للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

متابعات

الانسحاب من لبنان لمصلحة مَن؟

أسعد التهامي

الأعداء يوهموننا أنهم قدَّموا لنا شيئاً، وبهذا الوهم تُفجر مشاكل واضطرابات

أخرى، وهذا ما يفعله اليهود على مرّ العصور.

فاليهود إذا تنازلوا عن شيء فإنهم يكسبون من ورائه أشياء، وإن لم يكسبوا

شيئاً خرَّبوا ما يتنازلون عنه؛ وهذا ما فعله يهود بني النضير عندما نقضوا العهد

مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة أحد، فحاصرهم الجيش الإسلامي حتى

صالحوه على الجلاء، فجلا أكثرهم إلى الشام، ولحقت طائفة بخيبر؛ وكانوا قبل

جلائهم عن ديارهم يُخربون بيوتهم فيقلعون العُمد، وينقضون السقوف، وينقبون

الجدران لئلا يسكنها المؤمنون حسداً منهم وبغضاً. قال تعالى: [يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم

بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي] (الحشر: ٢) .

وجاءت قضية الانسحاب من لبنان لتدلل على طبع اليهود الخبيث، وأن كل

شيء يفعلونه يكون في صالحهم حتى وإن كان ظاهره غير ذلك؛ فالانسحاب من

لبنان يصب في جعبة إسرائيل مع التنبيه على أنه انسحاب غير كامل؛ فهناك أكثر

من ثمانية قرى تحت أيدي القوات الإسرائيلية، كما أن هناك مزارع (شبعا) التي

تبلغ مساحتها ٢٠٠ كم٢ وتعتبر مصدراً مهماً من مصادر الدخل في إسرائيل

لإنتاجها الحيواني من ناحية ولقيمتها السياحية من ناحية أخرى، وهناك بعض

الجوانب التي تبين كيف أن الانسحاب من لبنان في صالح إسرائيل في المستوى

الأول، ومن ذلك:

أولاً: توقف المقاومة من قِبَل حزب الله، وقد كانت سوريا تُعوِّل على

المقاومة من قِبَل حزب الله كثيراً من الآمال في إجبار إسرائيل على الانسحاب من

لبنان والجولان في آن واحد، ولكن ما حدث الآن قطع السبيل وضيَّع تلك الفرصة

على سوريا.

ثانياً: الضغط على حزب الله ولعب شتى الأدوار عليه من نزع للسلاح،

وخلخلة العلاقة بينه وبين الدولة وما إلى ذلك، وقد قال الرئيس الأمريكي: «إن

مسألة حزب الله يجب ألا تتكرر» .

ثالثاً: إحداث خلاف سوري لبناني.

وذلك عن طريق:

أ - عدم انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا؛ فقد استطاعت إسرائيل أن تحشد

دعماً دولياً قادته أمريكا وفرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة يقر بأن (شبعا) ليست

لبنانية وإنما هي سورية.

ب - أن هذا الانسحاب أدى إلى انتفاء مسوِّغ وجود القوات السورية في لبنان

والتي يبلغ عددها ٣٥ ألف ضابط وجندي، إضافة إلى مئات الآلاف من العمال

السوريين في لبنان الذين يشغلون أعمالاً يتعطش لها الشباب اللبناني.

رابعاً: إيجاد الفراغ الأمني بلبنان:

أ - فانسحاب اليهود السريع من لبنان قبل ترتيبات الأمم المتحدة هو محاولة

من إسرائيل لإيجاد ما يسمى بالفراغ الأمني الذي يتيح الفرصة لنشوب نزاعات

داخلية لبنانية ووضع السلطات اللبنانية وسوريا في حرج؛ فقد أعلنت إسرائيل أنها

ستنسحب في السابع من يوليو، ثم فاجأتنا بالانسحاب في الخامس والعشرين من

مايو لإشاعة الفوضى والتوتر في جنوب لبنان.

ب - وذلك أدى إلى أن لبنان ستلتفت إلى قضاياها ومشاكلها الداخلية ولا

تتدخل في شؤون أو مشاكل أي دولة أخرى حتى وإن كانت سوريا.

خامساً: اختفاء أي مطالبة بخطوات تجاه السلام من قِبَل إسرائيل؛ فهي

تنتظر بتلك الخطوة أي الانسحاب من لبنان تهليلاً واحتفاءاً وتطبيلاً على المستوى

العربي والعالمي، وتصوير الأمر على أنها تنازلت عن بعض حقوقها من أجل

السلام «وكأن احتلالها جنوب لبنان من حقوقها» . وهذا يؤدي إلى إرجاء أي

خطوات أخرى في مسيرة السلام.

وللأسف أن هناك من صدَّق أنه بخروج إسرائيل من لبنان قد تغيرت كل

الأوضاع، وأن السلام على وشك التمام، وهذه نظرة قاصرة بلا شك.

سادساً: المراهنة على حدوث اقتتال لبناني فلسطيني؛ فلبنان ضد توطين

الفلسطينيين وهو مع عودتهم إلى ديارهم، وقد صرَّح رئيس الجمهورية اللبناني بأن

لبنان لن يسمح بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في أراضيه، وأن من حقهم الكفاح من

أجل العودة. والقضية شائكة؛ حيث تتعلق بمصير مئات الآلاف من الفلسطينيين

المقيمين في المخيمات.

وهكذا نرى أن إسرائيل قد حققت مصالح على المستوى العالمي والعربي،

وأن فوائد الانسحاب تصب عندها، ولكن البعض نظر إلى ذلك الانسحاب من

جنوب لبنان على أنه انتصار عظيم، وكأن اليهود انتهوا بذلك، وإن كنّا لا نقلل

من الانسحاب الذي يعبِّر عن هزيمة عسكرية صهيونية.