[حوار مع الداعية المجاهد نجم الدين فرج أحمد المشهور بـ (كريكار) .]
حاوره: عبد الله العلوان البدري
استراتيجيات المحتل الأخيرة، هي (تكتيكات) الهروب بعد الفشل
أولاً: هل يمكن إعطاؤنا نبذة عن فضيلتكم لنعرّف القراء بكم عن قرب:
الاسم: نجم الدين فرج أحمد المعروف باسم (فاتح كريكار) .
من مواليد ١٩٥٦ السليمانية/العراق.
أحمل بكالوريوس في اللغة العربية، وماجستير في علم الحديث، مع دراسة الشرع عند علماء المنطقة.
أتحدث اللغات الكردية والعربية والفارسية والأردية والإنجليزية والنرويجية.
لي أكثر من عشرين كتاباً بين دواوين شعرية وتاليف وترجمات، وأكثر من ستمائة درس وخطبة وندوة.
انتمىت سياسياً مثل بقية أفراد أسرتي إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني مبكراً، لكن بعد التعرف على الإسلام في السبعينيات من القرن الماضي انضممت إلى العمل الإسلامي، وبقيت في صفوفه حتى عام ١٩٨٨م حيث قررت بعد فاجعة حلبجة الانضمام إلى الحركة الإسلامية في كردستان بقيادة الشيخ عثمان بن عبد العزيز، رحمه الله، وبقيت في صفوفها قيادياً في المكتب السياسي حتى عام ٢٠٠١م، وبعد تفكك الحركة أسسنا مع بعض الإخوة (أنصار الإسلام) .
أمام ضغط الواقع لجأتُ عن طريق الأمم المتحدة إلى النرويج منذ ١٩٩١م، وتعرضت في السنوات الخمس الأخيرة إلى ضغوط أمريكا والنرويج بزعم التعاون مع جماعة الطالباني مما أدى ذلك إلى تقديمي إلى تحقيقات أكثر من عشر مخابرات دولية وإلى سجن وتجريد من كافة حقوقي المدنية، وأنا الآن قعيد بيتي منذ أربع سنوات، لكني شديد المعارضة للاحتلال الأمريكي، وأنا أول من أفتى في الأكراد بجواز العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال الأمريكي.
ثانياً: الأسئلة:
البيان: ما هو حجم الحرب الطائفية التي يتعرض لها أهل السنة في العراق، ومدى تأثير ذلك على الواقع السكاني والسياسي سواء في العاصمة بغداد أو غيرها؟
٣ لا شك أنها حرب عقائدية استئصالية تراكمت فيها أحقاد تاريخية أفرزتها عقيدة دينية منحرفة؛ مع الشعور الطاغي بالمظلمة الحديثة التي ارتكبتها حكومة البعث بحق الدعاة إلى الإسلام من كل المذاهب. أما حجمها فهو بالتأكيد كارثي على أهل السنة؛ لأن الطرف المهاجم والشيعة العراقيين الموالين لإيران عقائدياً أو سياسياً معبؤون بأيديولوجيا ومتهيئون نفسياً، ومنظمون عسكرياً، وحركتهم رسمية حكومية، ولهم ظهر دولة تتدخل بقضها وقضيضها لصالحهم. فالطرف الشيعي لا ينقصه في فرض شروطه شيء! وبالمقابل نجد أهل السنة العرب مشتتين فكرياً لتفرق مرجعيتهم في العالم السني، ومتعبين نفسياً رغم بسالتهم؛ لأنهم يشعرون بخذلانِ مَنْ خَلْفَهم لهم!! ومن الناحية العسكرية فهم رغم أنهم بفضل الله متفوقون، لكنهم مشغولون جماعاتٍ بالاحتلال؛ فهم في جهد جهيد يومياً لإبقاء اختلال الاحتلال مستمراً حتى يُجبَر المحتل على المغادرة، بعدها يُنتظَر منهم أن يُحْدِثوا ـ بإذن الله ـ توازناً حقيقياً مع الشيعة. وسنرى كيف يفعلون!
حجم الحرب كبير؛ أما تأثيرها من الناحية السكانية فهو موجود خصوصاً على بغداد، وقد يطول هذا التأثير لمدة تقصر أو تطول؛ لأن التهجير والاستيطان من سماتها الواضحة، ولكن مع ذلك لن يكون أقوى من تهجير البعث لأكراد كركوك مثلاً أو تهجير مجاميع الشيعة أنفسهم إلى إيران وعودتهم ثانية إلى أماكنهم.
أما التأثير السياسي فلا أرى لذلك تأثيراً يذكر؛ لأن مشروعات الاحتلال ـ بفضل الله تعالى ـ فشلت على صخرة المقاومة؛ فكيف بالمشروع الشيعي الذي هو استنساخ للمشروع الإيراني الفاشل داخلياً في إعطاء الحل المناسب لقضايا الاختلافات القومية والمذهبية في إيران وغيرها؟ وهو مشروع متقوقع خارجياً لا يقدر على التخلص من موروثه التاريخي لصالح أي تجديد خوفاً من التفكك والتشتت.
البيان: ماذا حققت الولايات المتحدة الأمريكية من مشروعها في العراق؟ وهل ما تحقق من المشروع الفارسي في العراق أكثر مما تحقق من المشروع الأمريكي؟
٣ لم تحقق الولايات المتحدة الأمريكية من مشروعاتها في العراق بفضل الله وقوته شيئاً! أليس الفشل واضحاً وفاضحاً من ادعائهم الفارغ لتحكيم الديمقراطية؟ وهو أمر يرى العالم كله فشله!! أو كذبهم الفاحش في جلب الأمان، والادعاء الأكذب في دعوى بناء الرفاهية للإنسان العراقي! أليست هذه مشاريعهم؟! لم يحققوا للعراقيين شيئاً قياساً بتدميرهم، وكل الذي حققوه لهم ولأنفسهم نسبي. فانتصارهم على الجيش العراقي وإن كان مكسباً فقد كان انتصاراً تقنياً وليس انتصاراً في عقيدة القتال ولا إرادة الحرب. نعم! حققوا لأنفسهم سلب خيرات العراق ونهب ثرواته، ولكنهم اضطُرُّوا تحت ضغط المجاهدين أن يصرفوا ما سرقوه في حماية أنفسهم؛ فلم يتحوَّل المسروق إلى ميزانية تعينهم على إنجاح مشروعاتهم الاستعمارية العدوانية.
أما ما تسميه بالمشروع الفارسي فأنا لا أوافقك على التسمية. أنا أحب أن أسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية. فالفارسية لغة لخُمْسَيِ الإيرانيين وخُمْسَيْ أفغانستان وكل طاجيكستان وربع الأوزبك.. والفارسية حتى كقومية لم تغلب التشييعَ في زمن الشاه مثلما غلبت القومية الطورانية والعربية والكردية مثلاً إسلامَ هذه الشعوب لفترة من الزمن، وأنا لم أجد في (إيران الثورة) مشروعاً حضارياً أو سياسياً فارسياً، هناك التشييع بأمته ودولته.. وسؤالك: هل حقق هذا المشروع (الإيراني في كل حال) في العراق أكثر مما حققه المشروع الأمريكي؟ نعم! إن ما حققته إيران عبر المجلس الأعلى (عبد العزيز الحكيم) و (قوات بدر) الغدارة وفصائل أخرى شيعية وعبر (جلال الطالباني الكردي) وعبر (أحمد الجلبي العلماني) التابع للبنتاغون أكثر بكثير مما كان ساسة إيران يحلمون به. عندنا في القرى الكردية عندما يجد الكردي أرضاً صلدة لا يستطيع حرثها يدفن فيها حبات من سفرجل فتشم الخنازير البرية رائحتها فتأتي إليها ليلاً تحرثها بحثاً عن مبتغاها!! هذا ما فعله الإيرانيون بإدارة (جورج بوش) الحاقد الغبي. الإيرانيون استطاعوا بدهاء وتقية جر الأمريكان إلى المنطقة وجعلوهم أداة تدمير لعدوَّيْ إيران اللدودين وهما (الطالبان) في شرقهم و (صدام) في غربهم، فحرث الأمريكان لهم الأرض، وورطهم الإيرانيون فيما هم فيه. لم يحصل الأمريكان والمحتلون على مبتغاهم غير قشور، والإيراني زرع مشاريعه كيفما شاء وسط الشيعة ووسط الأكراد ووسط السنة في العراق بصوره مباشرة حيناً، أو بصورة غير مباشرة، وأحياناً بصور أخرى.
البيان: هنا تغلغل فارسي كبير في الساحة العراقية من ضمنه تجوال لكبار ضباط المخابرات الإيرانية والمسؤولين عن إدارة الحرب الطائفية (ومنهم من ألقي عليه القبض داخل القنصلية الإيرانية) فما هو حجم الوجود الفارسي في العراق على المستوى السياسي والعسكري والديني؛ بما في ذلك كردستان العراق؟
٣ لا تَعُدْ بي إلى جاهلية البعث البائد وتعريفها التعسفي للثورة الشيعية في إيران بالمجوسية وآية الله الخميني بالدجال، ولا تجرني إلى استراتيجية أمريكا الجديدة لمواجهة من يسميهم القوميون العرب المنهزومون اليوم بالرافضة لإثارة غيرة السلفيين وحمية المتدينين السنة لتوظيف طاقاتهم بوجه المشروع الإيراني، فأنا وأنت ننطلق قبل كل شيء من رؤيتنا الشرعية؛ حيث علّمنا ديننا أن الوصف الذي لا يأتي من صفة الشيء مباشرة لا يكون صحيحاً: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: ١٨] أو يأتي به غير صادق مجرب {قَالُوا إن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: ٧٧] .. أنا عندي وصف لإيران جاءني من وجودي في إيران في عهدَيِ الشاه والثورة الشيعية، ثم خالطت أرباب الثورة لأكثر من خمس عشرة سنة، كنت في بلادهم إماماً وخطيباً، كنت حراً كما كنت عندهم سجيناً، كنت ضيفاً على سكرتارية رفسنجاني، كما كنت هارباً مختفياً منهم، تعرفت على علمائهم في قم كما تعرفت على سياسة توجهاتهم الحزبية في طهران، وكنت مدرساً للفارسية؛ فأنا بفضل الله ـ عز وجل ـ أميز لهجاتها، فكنت أدخل ثنايا الشعب الإيراني بشتى توجهاتهم الفكرية؛ فإيران عندي (مشروع دولة شيعي) وليس مشروعاً فارسياً.
أما عن تغلغل الإيرانيين وتأثيرهم؛ فحدث ولا حرج! والتأثير الأول هو التأثير التوجيهي المرجعي؛ لأن المراجع الأربعة الكبار في العراق: (السيستاني الإيراني الأصل، وسعيد الحكيم ـ عم عبد العزيز الحكيم ـ الموالي المطلق لإيران، وإسحق الفياض الأفغاني الأصل، وبشير النجفي الباكستاني الأصل) كلهم مرتبطون بمركز قم الإيراني وليس بمركز النجف العراقي الذي أصبح بإعدام الصدرين يتيماً؛ فكل توجه وتوجيه لا ينطلق مع توجيه مراجع قم أو لا يكون منسجماً معه يُضيَّق عليه إلى درجة يكاد أن لا يُسمع في أوساط الشيعة. ثم التأثير السياسي وهو على كل فصيل من فصائل الحركة الشيعية العراقية، ويأتي مباشرة من المشروع الشيعي الإيراني حتى يصبح عند البعض كالمجلس الاعلى فرضاً واجب التنفيذ؛ لأن المجلس أداة إيرانية حالها حال مؤسسة حرس الثورة الإيرانية داخل إيران؛ فلا فرق مطلقاً في تنفيذ أوامر المرشد الأعلى آية الله الخامنئي عند قوات القدس في طهران أو عند قوات بدر في العراق. والتأثير الثالث أو الميدان الثالث هو التوجيه المباشر لإيران عسكرياً لكل أوساط شيعة العراق، بصورة مباشرة وبأفراد إيرانيين أو بالمجلس الاعلى، وغير المباشر مع التيار الصدري وحزب الدعوة مثلاً؛ حيث تقوم إيران باستقبال مجموعات الشباب الشيعي لديها لتدريبهم ثم إعادتهم وتسليحهم وتمويلهم. وتدريبهم إما أن يكون على أيدي الحرس الثوري الإيراني مباشرة، أو من قِبَل مدربي فيلق بدر الذي أنشأته إيران جناحاً مسلحاً لـ (للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق) عام ١٩٨٢م. ثم التأثير المالي؛ حيث يأتي التمويل مباشرة من إيران أو من مشروعاتها التجارية الرسمية مع الحكومة العراقية، أو من خلال مشروعات الحكومة العراقية، التي يسيِّرها (لُوبيُّها) الشيعي فتعود مالاً مستثمراً يدخل في ميزانية المشروعات التي تخدم التوجه الإيراني. وكل هذا يكون تحت تصرف المخابرات الإيرانية ومراكز الدراسات والبحوث التابعة لوزارتها أو لوزارة الحرس الثوري. فتأثير إيران ليس فقط في المفاصل، بل في النخاع الشوكي من المفاصل.
البيان: تروِّج الإدارة الأمريكية للتجربة الكردية من حيث ضمان الحريات الشخصية واحترام حقوق الإنسان؛ فما مدى مصداقية هذه المواصفات في إطار كردستان العراق؟
٣ هذا أيضاً من أكاذيبهم؛ أخزاهم الله ومن والاهم. واللهِ ما مرت ببلاد الأكراد فترة أتعس من هذه الفترة التي تمتاز بضياع الوجود وانعدام الوزن الفكري والسياسي. ضيع الأكراد في هذه الفترة في كردستان كل ما يمت إلى تاريخهم بصلة من خلق ودين وتاريخ نضال واستقلالية القرار! تقزَّم النضال القومي الكردي في ظل الحزبين العلمانيين المتناطحين (حزب الطالباني، وحزب البرزاني) إلى إقليمية شملت ثلثي ولاية الموصل القديمة، وانشطرت هذه الإقليمية الصغيرة لتكبرها إدارتان متقاتلتان، ثم فشلت الإدارتان في الاحتفاظ باللغة والأرض والتاريخ، ولم يوظفوا الاقتصاد في البناء؛ كما فشلوا في بناء أصغر مؤسسة دستورية معتبرة أو استقلالية للقضاء أو حرية للتعبير، فضيعوا الأول والتالي. والأمان الذي عاش الحزبان في أجوائه لم يكن منهما، بل كان من الأمريكان والبريطانيين الذين استحدثوا منطقة حظر الطيران العراقي (نو فلاي زون) بعد تحرير الكويت ضغطاً على (صدام حسين) ونظامه. يكفي أن تعرف أن كردستان اليوم رسمياً تابعة للحكومة العراقية؛ فالأكراد لهم اليوم ثلاث وزارات لحقوق الإنسان، وثلاث وزارات للعدل: واحدة مركزية في بغداد، وواحدة في السليمانية وحكومتها (الجمهورية الاتحادية الوطنية الكردستانية الاشتراكية العظمى) بقيادة جلال الطالباني!! وحكومة (المملكة الكردية البارزانية الدستورية الفدرالية) في أربيل بقيادة مسعود البرزاني! ولنا إخوة في سجون أربيل والسليمانية وقد مر على احتجازهم غير القانوني أكثر من ست سنوات دون محاكمة أو توجيه تهمة إليهم!! ولنا إخوة مثل (طاهر توفيق) في السليمانية وقد أطلق سراحه من سجن أبي غريب عند الاحتلال وأعيد اعتقاله في السليمانية بعد ثلاثة أيام، وهذه هي السنة الرابعة وهو قيد الاعتقال دون توجيه تهمة له أو دون تقديمه إلى المحكمة. فأي كرامة أبقاها الحزبان العميلان في ظل الاحتلال المباشر وغير المباشر؟ وأين حرية الإنسان؟ وقد وجه أستاذ جامعي يحمل الجنسية النمساوية نقداً إلى مسعود البارزاني فاعتقل وحكم عليه الحزب الديمقراطي دون محاكمته بالسجن ثلاثين سنة؛ فبِمَ يفتخرون؟ بسجون في الجبال لعرب وتركمان وأكراد مختطفين لا يعلم عنهم شيئاً غير الله ـ عز وجل ـ ينافسون بها غوانتانامو؟!
البيان: كيف ترون واقع أهل السنة والدين والدعاة في كردستان في ظل الحكومات الكردية المتتابعة؟ هل هناك حرية للدعوة الإسلامية؟ وما مدى حقيقة الصراع الديني العلماني والماركسي هناك؟
٣ واقعنا في كردستان أكثر من مأساة؛ فالمجاهدون بعدما ضُربوا في (بيارة) وما حولها في مارس ٢٠٠٣م استشهد منهم حوالي ٨٥ مجاهداً، ثم اعتُقل العشرات منهم في إيران والعراق وما زالوا في سجونهما، والبقية الباقية منهم وصلوا إلى العمق السني في المثلث؛ فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً؛ والحمد لله. أما الإسلاميون الآخرون فلدينا خط دعوي؛ فهم مثل (الحزب الإسلامي العراقي) مع مشروعات الاحتلال، وجماعة الأخ (علي بابير) يمثلون التوجه الإيراني في أكراد العراق وهم أيضاً منخرطون مع الأحزاب العلمانية الكردية في مشروع الاحتلال. ولكن الجو العام في كردستان جو إرهاب رسمي أنشأته الإدارة العلمانية الكردية، وأغلبية العلماء أُبعدوا عن المنابر، وأُغلقت كلية الشريعة الوحيدة في كردستان مع خمسة معاهد شرعية أخرى. الكفر يكاد يكون بواحاً وصارخاً ومهاجماً يشبه انحراف زمن (مصطفى كمال) في تركيا أو فترة الناصرية في مصر، والمحنة الكبيرة أن جيلاً من الأكراد أو جيلين تربوا تربية لا تمتُّ إلى قيم المنطقة الحقيقية بصلة، فلا يعرف الفرد منها لغة ولا ثقافة وهو يردد ما يمليه عليه العلمانيون الذين يسيِّرون دفة الأمور. يتحير أمثالنا في توجيه شبابنا المتبقي: أنوجههم فكرياً أم سياسياً، أم نعلمهم ألف باء الشرع، أم اللغة العربية، أم نواجه بهم الغزو العسكري والسياسي والفكري الذي جاءنا طوفاناً وهم فقراء الفكر والمال؟
البيان: أخذ مشروع الفدرالية مساحة واسعة من التوجهات السياسية في العراق، وقد سيطرت قوات كردية على مناطق حارج إقليمها في ديالى والموصل وغيرهما؛ فهل تجدون من مصلحة الشعب الكردي المسلم الانفصال عن الدولة العراقية؟
٣ الفدرالية جاءت حلاً سياسياً وإدارياً لمشكلات (إثنية) في بلدان كثيرة، وجاءت في الأوقات الصحية للشعوب، وهي أقل من نظام الولايات الإسلامية التي كانت مطبقة في زمن العباسيين؛ حتى في الفترات المختلفة من تاريخ الدولة العثمانية؛ وفي زمن السلطان عبد الحمد الثاني ـ رحمه الله ـ مثلاً؛ حيث سار على ما سمي في زمانه بـ (الإيالات) واستمر الأمر على ذلك حتى انقلاب العلمانيين عليه في ١٩٠٨م. والفدرالية التي ينادي بها أكراد العراق لا أرى فيها ضيراً، على ألا تهضم حقوق الآخرين، وألا يكون على حساب الآخرين، وأن يؤيدها أغلبية الشعب الكردي، وأن يقتنع بها اغلبية العراقيين كي تنجح لتكون مثالاً إدارياً؛ لأن عودة مركزية صارمة لحكومة عراقية في بغداد ـ وإن كنت أراها بعيدة في الوقت الحاضر ـ لا أراها إلا صولجان فرعون يعيدنا إلى الحكم البوليسي لتوتاليتارية البعث، وتجربةُ الأكراد مع الحكومات المركزية في بغداد مُرَّة بالمرة.
أما أن الأكراد سيطروا على مناطق خارج إقليمهم، فيحتاج أولاً أن نحدد الإقليم، وأين حدوده ومن يرسمه، وحسب أي قياس؟ فمثلما بالإمكان أن يقال إن إدارة الأكراد ضمت (قضاء خانقين) في ديالى أو (قضاء مخمور) في صلاح الدين إلى المنطقة الكردية، فكذلك يمكن أن يقال إن حكومة العراق الحالية الموالية للاحتلال لا تريد إعادة جغرافية السكان في محافظات الموصل وكركوك وديالى وصلاح الدين إلى سابق عهدها. واليوم عندما يقول الأكراد إن خانقين ومخمور كانتا قبل البعث من ضمن إقليم كردستان وجاء ضمهما إلى غير المحافظات الكردية خطة لحكومة البعث لتشتيت الوجود الكردي في بعض المحافظات وللحدِّ منه في محافظات أخرى؛ فهي آراء لا تكون بعيدة عن الواقعية إن ساندها دليل.
أما الانفصال عن الدولة العراقية، فرغم أنه في الوقت الحالي غير واقعي؛ لكنني أراه ـ من وجهة نظري ـ حلاً لإنهاء الدم المهراق منذ ثمانين سنة عندما شكَّل الإنجليز العراق بجغرافيته الحالية، وأتى تشرشل بعد مؤتمر القاهرة في ١٩٢١م بالملك فيصل حينها من أشراف مكة ونصبه ملكًا على العراق، ورضي الشيعة به مثل رضاهم اليوم بجلال الطالباني؛ كان الأكراد يومها في سعيهم لتشكيل دولة خاصة بهم، تنفيذاً للفقرة الرابعة من اتفاقية سيفر ١٩٢٠م، ولم يرَ الملك فيصل نفسه قادراً على حكم الأكثرية ما لم يضم إلى حكمه الأكراد باعتبارهم سنة بحيث يصبحون مع الثلث السني العربي نصف العراق أو أكثر، فيحصل التوازن النسبي لمقبلات الأيام، فصار ما صار بإلحاق ولاية الموصل (التي كانت تضم كل كردستان العراق اليوم وزيادة) إلى حكومة بغداد، وحاول الأكراد من يومهم الاحتفاظ على الأقل باستقلالية مناطقهم كأقل محصول. ومنذ ذلك اليوم والحكومات العراقية المتعاقبة تحاول السيطرة على الأكراد وكردستانهم بالقوة، وتطبيق قرارات المركز عليهم، وهم لا يشتركون مع المركز في صنع القرار السياسي، بل كل قرار يأتي معاكساً لأبسط آمالهم. فانفصال الأكراد يريح العرب والتركمان وغيرهم. أما إن كان ذلك غير ممكن اليوم، كما يدعي قادة الأكراد القوميون، فهلاَّ أصبحوا جديّاً عراقيين، ودخلوا معمعة صراعاته برجولة واقتدار! أما مواقفهم الحالية من العراق وما يجري في بغداد فمشينة إلى أبعد حد؛ حيث ينفذون المثل الكردي الذي يقول: (حصتي لي، وآكل مع حصتك) ! فإن كانوا عراقيين فليتصرفوا كعراقيين شرفاء ويتحملوا مسؤوليتهم التاريخية في الواقع العراقي الحالي، لا أن يستغلوا تحري العربي الأمانَ في بلادهم ليطالبوه بالإقامة في السليمانية أو أربيل وهما محافظتان عراقيتان؟! وإن كانوا لا يعتبرون أنفسهم عراقيين كما يوجهون الأكراد ليل نهار فلينفصلوا إن كانوا أحراراً ويريدون إنشاء دولة كردية ويتحملوا عواقب ذلك. أما أن يتأرجحوا لمصالح فليتحروا من أين تؤكل الكتف فهذا عار وشنار يسجله التاريخ عليهم.
البيان: مضت أربعة أعوام تقريباً على المقاومة في العراق؛ فهل ترون مسيرة المقاومة الآن في تقدم، أم في تراجع سواء من ناحية العمل العسكري أو الجغرافي وانتشار المقاومة؟
٣ مسيرة المقاومة العراقية مسيرة مشرفة جداً، وكانت أكثر من المتوقع، طوبى لهم! أرى مثل غيري، ويشترك معنا خبراء عسكريون وكُتَّاب ومحللون في نيوزويك وغيرها مثلاً ـ أرى خطاً بيانياً صاعداً في النشاط الجهادي للمقاومة خلال السنين الثلاث المنصرمة، وأرى التوسع في أفق قادة المقاومة الفكري والسياسي، ومزيداً من استيعاب القضية وأبعادها المتعددة نتيجة الدروس الواقعية المخضبة بالدم، وأرى فصائل المقاومة تتقارب بعضها من بعض؛ فأنتم ترون تقارب الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين والجامع وجيش الراشدين، وترونها فصائل متقاربة فكرياً وسياسياً وربما جغرافياً أيضاً، وبعض الفصائل الأخرى القريبة من المجاهدين أو من أنصار السنة هم كذلك. هذا وإن كان الأمر يحتاج إلى المزيد من توحيد الجهود، ولكنَّ من يعرف حجم العمل الجهادي وهو في واقع معقد وخطير مثل واقع العراق اليوم يرى أن هذا التقارب ثمرة جهد لا يستهان به؛ لأن الناس تربوا في جو بعث فرعوني لم يكن من السهل إجراء لقاءات موسعة لتلاقح الآراء وتوحيد العمل التنظيمي والتخطيط لكيفية توجيهه.. وهذا لا يمنعنا من أن نبدي ملحوظة أيضاً بأننا خارج التشكيلات المجاهدة نرى في الفترة الأخيرة شيئاً من تنازل الخط البياني للنشاطات المؤثرة قد يكون سببه تقوقع الاحتلال، في معسكرات حصينة، وسعة انتشار قوات الحكومة التابعة للاحتلال، والانشغال برد الهجمات الهمجية لميليشيات الشيعة، وكثرة الاجتماعات السياسية وغيرها، ولكنني أرى بصورة عامة المقاومة العراقية أوعى من كثير من فصائل إسلامية مقاومة في بعض بلدان المسلمين، وهذا هو المتوقع والأمل بعد الله ـ تعالى ـ فيهم، وهذا قَدَر المقاومة العراقية التي امتُحنت بأسئلة أصعب مما امتُحن به غيرها، امتحان المقاومة ينسجم مع مستواها الاستيعابي الفكري والسياسي في مرحلة الأمة التاريخية هذه. أسأل الله ـ عز وجل ـ أن يرعاهم بمعيته، وأن لا يَكِلَهم إلى غيره طرفة عين، وأن لا يخيب آمالنا فيهم.
أما من ناحية الانتشار؛ فوالله يا أخي! لا يلامون على عدمه؛ لأن الانتشار العسكري الناجح تخاف منه الجيوش النظامية، ألا ترى كم عقد الألمان من جلسات برلمانهم حتى وافقوا على خروج بعض قواتهم من كابول إلى ولاية قندوز؟ ألا ترى كم يحسب البريطانيون حساباً لإعادة انتشارهم لما بعد وقبل مارس؟ المقاومة تتمنى الانتشار جغرافياً لما فيه من إرهاق عدوها، لكن لا ينبغي أن يكون الانتشار انتحاراً؛ كم تمنيت أن تعود بعض كتائبنا إلى كردستان لإنشاء مأوى للمحرومين من جديد، ولتبدأ جولة جديدة من إثبات الذات بحول الله ـ تعالى ـ وقوته؛ ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
البيان: من المعلوم أن كل حرب أو احتلال ينتهي بتفاوض وانسحاب متفق عليه، والوقائع الكثيرة تدل على أن قوات الاحتلال تبحث عن مخرج لها في العراق؛ فهل هناك نية توحيد لفصائل المقاومة وإعلان واجهة رسمية تفاوض عنهم لجني ثمار هذا الجهاد بخروج المحتل؟
٣ في عام ١٩٨٩م سألت أحد الدعاة المشهورين بعد جولة له مطولة أوصلته إلى الصين والاتحاد السوفياتي، قلت له: هل ترى الروس صادقين في قرار الانسحاب من أفغانستان وهم بقوا سنين أطول في بلدان أخرى احتلوها؟ قال: إن الروس يريدون أن يزحفوا على بطونهم فراراً من أفغانستان، لكنهم يخافون أن يتبعهم أهل الجهاد إلى عقر دارهم. وهذا الكلام ينطبق تماماً على المحتل الأمريكي أيضاً؛ فهم دخلوا العراق بغطرسة وغرور نابعين من الشعور بالاستعلاء العسكري، ونسوا أن في أمتنا استعلاء إيمانياً لا يفوقه استعلاء. أمتنا المسلمة هي الوحيدة بين الشعوب والأمم التي لم تتأثر بالمحتل مهما طال احتلاله ولم ترضَ بأنصاف الحلول معه، ألم يبق الصليبيون في بلاد أمتنا ٩٨ سنة؟ ألم يبق الاستعمار الفرنسي في الجزائر ١٣٠ سنة؟ أين هم وما الذي تركوه من بصمات على رؤية المجاهدين في الصراع حسب أدبيات أمتنا العقائدية؟ لا شيء!
نعم! إن الحرب ستنتهي مهما طالت، والمقاومة بإذن الله ـ تعالى ـ ستنتصر، وستدخل بعدها مرحلة أخرى أصعب تطول أو تقصر تحمي فيها ثمرة جهادها، وتكمل مسيرتها نحو الهدف الرباني المنشود، وهذا يتطلب اليوم من المقاومة تصرفاً مسؤولاً يتغاضى ـ توحيداً للكلمة وتجميعاً للطاقات ـ عن بعض حقوقها لمن هم في الساحة معها، لكنهم يريدون الدنيا من الآخرة على أن لا يكونوا عصابة تجني الثمر عنوة أو خلسة أو مؤامرة.
على قيادة المقاومة أن تكظم غيظها وتعلق جراحها وتترفع عما يبدد هالتها المضيئة التي حاكها الجهاد حولها. عليها أن تسرع في توحيد رؤى الفصائل وفي تقديم مشروع دولة متكامل، وأن تهيئ واجهاتها من الآن حتى لا يحدث الهرج والمرج فيختلط شعاع الصابر الصادق مع لمعان مزيف يركب موجة العواطف.
نعم! إن الأمريكان في مأزق حقيقي، واستراتيجية بوش الأخيرة ليست استراتيجية، بل هي تكتيكات الاستراتيجية الأمريكية القديمة نفسها وهي مجربة سلفاً، لكنهم يستخدمونها كآخر رمية؛ والله أعلم. فلئن صبرت المقاومة واصطبرت على جهادها، وطال الزمن على الاحتلال فأرى ـ والله تعالى أعلم ـ أن الاحتلال سيغادر المنطقة العربية العراقية قبل انتهاء سنة ٢٠٠٧م.
أما بالنسبة للتفاوض فلا مانع أن يكون للمقاومة جناح للتفاوض من المدنيين الذين تثق فيهم أغلب فصائل المقاومة من الذين ظهروا، أو من الذين لم يظهروا؛ على أن يعود توقيع كل شاردة وواردة إلى قادة المقاومة حصراً.
اللهم جبارَ السموات والأرض أرنا في قوات الاحتلال الظالمة عجائب قدرتك، وأنزل نصرك الذي وعدت به عبادك المؤمنين على إخواننا المجاهدين الصادقين في كل مكان؛ فقد صرنا ربنا أحوج مما مضى إلى ظل الشريعة نستظل بها في حر الجاهلية ونكشف للناس حقيقة سرابها.