متابعات
[سيرة عالم ودعنا]
د. طارق بن محمد عبد الله الخويطر
يوم السبت الموافق السابع عشر من شهر ذي الحجة من عام تسعة عشر
وأربعمائة وألف فقد المسلمون عالماً جليلاً، ومربياً فاضلاً ومعلماً حكيماً، وقد أبكى
هذا الحدث الصغير والكبير، والقريب والبعيد، رأينا في المقبرة أناساً حضروا
للصلاة والدفن ممن لم يروا الشيخ أبداً، ومع ذلك؛ فقد ملئت قلوبهم بمحبته بسبب
سماعهم لسيرته الحسنة وأخلاقه الفاضلة، ولم يخطر ببال أحد أن يرى هذه الأمواج
من الناس الحاضرين لأجل الصلاة والدفن؛ فكل يوم يُفقد أناس ولكن لم يعهد هذا
الحضور المزدحم في الشوارع وفي المسجد حتى صلت جماعات بعد الإمام لعدم
تمكنهم من الصلاة معه، ومن رأى هذا الموقف تذكر كلام العلماء السابقين رحمهم
الله فقد وصفوا جنائز العلماء بأنها مشهودة من خلق كثير، ولذا؛ قال الإمام أحمد
بن حنبل رضي الله عنه لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز) فخرج في جنازته بغداد
كلها، وخرج في جنازة ابن أبي دؤاد وهو من أشعل نار الفتنة خرج معه ثلاثة
رجال، دفنوه في جنح الظلام خائفين، ولعل طلبة العلم وغيرهم ممن رأى ذلك
الجمع المشهود أحبوا أن يتعرفوا على شخصية الشيخ ليسيروا في طريق المجد
فأقول:
ولد الشيخ رحمه الله في عام ١٣٤١هـ من أبوين صالحين، تُوفي والده
وعمره ١٣ عاماً، فحضنته أمه الصالحة، وأحسنت تربيته؛ فعكف على القرآن
الكريم حتى حفظه حفظاً متقناً، ثم سافر إلى الرياض لحضور حلقات سماحة الشيخ
محمد بن إبراهيم رحمه الله فلازمه مدةً حفظ خلالها أهم المتون العلمية في: الفقه،
والعقيدة، والحديث، والنحو، حتى كوّن قاعدة علمية صلبة، وذلك راجع إلى
فضل الله جل وعلا ثم إلى جَلَده وصبره من أجل العلم؛ فقد كان يردد حفظه في
أوقات نوم الطلاب بعد الظهر وبعد العشاء فجمع في فترة قصيرة حفظاً وفهماً ميزه
عن بعض زملائه.
وقد نُقِل للشيخ محمد بن إبراهيم مثابرته وجده في التحصيل فعينه قاضياً في
سدير عام ١٣٦٨هـ، فذهب إليها وبقي فيها نحو أربع سنوات. ومع صغر سنه
ذلك الوقت إلا أنه رحمه الله عقد للناس دروساً في الفقه والعقيدة والحديث؛ وقد
أحبه الناس هناك لمّا رأوا علمه وتواضعه، فطلبوا من سماحة الشيخ محمد بن
إبراهيم إبقاءه عندهم للفائدة التي لمسوها من وجوده.
انتقل بعدها إلى محكمة شقراء وتوابعها، ثم درّس في المعهد العلمي بشقراء
لما افتُتح وبقي في شقراء حتى عام (١٣٨١هـ) حيث انتقل في آخر ذلك العام إلى
رئاسة محاكم الإحساء فكان قاضياً وإماماً وخطيباً، ثم انتقل إلى العمل في مجلس
القضاء الأعلى وبقي فيه حتى طلب التقاعد في أواخر عام (١٤٠٩هـ) .
وقد انضم رحمه الله إلى هيئة كبار العلماء عند تشكيلها وذلك عام ١٣٩١هـ،
ومنذ ذلك العام كانت له مشاركة في برنامج (نور على الدرب) في الإذاعة السعودية.
كانت له مكاتبات مع الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله وكانت له صلة
بأصحاب الفضيلة العلماء الشيخ محمد بن مانع، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ
عبد العزيز بن باز، وقد صدر له رسالة صغيرة بعنوان: قتل الغيلة عام ١٤١٩ هـ، وهي وجهة نظر قديمة للشيخ. حرر فيها مذهب المالكية والذي اعتمده مَنْ
قال إن القاتل غيلة يُقتل حداً، ولا يجوز العفو عنه. وفي الطريق إن شاء الله إلى
الظهور فتاوى (نور على الدرب) ومقالات بعض العلماء والأدباء في ترجمة الشيخ.
وقد خلّف أولاداً قد استفادوا من سيرة والدهم فمنهم: المهندس، والضابط،
والمدرس. نسأل الله له المغفرة والرحمة، وأن يرزقه الحسنى وزيادة؛ إنه ولي
ذلك والقادر عليه.