من واقع العمل الإسلامي
[رؤية نقدية]
صالح علي بن الكناني
إن الناظر في مسيرة العمل الإسلامي خلال السنوات الأخيرة، يدرك الحال
التي بلغها بعض الدعاة والأتباع، حتى أراحوا أعداء الإسلام، ووفروا عليهم كثيراً
من الجهود، في تفريق الكلمة، وإلقاء بذور العداوة والشقاق بين المسلمين، وهذا
هو التفسير الظاهر لتأخر النصر عن المسلمين، بل وتتابع الهزائم عليهم كل في
كل حين.
ولقد يتهمني البعض بالتشاؤم والغض من الصحوة المباركة التي تبدو في كل
أرجاء بلاد المسلمين، فأقول: مهلا رعاك الله! ولا تعجل على وتأمل كلامي بعين
متجردة، وبصيرة نافذة، فما كان فيه من حق وصواب فما أحراك بقبوله، وأنت
المسلم الذي تعبدك الله باتباع الحق وقبوله، وما جانب الصواب من قول فاردده
عليَّ، وأرشدني إلى الحق فمثلك من نصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، واعلم أنني ما أردت إلا خير هذه الأمة، فإن وفقت فمن الله وحده
التوفيق، وإن غير ذلك فالنفس الأمارة، والشيطان المضل، [واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ
وهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ] [الأحزاب: ٤] ، وقد لمست في هذه المقالة بعض مواجع
العمل الدعوي الإسلامي، ولم أُحِط بجميعها علماً ولا بياناً، فأول هذه المواجع:
١ - التحزب والحزبية:
إن كل من دعا إلى الله على بصيرة، مخلصاً القصد لله تعالى، مسلماً لله
بالغلبة والتمكين والفلاح [ومَن يَتَوَلَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الغَالِبُونَ] [المائدة: ٥٦] [أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] [المجادلة: ٢٢] فلا نكران إذن لمبدأ التجمع على الحق، بل هو ركن أساسي في
العمل الدعوي الإسلامي، لا يحتاج في تأصيله إلى كبير بحث واجتهاد، ولا يفقد
من الأمة في كل عصورها وأطوارها، إلا حين لا يوجد للمسلمين جماعة ولا إمام،
حين تعم البدع والأهواء والنحل المضلة، في فترات الضياع والفتن الكبرى، حين
يغيب الحق، ويندرس الشرع، عندها يكون المسلم المتمسك بالهدى الرباني هو
وحده (حزب الله) .
ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى العلم، أصبحوا يفتون الناس بعدم
شرعية الانتماء جماعة إسلامية، بعدم شرعية وجود الجماعة الإسلامية أصلا، ولو
أنهم أفتوا بحرمة التعصب لجماعة بعينها، لها يوالي المسلم وعليها يعادي، لكان
لفتواهم قبولاً ووجاهة، وماذا يصنع هؤلاء بمناهج. الدعوة في القران الكريم،
وطرائق الرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأحاديث الطائفة الناجية المنصورة،
ألم يجدوا في كل ذلك ما يبرر قيام جماعة إسلامية تدعو إلى الله على بصيرة، وهل
كل هذا جهل بهذه الأصول؟ .
أيحل لكل الدعوات الأرضية، ولكل أعداء الأمة المحمدية، تكوين
التنظيمات الدقيقة، ويمنع هذا عن الأمة الربانية؟ .
أحرام على بلابله الدوح ... حلال للطير من كل جنس؟
إن تناصر المسلمين، وتآزرهم وتعاونهم على البر والتقوى، وقيامهم بأمر
الله جماعة وفرادى، أمر لازم - لانتصار دعوتهم، وإقرار منهجهم في الأرض،
وإنما المرفوض كل. الرفض هو هذه الفرقة الحادثة بين المسلمين، المرفوض أن
تقوم جماعة فتدعي أنها وحدها على الحق، أو أن الحق لا يخرج عنها، ثم تغرس
هذا في أذهان أتباعها، وتضع لهم شارة خاصة، اسماً أو معنى، ثم توالي محليه
وتعادي، وتكرس لدى أفرادها أن (من لم يكن معنا فهو علينا) وهذه والله حزبية
بغيضة، ليست من حزب الله الكامل، بل هي إلى النوع الآخر أقرب، النوع الذي
قال الله فيه: [فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] [المؤمنون: ٥٣] ، وحين تصبح الحزبية تسير على هذا المنحى تكون علة ومرضاً سرطانيا،
تجب مقاومته واستئصاله، [حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ويَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] [البقرة: ١٩٣] ، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية حين نبه إلى هذا المزلق الخطير، الذي يفضي
إلى تمزيق الأمة الواحدة، ويعصف بكيانها، ويقود إلى فنائها واضمحلالها، فها هو
يقول:
(وليس لأحد أن يعلق الحمد والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة،
والصلاة واللعن، بغير الأسماء التي علق الله بها ذلك: مثل أسماء القبائل،
والمدائن، والمذاهب، والطرائق المضافة إلى الأئمة والمشايخ ... ) [الفتاوى ٢٨
/ ٢٢٧] .
فكيف لو أدرك ابن تيمية زماناً لا يقبل فيه الحق والنصح إلا إذا جاء من فرد
منتسب إلى الجماعة المنصوحة، أما إذا جاء الحق والنصح من خارجها رُدَّ على
قائله ولو كان من أبر الناصحين؟ وكيف لو أدرك زمانا أصبح اسم الجماعة فيه
مقدسا أعظم تقديس؟ ! .
٢-- التأطر السياسي:
لقد كتب على أمة الإسلام في الأزمنة المتأخرة أن تعيش قطعانا متفرقة، لكل
قطيع حظيرة تخصه دون سواه، وأطلق على هذه الحظيرة اسما (وطنيا) يفصلها
عن غيرها، وحددت هذه الحظيرة بحدود سياسية، وأرضع الأطفال حبها مع لبن
أمهاتهم، ولقنوا قبل محبة الله ورسوله محبة الحظيرة، وألفت الأناشيد التي تشيد
بالحظائر وبنعيم العيش فيها، وهذا الوضع المؤلم ألقى بظلاله على كثير من
الدعوات في الجملة وفي الفروع، فصارت دعوات قُطرية، إذا حاضر علماؤها
الناس حاضروهم عن الدعوة ضمن حدود الحظيرة، أهدافها وسماتها ومشكلاتها
وملامحها...، وقليل هم الذين ينطلقون. من عالمية هذا الدين، وشمول الرسالة
الإلهية لكل الناس والأزمان والأوطان، -حتى أفتى بعض هؤلاء المتأطرين بأنه لا
يجوز أن تكون الدعوة إلا من المسجد: منه تبدأ وإليه تعود، ونحن لا ننكر دور
المسجد وأهميته، ولكننا لا ننكر أيضاً أنه قد عطل دور المسجد في بعض البلاد،
حتى أصبح من يقصده للصلاة فقط، عرضة للقتل والسجن والتشريد والتعذيب،
أفنجحد دور (دار الأرقم بن أبي الأرقم) في مثل هذه الظروف؟ وننسى ما يعيشه
إخوان لنا من حولنا، هذا عن بعض الدعاة والمشايخ، فماذا عن الصحف الإسلامية
والكتب الدعوية؟ لم يسلم شيء منها من هذه القطرية-إلا من رحم ربك، وقليل ما
هم - وهذا في نظري من أعظم مكاسب النظم التي يسوؤها أن يسود الدين، وأن
تعود الأمة إلى وحدتها وقوتها.
وإذا كان البعض ينتمي إلى لافتات كبيرة لا تختص بوطن معين، ولكن
مدلولها بقي ضعيفاً لأن نفس المرض يعتريها وهو التعصب للأشخاص والأسماء،
ومبدؤها الذي رفعته: (سلمني رايتك) يخرب عليها التعاون والالتقاء على كلمة
سواء، وكان الأمثل هو قبول مبدأ الحوار والتأصيل، وإذن لتكونت جبهة عريضة
من أهل الإسلام يحسب العدو لها ألف حساب.
٣- تشتت المناهج العلمية والتربوية:
مما يزيد في فرقة المسلمين، وتباين الجماعات التي تربي كل جماعة أفرادها
عليها، حتى أصبح بإمكان الناظر في هؤلاء الأفراد أن يميز بين أتباع جماعة
وأتباع جماعة أخرى، أحيانا بالنظر الأولي، أو بمحادثة يسيرة، مما يوحي
بتفاوت المناهج التي تلتزمها كل جماعة في دعوة أفرادها وتربيتهم، أفلا يمكن حتى
في هذه الناحية أن يتفق أئمة هذه الجماعات على مناهج موحدة في العلم والتربية،
تضمن لنا السير في طريق الوحدة المنشودة، فضلا عن كونها تحفظ كيان الجماعة
الواحدة من التمزق ونشوء المدارس المتباينة.
٤- قصور التخطيط وقصر النظر:
إن العمل الإسلامي المعاصر والقائمين عليه ينقصهم التخطيط المحكم الدقيق،
وتقوم عامة أمورهم على الارتجال، وعلى الاستجابة، الفورية العاجلة للمؤثرات
والأحداث العارضة، حيث يصبح الحدث العارض بمثابة مرور قضيب المغناطيس
بقرب كومة من برادة الحديد، فلا تلبث أن تنجذب كلها إليه لعدم تماسكها وقوتها
وثباتها، وإني ليأخذني العجب مما أرى لدى أعداء الإسلام من حسن التخطيط،
وبعد النظر، ووضع جميع الممكنات والاحتمالات في الحسبان، وأتساءل: ألا
يمكن للعاملين للإسلام أن يستفيدوا مما لدى أعدائهم من خطط وطرائق تنسجم مع
أهدافنا وديننا؟ وأين هي العقليات المفكرة لدى المسلمين التي تجعل الصعب سهلا،
والعسير يسيراً بإذن ربها؟ .
وبعد: فليست هذه كل عللنا وأمراضنا، فهناك الكثير الكثير، الذي قد يرى
النور يوما ما، ولكل أجل كتاب:
- فيا دعاة الإسلام وجماعاته: اتحدوا تنصروا.
- ويا حاملي راية السنة والجماعة: اعتصموا بالكتاب والسنة تفلحوا.
- ويا قادة الجماعات الإسلامية: لينوا في أيدي إخوانكم تصلوا.
- ويا أتباع الدعوات الإسلامية: انبذوا التعصب والفرقة تسعدوا.
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله
رب العالمين