[المسلم والآثار النفسية للإيمان]
د. عز الدين المفلح
غني عن القول أن قضية الإيمان هي قضية مصيرية بالنسبة للإنسان، إنها سعادة الأبد أو شقاء الأبد. إنها الجنة أبداً أو النار أبداً. والإيمان ليس مجرد إعلان المرء أنه مؤمن، وليس مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر اعتاد أن يقوم بها المؤمنون، وليس مجرد معرفة ذهنية بحقائق الإيمان.
وبكلمة مختصرة: ليس الإيمان مجرد عمل لساني، ولا عمل بدني، ولا عمل ذهني، بل هو عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها:
من هنا فإنه لا بد من إدراك ذهني تتكشف به حقائق الوجود على ما هي عليه، وهذا الانكشاف لا يتم إلا عن طريق الوحي الإلهي المعصوم، ولا بد من أن يبلغ هذا الإدراك العقلي حد اليقين الذي لا يزلزله شك ولا ارتياب. ولا بد من أن يصحب هذه المعرفة الجازمة إذعان قلبي وانقياد إرادي، يتمثل في الخضوع والطاعة، ولا بد من أن يتبع تلك المعرفة حرارة وجدانية مسعدة. ومضمون هذا الإيمان هو وجود الله تعالى، ووحدانيته، وكماله، والإيمان بالنبوة والرسالة، وبوحدة الدين عند الله، والإيمان بمُثُل عليا إنسانية واقعية، وقدوات بشرية ممتازة، استطاعت أن تجعل من مكارم الأخلاق، وصوالح الأعمال، وفضائل النفوس، حقائق واقعة وشخوصاً مرئية للناس، لا مجرد أفكار في بعض الرؤوس، أو أمانٍ في بعض النفوس، أو نظريات في الكتب والقراطيس.
ثم كيف يقبل العقل الحُرّ، أو ترضى الفطرة السليمة أن تنتهي الحياة، وقد طغى فيها من طغى، وبغى فيها من بغى، وقتل فيها من قتل، وتجبر فيها من تجبر، ولم يأخذ أحد من هؤلاء عقابه، بل تستر واختفى، وأفْلَت ونجا؟ وفي الجانب الآخر: كم استقام من استقام، وأحسن من أحسن، وضحّى من ضحّى، وجاهد من حاهد، وقدّم من قدّم، ولم ينل جزاء ما قدّم! ألا يحق للعقل أن يؤمن إيماناً جازماً أنه لا بد من وجود دار أخرى، تسوّى فيها الحسابات، يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؟ قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: ٧٠] .
الإنسان مخلوق كريم عند الله، خلقه في أحسن تقويم، وكرمه أعظم تكريم، وصوَّره فأحسن صورته، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعلم والإرادة، وجعله خلفية في الأرض، وسخر له ما في السموات، وما في الأرض جميعاً منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة؛ فكل ما في الكون له ولخدمته، أما هو فجعله ـ تعالى ـ لنفسه. لذلك يشعر المؤمن بذاته، ويغالي بقيمة نفسه؛ لأنه يعتز بانتسابه إلى الله، وارتباطه بكل ما في الوجود؛ فيحيا عزيز النفس، عالي الرأس، أبياً للضيم، عصياً على الذل والهوان، بعيداً عن الشعور بالتفاهة والضياع، والصغار والفراغ.
والإنسان في نظر الماديين لا يزيد ثمنه عن مئة من العملات الرخيصة؛ لأن فيه من الدهن ما يكفي لصنع سبع قطع من الصابون، وفيه من الفحم ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفوسفور ما يكفي لصنع مئة وعشرين عود ثقاب، وفيه ملح المغنزيوم ما يصلح جرعة واحدة لأحد المسهلات، وفيه من الحديد ما يساوي مسماراً متوسط الحجم، وفيه من الكلس ما يكفي لطلاء بيت دجاج، وفيه من الكبريت ما يكفي لتطهير جلد كلب واحد، وفيه من الماء ما يزيد عن ثلاثين لتراً.
السلامة والسعادة، مطلبان ثابتان لكل إنسان، كائناً من كان، في كل زمان ومكان، من الفيلسوف في قمة تفكيره وتجريده، إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن الملك في قصره المشيد، إلى الصعلوك في كوخه الحقير، ومن المترف في ملذاته، إلى الفقير في ويلاته. ولكن السؤال الذي يحير الإنسان عبر العصور والأجيال: أين السعادة؟ ولماذا الشقاء؟ والجواب: لقد طلبها الأكثرون في غير موضعها، ومظانها، فعادوا كما يعود طالب اللؤلؤ في الصحراء صفر اليدين، مجهود البدن، كسير النفس، خائب الرجاء.
لقد توهموا في ألوان المتع المادية، وفي أصناف الشهوات الحسية، فما وجدوها تحقق السعادة أبداً، وربما زادتهم مع كل جديد منها همّاً جديداً: «خذ من الدنيا ما شئت وخذ بقدرها همّاً، ومن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر» . ولا بد من التفريق بين السعادة واللذة.
اللذة طبيعتها حسية، مرتبطة بالجسد الفاني، تأتي من خارج الإنسان؛ فهو يلهث وراءها، ويتعب في تحصيلها، وهي متناقضة في تأثيرها، تتبعها كآبة مدمرة، وتنقطع بالموت؛ فإن كانت مبنية على الظلم والعدوان، استحق صاحبها جهنم إلى أبد الآبدين. بينما السعادة طبيعتها نفسية، مرتبطة بذات الإنسان الخالدة، تنبع من داخل الإنسان، سهلة في تحصيلها، متناسبة في تأثيرها، يشقى الإنسان بفقدها، ولو ملك كل شيء، ويسعد بها، ولو فقد كل شيء، تقفز إلى ملايين الأضعاف بعد الموت، يستحق صاحبها جنة، عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفيها نظر إلى وجه الله الكريم، ورضوان من الله أكبر.
واللذة تحتاج إلى عناصر ثلاث: وقت، وصحة، ومال. والإنسان يفتقد هذه العناصر في كل طور من أطوار حياته؛ ففي الطور الأول من حياته يتوافر الوقت والصحة، ويفتقد المال، وفي الطور الثاني من حياته يتوافر المال والصحة، ويفتقد الوقت، وفي الطور الثالث من حياته يتوافر الوقت والمال وتُفتقد الصحة. بينما السعادة تحتاج إلى عناصر ثلاث: إيمان بالله إيماناً حقيقياً، واستقامة على أمره، وعمل صالح تجاه خلقه. وهذه متوافرة في كل زمان ومكان، وفي طور من أطوار حياة هذا الإنسان.
غاضب زوجٌ زوجته، فقال لها: لأشقينك! فقالت الزوجة في هدوء: لا تستطيع أن تشقيني، كما لا تملك أن تسعدني. فقال الزوج في حَنَق: وكيف لا أستطيع؟ فقالت الزوجة في ثقة: لو كانت السعادة في مال وكنت تملكه لقطعته عني، ولو كانت السعادة في الحلي والحلل، لحرمتني منها، ولكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون، فقال الزوج في دهشة: وما هو؟ فقالت الزوجة في يقين: إني أجد سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي، وقلبي لا سلطان لأحد عليه غير ربي. هذه هي السعادة الحقة التي لا يملك بشر أن يعطيها، ولا يملك أحد أن ينتزعها ممن أوتيها.
{قَالُوا يَا مُوسَى إمَّا أَن تُلْقِيَ وَإمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إنَّا إلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: ١١٥ - ١٢٦] . ما الذي لاح لهؤلاء السحرة، وما الذي شعر به هؤلاء حتى تحدوا فرعون وما أدراكم من فرعون؟ إنها السعادة التي غمرت قلوبهم فآثروها على دنياهم العريضة التي وعدهم فيها فرعون.
ولكن لا ننكر أن للجانب المادي مكاناً محدوداً في تحقيق السعادة؛ فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح» (١) ، ولكن ليس لهذا الجانب المكان الأول ولا الأفسح، والمدار فيه على الكيف لا على الكم؛ فحسب الإنسان أن يسلم من المنغصات المادية التي يضيق بها الصدر: من مثل المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء، وأن يمنح الأمن والعافية، وأن يتيسر له القوت من غير حرج ولا إعنات. وما أروع وأصدق الحدث النبوي: «من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» (٢) . ويقول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إن الله ـ تعالى ـ بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين، وجعل الهمّ والحزن في السخط والشك» (٣) . يكشف هذا الحديث الشريف عن حقيقة نفسية باهرة؛ فكما أن سنة الله قد ربطت الشبع والري بالطعام والشراب في عالم المادة؛ فإن سنته ـ تعالى ـ في عالم النفس قد ربطت الفرح والروح (أي السرور وراحة النفس) بالرضا واليقين؛ فبِرِضا الإنسان عن نفسه، وعن ربه، يطمئن إلى يومه وحاضره، وبيقينه بالله وبالجزاء في اليوم الآخر، يطمئن إلى غده ومستقبله، كما ربطت سنة الله الغم والحزن بالسخط والشك.
فالساخطون والشاكون لا يذوقون للسرور طعماً، إن حياتهم كلها سواد ممتد، وظلام متصل، وليل حالك لا يعقبه نهار. أما حزن المؤمن فلغيره أكثر من حزنه لنفسه، وإذا حزن لنفسه فلآخرته قبل دنياه، وإذا حزن لدنياه فهو حزن عارض موقوت كغمام الصيف، سرعان ما ينقشع إذا هبت عليه رياح الإيمان.
قدم عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً قد ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم، فسُرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله! سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ردوها على فقرائكم» . قالوا: يا رسول الله! ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر: يا رسول الله! ما وفد العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الهدى بيد الله عز وجل؛ فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان» . وسألوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشياء، فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم رغبة، وأمر بلالاً بحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يُعجِلكم؟. فقالوا: نرجع إلى مَنْ وراءَنا، فنخبرهم برؤيتنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلامِنا إياه، وما رد علينا. ثم جاؤوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز له الوفود. قال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: نعم! غلام خلَّفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً. قال: «أرسلوه إلينا» ، فلما رجعوا إلى رحالهم، قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فاقضِ حاجتك منه، فإنَّا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله! إني امرؤ من بني أبذي ـ يقول من الرهط الذين أتوك آنفاً ـ فقضيت حوائجهم، فاقضِ حاجتي يا رسول الله! قال: «وما حاجتك؟» ، قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا من صدقاتهم، وإني ـ واللهِ ـ ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله ـ عز وجل ـ أن يغفر لي ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقبل إلى الغلام: «اللهم اغفر له، وارحمه، وأجعل غناه في قلبه» ، ثم أمر له بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهليهم، ثم وافوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الموسم بمنى سنة عشر. فقالوا: نحن بنو أبذي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما فعل الغلام الذي أتاني معكم؟» ، قالوا: يا رسول الله! ما رأيناه قط، ولا سمعنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها؛ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «الحمد لله؛ إني لأرجو أن يموت جميعاً» . فقال رجل منهم: أوليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا؛ فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله ـ عز وجل ـ في أي أوديتها هلك» . قالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال، وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام، قام في قومه، فذكَّرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر الصديق يذكِّره ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به؛ فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيراً (١) .
فالناس يموتون على ما عاشوا عليه؛ فمن عاش جميعاً مات جميعاً، ومن عاش أوزاعاً شتى، وأجزاء متناثرة، مات عاش، وقليل من الناس، بل أقل من القليل ذلك الذي يعيش لغاية واحدة، ويجمع همومه في همّ واحد، يحيا له، ويموت له، ذلك هو المؤمن البصير الذي غايته الفرار إلى الله، وسبيله اتباع ما شرع الله، وكل شيء في حياته لله وبالله، حاله تنطق به هذه الآية: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: ١٦٢] ، وقال ـ تعالى ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: ٨٢] .
إن الناس يخافون من أشياء كثيرة، وأمور شتى، ولكن المؤمن سد أبواب الخوف كلها، فلا يخاف إلا من الله وحده، يخافه أن يكون فرَّط في حقه، أو اعتدى على خلقه، أما الناس فلا يخافهم؛ لأنهم لا يملكون له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. والمؤمن آمن على رزقه أن يفوته؛ فإن الأرزاق في ضمان الله الذي لا يُخلِفُ وعدَه، ولا يضيع عبده، وهو الذي يُطعم الطير في الوكنات، والسباع في الفلوات، والأسماك في البحار، والديدان في الصخور، وهو الذي يسمع دبيب النملة السمراء، على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. لقد كان المؤمن يذهب إلى ميدان الجهاد حاملاً رأسه على كفه متمنياً الموت في سبيل عقيدته، ومن خلفه ذرية ضعاف، وأفراخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر، ولكنه يوقن أنه يتركهم في رعاية رب كريم، هو أبر بهم، وأحنى عليهم منه، وتقول الزوجة عن زوجها وهو ذاهب في سبيل الله: إني عرفته أكَّالاً وما عرفته رزَّاقاً، ولئن ذهب الأكَّال، لقد بقي الرزاق. وهو آمن على أجله؛ فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، أياماً معدودة، وأنفاساً محدودة، لا تملك قوة في الأرض أن تنقص من هذا المقدار أو تزيد فيه.
هدد الحجاجُ سعيدَ بن جبير التابعي الجليل بالقتل، فقال له سعيد: «لو علمتُ أن الموت والحياة في يدك، ما عبدت إلهاً غيرك» . إن الإيمان والأمل متلازمان، فالمؤمن أوسع الناس أملاً، وأكثرهم تفاؤلاً واستبشاراً، وأبعدهم عن التشاؤم والتبرم والضجر؛ إذ الإيمان معناه الاعتقاد بقوة عليا تدبر هذا الكون، لا يخفى عليها شيء، ولا تعجز عن شيء، بيدها كل شيء.
المؤمن يعتصم بهذا الإله العظيم، البر الرحيم، العزيز الحكيم، الغفور الودود، ذي العرش المجيد، الفعَّال لما يريد، يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أرحم بعباده من الأم بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم. فالمؤمن إذا حارب كان واثقاً بالنصر؛ لأنه مع الله فالله معه، ولأنه لله فالله له: {إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ* وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ١٧٢ - ١٧٣] . وهذا درس بليغ لنا في معركتنا مع أعدائنا. والمؤمن إذا مرض لم ينقطع أمله في العافية: {وَإذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: ٨٠] والمؤمن إذا اقترف ذنباً لن ييأس من المغفرة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: ٥٣] . وإذا أعسر لم يزل يؤمل باليسير: {فَإنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٥] .
وإذا انتابته كارثة من الكوارث كان على رجاء من الله أن يأجره في مصيبته، وأن يخلفه خيراً منها. وإذا رأى الباطل يقوم في غفلة الحق، ويصول ويجول، أيقن أن الباطل إلى زوال، وأن الحق إلى ظهور وانتصار. وإذا أدركته الشيخوخة، واشتعل رأسه شيباً لا ينفكُّ يرجو حياة أخرى: شباباً بلا هرم، وحياة بلا موت، وسعادة بلا شقاء.
المحبة هي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وهي الحياة التي من حُرِمَها فهو في جملة الأموات، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، وهي الشفاء الذي من عدمه حلّت به الأسقام، وهي اللذة التي من لم يظفر بها؛ فعيشه كله هموم وآلام، لذلك قال -صلى الله عليه وسلم- فما رواه أنس بن مالك: «ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار» (١) . فالمؤمن من يعرف ربه، ويحبه، ويخطب وده، ويستقيم على أمره، ويعمل الصالحات ابتغاء وجهه، عندئد يجد حلاوة الإيمان، ويصبح شغله الشاغل التقرب إلى الله بالنوافل. وفي الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقَّربُ إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (٢) .
كثيرون هم الذين يدَّعون محبة الله ورسوله، ولا تجد في أعمالهم ما يُثبت ذلك، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى وما ابتُلوا، ولو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخليُّ حُرقة الشجي، لذلك طولب المدعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم فقال ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: ٣١] . المؤمنون هم أصبر الناس على البلاء وأثبتهم في الشدائد، وأرضاهم نفساً في الملمات، عرفوا أن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، وأن من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، وعرفوا أن ما ينزل بهم من مصائب ليس ضربات عجماء، ولا خبط عشواء، ولكنه وفق قدر معلوم، وقضاء مرسوم، وحكمة إلهية، فآمنوا بأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وعرفوا أن الله يقدر ويلطف، ويبتلي ويخفف، ومن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك لقصور نظره، وعرفوا أن وراء كل شدة فرجاً، وأن وراء كل محنة منحة.
وآيات الله في الآفاق والأنفس، تعد باباً واسعاً من أبواب الإيمان الحق، وطريقاً قصيراً إلى خشيته وطاعته: فالباحث في العلم يوقن، والمتأمل في الكون يشعر حينما يقرأ آيات القرآن المتعلقة بخلق الأكوان والإنسان، يوقن ويشعر بكل خلية في جسمه، وبكل قطرة من دمه، أن هذا القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن يأتي به بشر فرادى أو مجتمعين. فمن خلال المؤتمرات العالمية التي عقدت في عواصم متعددة في أنحاء العالم، حوْل الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة، يتضح أن أبحاثاً علمية جادة ورصينة قام بها علماء ليسوا مسلمين، ولا تعنيهم آيات القرآن الكريم، استغرقت عشرات السنوات، وكلفت ملايين الدولارات، تأتي نتائج بحوثهم مطابقة مطابقة عفوية وتامة، من دون تكلف ولا تعنت، ومن دون تأويل بعيد لآية، أو تعديل مفتعل لحقيقة، تأتي نتائج بحوثهم تلك مطابقة لآية، أو لكلمة في آية، بل لحرف واحد في آية، وهذا مصداق قوله ـ تعالى ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: ٥٣] .