نقد على نقد
نقد ظالم.. ونقد نائم
محمود مفلح
يبدو أن صوت النقد في صحافتنا الأدبية الإسلامية وعلى أقلام كتابنا خافتٌ
جداً، ومهما حاولت أن تُصغي إلى هذا الصوت فإنك لن تظفر بشيء ذي بال،
على أن هذا الصوت لدى الآخرين قويٌ، واضح النبرات، شديد التأثير حيث
تبلورت خطوطه، وتحددت توجهاته، واستقرت كذلك رموزه.
ولا أبالغ إذا قلت ومن خلال متابعتي المتواضعة لما يصدر هنا وهناك من
صحافة أدبية أقول لا أبالغ إذا قلت: إن المرحلة الراهنة هي مرحلة النقد، وإن
القوم جادون في تأسيس نظرية نقدية تناسب رؤيتهم ومنطلقاتهم، وهم مشغولون
بتأصيلها، يقيمون تنظيراتهم على ضوئها، ويُجرُون كذلك التطبيقات اللازمة على
نصوص يختارونها من أجل دعم هذا التوجه النقدي وترسيخه.
حتى ظهرت أسماء نقدية مهمة لا نستطيع أن نتجاوزها، أو نقفز فوقها أو
نستهين بمجهوداتها الدؤوبة في مشرق الوطن العربي ومغربه، وإن المتأمل كذلك
فيما يُكتب من نقد هنا وهناك لابد وأن يلاحظ أن ثمة اتفاقاً وإجماعاً على توجه نقدي
معين، وأن ثمة جسوراً تقام بين هذا الناقد وذاك، فكأن هذا هو الصوت، وذاك
هو الصدى في تناغم عجيب، واتفاق يبعث على الدهشة!
وإن النصوص التي يختارها هؤلاء النقاد تدور كلها في فلك الحداثة والتغريب، والأشكال التعبيرية الجديدة، التي يكتنفها الغموض، ويُشكل لحمتها وسُداها اللغز
والأسطورة والسحر، و «يفلسفون» لها ويؤولونها ويحاولون جاهدين أن يُقنعوا
القارىء بأهميتها وريادتها.
حتى أصبحنا نسمع بأسماء شعراء وقصاصين وروائيين ظهروا على الساحة
فجأة، بجهود هذه الأقلام النقدية الدؤوبة في التلميع والترصيع..!
وظهرت على الساحة كتب تحمل سمات هذا الاتجاه النقدي، تُبشر بها
الصحافة، ويكتب بعضها عن بعض، وكلها تنويعات على وتر واحد، إلا أن
طابعها الإصرار والالتزام.
وكل النصوص التي تتناولها هذه الدراسات إبداعية ومعاصرة ومهمة وجديرة
بالقراءة ... إلا النصوص الإسلامية! ! أو ما يقترب منها، فإنها في زعمهم فقيرة، متخلفة، فجة، تغلب عليها الخطابية والسطحية وهي تجافي روح الفن، وتتنافى
مع الحساسية الجديدة، والرؤية المعاصرة! !
إنه حصارٌ محكم، سبق التخطيط له، والاتفاق عليه، في لقاءات أدبية تمت
وتتم هنا وهناك.
وهو واقع نقدي مؤثر حفر مجراه، وظهرت نتائجه، قَبلْنَا ذلك أم رفضناه،
فرض نفسه على الساحة الأدبية بقوة، ولا تكاد تخلو مطبوعة أدبية واسعة الانتشار
من هذا التوجه النقدي الحديث.
حتى أصبح القارىء يُردد عن وعي ودون وعي مقولات هؤلاء النقاد ويتأثر
بالنصوص التي يعرضونها، ويعرف الكثير من الأسماء التي تمارس هذا النقد،
وتشتغل به.
وفي الجانب الآخر ترى النقد الإسلامي وللأسف البالغ مازال يحبو وليته يحبو
بنشاط وحيوية.
واستعرض إذا شئت الصفحات الأدبية الإسلامية في أي مطبوعة تشاء فإنك
قلّ ما تجد دراسة أدبية جادة عميقة ذات رؤية نقدية واضحة، تنسجم مع قيمنا
الحضارية وتعطي لهذا العمل أو ذاك حقه، ولن تجد كذلك توجهاً نقدياً عاماً واضح
المعالم، ولن تجد أيضاً وأقولها بمرارة، أسماء نقاد جادين دؤوبين مخلصين لهذا
الفن أو ذاك، رغم أن النتاج الأدبي الإسلامي معافى ومقروء ولا يخلو من جماليات
تستحق أن يتوقف عندها النقد.
ورغم أن الأساتذة الجامعيين الذين يحملون شهادات عليا في النقد الأدبي كُثر
والحمد لله وفيهم القادر على النهوض بهذا العبء، لو نفض عنه غبار الكسل
وتجرد لهذه المهمة، وإن تجربتي في هذا الصدد مع بعض هؤلاء الأساتذة الأفاضل
للأسف غير مشجعة، إذ قمت عندما صدر ديواني الجديد «نقوش إسلامية على
الحجر الفلسطيني» بإرسال نسخ منه إلى خمسة من هؤلاء الأساتذة، وطلبت منهم
في عبارة رقيقة أن يتفضلوا بالكتابة عن هذا العمل سلباً أو إيجاباً، إذ أن الشاعر لا
يطمئن على تجربته الإبداعية حتى يسمع قول النقد فيها.
وانتظرت شهوراً وشهوراً، ولم يصلني من أحد منهم وريقة تشعر أن الديوان
قد وصل فضلاً عن القيام بالكتابة عنه، رغم أن حظي أفضل من غيري في هذا
الصدد.
وأنا أعرف عشرات الأعمال الأدبية الإسلامية قد صدرت هذا العام والعام
الذي قبله، ولم ينهض لها النقد، ولم يقترب منها رغم أهميتها.
فالإبداع في واد والنقد في واد، ومازال بعض نقادنا مشغولين بتنظيراتهم،
ورؤاهم، وتعريفاتهم ومصطلحاتهم، ولم يكلفوا أنفسهم مقاربة النصوص الإبداعية، أو الحديث عنها، حتى نهض بهذه المهمة أخيراً أو ببعضها الشعراء أنفسهم
تعريفاً وتطبيقاً.
ولا أريد أن أدلل على أهمية النقد برواية «الذئب» ، التي كتبها أديب
إيطالي مغمور، ورفضت جميع دور النشر في إيطاليا طباعتها مما جعل صاحبها
يتأثر تأثراً عميقاً أدى به إلى أن أصيب بنوبة قلبية مات على إثرها، حتى سمع
بالرواية ناقد شهير، أعجب بها فكتب لها مقدمة ضافية، ودفعها إلى دور النشر
فلاقت رواجاً كبيراً، وإقبالاً من القراء عجيباً، وترجمت إلى جميع لغات العالم،
وصدرت منها حتى الآن الطبعة الخامسة والأربعون..
فالنقد هو الذي يعطي العمل الأدبي قيمته، ويضيء أبعاده ويخط له مساراته
الإبداعية الجديدة، بالإضافة إلى أن الناقد يمارس عملاً إبداعياً جديداً لا يقل متعة
وأهمية عن العمل المنقود.
وما لم تكن هناك حركة نقدية جادة ومستمرة، تواكب الأعمال الأدبية وتعلن
عن ولادتها، وتمنحها شرعية القبول، فإن الأدب الإسلامي عندنا سوف يظل يسير
على قدم واحدة.