أحداث راوندا
رسالة إلى كل من أمن مكر الله
د.يوسف الصغيّر
إن الذي يطلع على ما يتعرض له الأبرياء من إبادة في «راوندا وبورندي»
لا يملك إلا أن يتأثر ويتألم ويسأل نفسه: ألهذا الحد تنتكس فطرة الإنسان فيقتل
لمجرد القتل والانتقام العام؟ ألهذا الحد رخصت الحياة على بني البشر؟ !
إن غياب أخلاق المحاربين يدل على خواء الحضارة الحالية، فمعظم شعبي
«راوندا وبورندي» تربوا على يد الكنيسة سواء الكاثوليكية أو البرتستانتية وعُمّدَ
الناس وغمسوا في الماء المقدس! ونالتهم بركات القُسُس! ومع ذلك فهم أكثر
همجية ووحشية لأنهم جمعوا أخلاق الوثنيين مع طبائع الغربيين في إدارة الصراع
التي تتلخص في الإبادة الجماعية التي تحل كل إشكال، لقد كان للإسلام وجود كبير
في المنطقة انحسر مع قدوم المستعمر، أفليس من حقهم أن نهتم بهم لعل الله أن
يحدث بعد ذلك أمراً!
الموقع والتاريخ:
تقع «راوندا وبورندي» في وسط افريقيا ضمن المنطقة الاستوائية، وقد
ساعد ارتفاعهما على اعتدال مناخهما مما يفسر كثافة السكان العالية فيها، مقارنة
بدول الجوار، حيث تبلغ الكثافة ١٦٠ شخص في الكيلومتر المربع، وتبلغ مساحة
«راوندا» حوالي ٢٦ ألف كم٢، ويقطنها حوالي أربعة ملايين وربع المليون
نسمة، أما «بورندي» فتبلغ مساحتها حوالي ٢٧ ألف كم٢، ويقطنها خمسة
ملايين ونصف المليون نسمة، وقد وصلهما الإسلام في فترة متأخرة مع امتداد نفوذ
سلطان عمان وزنجبار، وكانت السيادة فيهما للمسلمين، وعندما اتفقت الدول
الأوربية في القرن التاسع عشر على توزيع المستعمرات فيما بينها منعاً للنزاعات،
أصبحت تنجانيقا أو البر التنزاني حالياً من نصيب ألمانيا والكونغو «زائير حالياً»
من نصيب بلجيكا، وحيث أن بورندي وراوندا تقعان بين هاتين المنطقتين، فقد قام
الألمان أولاً بتوسيع نطاق مستعمراتهم إلى المرتفعات، فتمت لهم السيطرة على كل
من بورندي وراوندا، ونظراً لقلة الألمان في المنطقة ورقي المسلمين الحضاري
مقارنة بالقبائل الوثنية آنذاك، فقد اضطر الألمان للاستعانة بالمسلمين من أجل شغل
الوظائف المختلفة، وعندما قام الألمان بمد خطوط السكك الحديدية في المنطقة،
ازدهرت أحوال المسلمين وانتشروا في أنحاء البلاد وكثر دخول الوثنيين في الإسلام.
وقد قام المسلمون بعدة ثورات ضد الاستعمار الألماني بدءاً من حركة «بشر
بن سالم» عام ١٣٠٧ هـ وانتهاءً بحركة «ماجي ماجي» الوطنية التي أخمدها
الألمان بعنف وهمجية، حيث قاموا بإحراق القرى وقتل الألوف من المدنيين، وقد
أدت هذه الحركة إلى تغير سياسة الألمان، فعمدوا إلى المهادنة والسماح من جديد
بحرية الدعوة، وقد استمر هذا الوضع حتى قامت الحرب العالمية الأولى بين ألمانيا
وحلفائها من الأتراك والنمساويين من جهة وبريطانيا وفرنسا وحلفائهما من جهة
أخرى.
وكما كانت أوروبا مسرحاً للحرب فقد كانت المستعمرات أيضاً مجالاً لحرب
أخرى حيث قام الانجليز باحتلال تنزانيا، بينما استولى البلجيك على راوندا
وبورندي، وهكذا تمت تصفية المستعمرات الألمانية في افريقيا، وتم تثبيت هذا
الوضع بعد الحرب عن طريق إصدار عصبة الأمم قراراً يجعل بورندي وراوندا
تحت الانتداب البلجيكي.
وهنا زاد الضغط على المسلمين في المنطقة، حيث قام البلجيكيون بالقضاء
على الممالك الإسلامية في شرق الكونغو التي تحاذي راوندا وبورندي وهدمت
المساجد، وأزيلت علامات الوجود الإسلامي، أما في بورندي وراوندا فقد نشطت
الإرساليات التبشريرية لمحاربة التعليم الإسلامي، وقام الاستعمار بمصادرة أراضي
المسلمين بحجة إقامة مشاريع عامة، وأصبحت النصرانية ومدارس التبشير هي
السبيل للحصول على كثير من المساعدات والميزات، ولهذا دخل كثير من الوثنيين
ظاهراً في النصرانية حتى وصلت نسبتهم إلى ٧٠ % مقارنة مع ٢٠ % للمسلمين، والباقي منهم وثنيون وحلت (لغة البلجيكيين) محل السواحلية (لغة المسلمين) ،
وقبيل خروج الاستعمار ظاهراً في عام ١٣٨٢ هـ بدأت تظهر آثار السياسة
الاستعمارية التي كان لها آثارها المدمرة بعد حوالي ٣٢ عاماً.
جذور المأساة:
إن أساس المأساة هو الاختلال الواضح في التوزيع السكاني وتوزيع السلطة،
ففي بورندي وراوندا هناك قبيلتان تشكلان الأغلبية الساحقة من السكان هما: قبيلتي
الهوتو (١٦ % منهم مسلمون) وهم من أصل زنجي والتوتسي (٣ % منهم مسلمون)
وهم من أصل حامي، وعلى الرغم من أن الهوتو أكثر عدداً فإن السلطة في يد
التوتسي، حيث أن ملكي بورندي وراوندا سابقاً كانا من التوتسي، وقد اشتعلت
الحرب بين الجانبين قبل خروج الاستعمار مع اختلاف في نتيجتها في بورندي عنها
في راوندا، وإليك ملخصاً لما جرى في كل بلد:
أولاً بورندي:
تبلغ نسبة التوتسي في بورندي ٢٥ %، بينما تبلغ نسبة الهوتو ٦٥ % من
السكان، ومع ذلك استطاع التوتسي الاحتفاظ بالسلطة والسيطرة الكلية على الجيش
والشرطة والمناصب العليا، مع تحول النظام إلى جمهوري عسكري ونظراً
للاضطرابات المستمرة ومطالبة الهوتو بالمساواة، فإن السلطة رضخت مؤقتاً فتم
اجراء أول انتخابات ديمقراطية في البلاد في يونيو ١٩٩٣ م، فاز بها حزب «
الجبهة من أجل الديمقراطية» برئاسة «ميليشو ندادي» وهو من الهوتو وبالطبع
اعتمدت خطة الرئيس على إدخال الهوتو في الجيش والشرطة التي كانت تقريباً
وقفاً على التوتسي، ولكن بعد أربعة أشهر قام الجيش الذي يسيطر عليه التوتسي
بانقلاب عسكري تم خلاله إعدام الرئيس وستة من الوزراء وشكل قادة الانقلاب
مجلساً للإنقاذ الوطني! برئاسة وزير الداخلية، وفرّ بقية الوزراء إلى السفارات
الأجنبية في العاصمة «بوجميورا» ، وبعد معارك متصلة فشل الانقلاب وتراجع
قادة الجيش عن المحاولة، وحاولت القيادات التبرؤ من الانقلاب بدعوى أن
العناصر الانقلابية غير منضبطة، ومع ذلك استمرت أعمال القتل المتبادل بين
الهوتو والتوتسي، وقام الجيش الذي يسيطر عليه التوتسي بأغلب أعمال القتل،
وقد قتل أكثر من مئة ألف مدني أغلبهم من الهوتو، ولجأ أكثر من سبعمائة ألف إلى
خارج البلاد، وكثيرٌ منهم إلى راوندا المجاورة، واستقرت الأحوال مؤقتاً على بقاء
الرئاسة بيد الهوتو حيث تولى الرئاسة «سيبريان نتارياميرا» وهو من الهوتو،
مع بقاء السلطة الحقيقية في يد التوتسي.
ثانياً راوندا:
تبلغ نسبة الهوتو في راوندا حوالي ٩٠ % من السكان، ولذلك فقد حسم الأمر
لهم مبكراً، حيث قاموا بثورة على ملوك التوتسي الذي كانوا يستأثرون بالسلطة
والمال، ولم يتدخل البلجيكيون على الرغم من استعمارهم للبلاد، وفي عام ١٩٦١ م أجريت انتخابات تم على إثرها الغاء الملكية وتولى الهوتو الحكم، ولم يستسلم
التوتسي فقد كانت غاراتهم مستمرة من الدول المجاورة، وبخاصة بورندي التي
يسيطرون عليها، وفي عام ١٩٧٣ م تولى الحكم الجنرال «جوفنال هابيا ريمانا»
بعد أن قام بانقلاب عسكري، ونهج نهجاً اشتراكياً، وكانت تربطه صداقة مع
الرئيس الفرنسي «فرانسوا ميتران» ، مما مكنه من الاعتماد على الدعم الفرنسي
في الوقوف في وجه غزو التوتسي لراوندا عام ١٩٩٠ م، حيث قامت الجبهة
الوطنية الراوندية المكونة أساساً من قبائل التوتسي بغزو راوندا قادمة من أوغندا
التي تولت تسليح الجبهة.
وهكذا تعقد الوضع حيث أن التوتسي في كلا البلدين يحاولون استعادة
سيطرتهم المطلقة، وقد حصلت المأساة الأخيرة عندما تعرضت طائرة الرئاسة
الراوندية للهجوم عند محاولتها الهبوط في مطار العاصمة الراوندية «كيجالي»
وذلك بواسطة إطلاق الصواريخ عليها، وقد كانت الطائرة تقل كل من رئيسي
راوندا وبورندي وهما من الهوتو، وهنا أشارت أصابع الاتهام إلى التوتسي وبدأ ت
على الفور مجازر رهيبة في كل من بورندي وراوندا، وبدأ مسلسل القتل ليس فقط
على الهوية بل على الشبه فقط، فمن يشبه الهوتو يتم قتله من قبل التوتسي، ومن
يشبه التوتسي يتم قتله من قبل الهوتو، وقام حرس الرئيس الراوندي مع مجموعات
من الهوتو بارتكاب مجازر رهيبة استعملت فيها الأسلحة النارية والسكاكين، بل
ومفكات «البراغي» أيضاً، ولم ينج من المذابح المتبادلة طفل أو امرأة أو عاجز، وبلغ عدد القتلى حوالي ٢٠٠ ألف قتيل، بل ويصل في بعض التقديرات إلى
٥٠٠ ألف إنسان، وأصبح من المعتاد أن ترى أكوام من الجثث مكدسة في الطرقات، واستعرت الحرب من جديد بين جيش الحكومة وقوات الجبهة القادمة من أوغندا،
وسيطرت الجبهة على حوالي نصف البلاد، ووصلت إلى العاصمة، ومازال القتال
يدور فيها مما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الناس إلى تنزانيا المجاورة.
ولسائل أن يسأل: أين الأمم المتحدة التي تزعم أنها المسؤولة عن حفظ أرواح
المستضعفين وإقامة السلام بين بني البشر؟ والجواب هو أن الأمم المتحدة موجودة
في عاصمة راوندا منذ فشل حملة التوتسي السابقة، ولها قوات من بلجيكا
وبنجلاديش وغيرهما، وقد قامت بمهمتها خير قيام! فقد قامت القوات البلجيكية
بمساعدة قوات فرنسية باجلاء الأجانب (الغربيين) ، ثم انسحبت أيضاً تاركة القوات
البنغالية تقوم بمحاولة حماية المدنيين بدون جدوى، ومع استمرار المجازر استمر
التغاضي عما يجري، فالقاتل والمقتول أفارقة وإن كان غالبيتهم من النصارى أتباع
الكنيسة السوداء إلا أنهم من الجنس غير الأبيض!
أخيراً:
لعل القارىء الكريم يلاحظ أن ممارسة المجازر الرهيبة التي تعتمد على
الإبادة الجماعية التي لا تفرق بين ذكر وأنثى، ولا بين صغير وكبير، ولا بين
مسلح وأعزل، يكاد يكون القيام بها وقفاً على معتنقي النصرانية، وذلك لعدم وجود
الحجة التي يواجهون بها الخصم، ولهذا تلجأ إلى خيار الإبادة، وهذا ما حصل في
الأندلس وفي أمريكا الجنوبية وفي البوسنة، محاولات فاشلة جرت وتجري، ولهذا
يستطيع الفرد العادي أن يستنتج أن الإنسان في عرف الساسة الغربيين هو اليهودي
أولاً ثم النصراني الغربي ثانياً، ثم النصراني ثالثاً ثم من يحقق مصالحهم رابعاً،
وما عداهم فهم مجرد أوراق نقدية ليس لها رصيد.