إنفلونزا الطيور القاتلة.

لن يفهم إيران ويسقط ورقتها الطائفية الشعوبية ويتقي متاعبها، من لا يتعرف على سجل علاقاتها مع جيرانها، والهامش الذي تبيحه لنفسها من وسائل الإيذاء معهم جميعاً (باستثناء الهند) ، بصرف النظر عن لافتتها السياسية (صفوية، قاجارية، بهلوية، حوزوية) ، ويتعرف على طرائقها في الخنق الفكري، وتفكيك الهويات غير الفارسية، وغير الشيعية، بل والشيعية ما دامت أنها غير فارسية، وحتى الفارسية منها إن استوحت التشيع من خارج أسوار الكنيسة الصفوية (اللفظ للمفكر الراحل الدكتور علي شريعتي) .

من دون هذه المعرفة، ستتوالى المفاجآت على العرب، ولن يخرجوا من الثمالة السياسية، وصدق الله العظيم: {سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج: ٢] .


(*) معهد المشرق العربي وإيران.