ندوات ومحاضرات
التعليم بالمغرب على مفترق الطرق!
(٢ - ٢)
أعد الندوة: د. فريد بن الحسن الأنصاري [*]
في الحلقة السابقة دار الحديث حول مفهوم التعليم وعلاقته بالتربية، ثم معركة
التربية الإسلامية في المغرب. وتطرق الحديث بعدئذٍ إلى ما سمي بالمسودة الأولى
لإصلاح التعليم واقتراح مادة الحضارة الإسلامية. ثم تحول الحديث إلى الموازنة
بين حرية التعليم والقيم الثابتة. وفي هذه الحلقة يتابع أهل الندوة الحديث عن
التعليم في المغرب.
- البيان -
ضيوف الندوة:
- د. خالد الصمدي: رئيس قسم الدراسات الإسلامية، وأستاذ التعليم العالي
بالمدرسة العليا لتكوين الأساتذة، جامعة عبد المالك السعدي بتطوان المغرب.
- د. حسن العلمي: أستاذ كرسي الحديث والفكر الإسلامي، جامعة ابن
طفيل بالقنيطرة المغرب.
- الشيخ الداعية أبو سلمان محمد العمراوي: عضو رابطة علماء المغرب.
- الأستاذ أحمد إبراهيم: أستاذ العلوم الطبيعية بمدرسة المعلمين بمدينة
مكناس المغربية.
(البيان) : عرف تعريب التعليم بالمغرب تعثراً شديداً؛ بسبب تعصب الفئة
الفرنكوفونية لمصلحة التدريس باللغة الفرنسية، فكان أن عُرِّبَ في خضم الصراع
السياسي بعض مراحل التعليم، تعريباً جزئياً لم يسلم من انتقادات، وبقي الآخر
فرنسياً على ما كان عليه في العهد الاستعماري؛ فإلى أي حدٍّ يمكن أن يلعب
التعريب فعلاً دوراً حقيقياً وفعالاً في معركة الهوية بالمغرب؟ ثم إلى أي حد يمكن
اعتبار ما تدعيه الفئة الفرنكوفونية من أن التعليم باللغة الفرنسية يسهم في تطوير
القدرات العلمية للتلاميذ، وكذا قدرتهم على المواكبة العالمية؟
- د. خالد الصمدي: أعتقد أن الإشكال بخصوص هذه النقطة يسير في
اتجاهين: الاتجاه الأول هو لغة التدريس، والاتجاه الثاني هو تدريس اللغة. فيما
يتعلق بالجانب الأول، وهو لغة التدريس؛ فشيء عادي وطبيعي في مجتمع عربي
إسلامي أن تكون لغة التدريس هي اللغة العربية. هذا من حيث المبدأ، مع الانفتاح
طبعاً على تعلم اللغات الأخرى. بالنسبة لنظامنا التعليمي في المغرب، بعد عهد
الاستقلال، كانت مجموعة من المواد الأدبية والإنسانية تدرس باللغة الفرنسية
كالتاريخ والجغرافيا والفلسفة، بالإضافة طبعاً إلى المواد العلمية المعروفة،
كالكيمياء والفيزياء والرياضيات، وغير ذلك. وكان كل ذلك بدعوى تحديث النظام
التربوي، والنظام التعليمي بالمغرب. وبدعوى أن هذه العلوم نفسها نشأت في
محاضن الغرب. إذن شيء طبيعي أن لا تستوعب إلا بلغة الغرب. لكن هذا
الطرح فاسد من أساسه، على اعتبار أن اللغة الفرنسية الآن تراجعت بشكل كبير
جداً، حتى على الصعيد العالمي، في البحث العلمي والتكنولوجي، وأصبحت
الصدارة للغة الإنجليزية. إذن ليس هناك مسوغ لكي نقول: إن التدريس باللغة
الفرنسية سيساهم في انفتاح التلاميذ على العلوم الكونية بشكل أفضل. ثم إن
تجارب بعض الدول في تعريب النظام التعليمي قد أدى إلى تحقيق مكتسبات مهمة
جداً في نظام التربية والتكوين.
أما فيما يتعلق بالنقطة الثانية التي هي تدريس اللغة كما قلت فأقصد بالذات
هنا أولاً تدريس اللغة العربية؛ ذلك أنه كما عانت مادة التربية الإسلامية في التعليم
الثانوي من عدم تطوير البرامج والمناهج، فنفس الشيء وقع بالنسبة للغة العربية؛
إذ افتقرت في كثير من الأحيان إلى برامج ومناهج متطورة، وافتقرت إلى كفاءات
مقتدرة، وافتقرت إلى رؤية مستقبلية في التدريس، في الإطار التربوي والتعليمي
بالمغرب. وإن كانت الإصلاحات كلها تؤكد الخيارات الثلاثة: المجانية،
والتعريب، والاستقلالية. وهكذا بقي تدريس اللغة العربية في التعليم الثانوي
والتعليم الأساسي ضعيفاً؛ بحيث نجد الآن الكثير من التلاميذ لا يستطيعون النطق
السليم بجملة، أو جملتين من اللغة العربية الفصيحة. فإذا كان التلاميذ لا
يستطيعون استيعاب مادة اللغة العربية، من حيث إنها لغة مُدَرَّسَة؛ فكيف يمكنهم
أن يتعاملوا بها كلغة لتدريس المواد الأخرى؟ لذلك أرى والله أعلم أن تعريب
تدريس المواد الأخرى يبدأ بالضرورة بتقوية تدريس اللغة العربية.
- د. حسن العلمي: قضية التعريب هي قضية أمة، وقضية حضارة، هي
قضية المسلمين، وإن شئنا أن نقول هي دعامة من دعائم البناء الحضاري لهذه
الأمة؛ لأن الذي يكتب بالعربية، ويفكر بالأعجمية مثلاً، لا يستطيع أن ينتج فكراً
سليماً لهذه الأمة؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن الكريم عربياً مبيناً،
وألزم الناس أن يقرؤوه في الصلوات بالعربية كما أنزل؛ لأنه لا يمكن لأي لغة أن
تعبر عن كلام الله عز وجل، وأن تعبر عن معانيه، مهما بلغت الترجمة من الدقة.
إن قضية مهاجمة اللغة العربية قضية قديمة ثارت وتثور اليوم من جهة النعرات
القومية العميلة للتيارات الغربية. والقضية بدأت في العصر الحديث مع الذئب
الأغبر كمال أتاتورك الذي أعلن العلمانية في بلده، ومنع كتابة اللغة التركية
بالحروف العربية، ومنع الأذان بالعربية؛ حتى جاء من أعاد ذلك إلى البلاد. ثم
سار على ذلك النهج بعض الكتاب العلمانيين، مثل سلامة موسى، وجماعة من
العلمانيين الحداثيين الذين ارتموا في أحضان الغرب، ورموا العربية بالعجز عن
أن تساير العلوم الحديثة، باعتبار أن هذه العلوم لم تنشأ في حضنها، فدعوا إلى
دراسة العلوم باللغات الأجنبية، وكانت بلاد دول المغرب العربي مع الأسف من
أكثر البلدان تأثراً بهذا المنحى الفرنكوفوني. وإن كانت بعض البلاد العربية قد
حافظت على تدريس العلوم البحتة باللغة العربية، وهي الآن في القمة في هذا
الباب؛ إذ نجد الأطباء الذين درسوا الطب بالعربية، والعلماء الذين درسوا
الرياضيات بالعربية لا ينقصهم شيء، بل هم من النوابغ. منهم من يُدَرِّسون، أو
باحثون في مؤسسات أمريكية، ومؤسسات غربية، وهي تعترف بعلمهم وشواهدهم.
ونحن في المغرب ظلت اللغة الفرنسية جاثمة على صدورنا، وجاثمة على عقولنا
وأفكارنا؛ وبذلك صارت الألسن أعجمية، والعقول أعجمية. وأما التعريب الجزئي
الذي حصل؛ فهو مثل قصة الغراب الذي أراد تقليد الحمامة، لا هو تعلم مشية
الحمامة، ولا هو حافظ على مشيته.
الشيخ محمد العمراوي: التدريس باللغات الأجنبية عموماً خطر. والخطر في
ذلك آفتان أساسيتان:
الآفة الأولى: هي رضاعة ثقافة تلك اللغات منذ الوهلة الأولى؛ لأن اللغة في
نهاية المطاف وعاء الثقافة. فاللغة ليست مستقلة، أنا أرى في تقديري أنه يخطئ
من يظن أن اللغة محايدة. اللغة ليست محايدة. يعني أنا عندما أتحدث مع أطفالي
في المنزل بالعربية ولو بصيغتها العامية فإني ألقنهم ثقافتها الإسلامية الكامنة في
عباراتها وأمثالها. يقولون في الأمثال الشعبية مثلاً: (فينا اللي يؤذن، وما فيناش
اللي يقيم الصلاة) ، فهذه مصطلحات شرعية. ومثل هذا كثير. فاللغة إذن هي
وعاء للثقافة، وعاء للتاريخ، وعاء لما في الباطن، ولما في الشعور. والعرب
قالوا هذا قديماً في شعرهم:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ونحن نستغرب ونأسف عندما نجد أطفالاً يتغنون باللغة الأجنبية، إذن ماذا
يغنون؟ وجدان الأجانب. إن اللغة فيها حمولات خطيرة على النفسية، وخاصة
في مرحلة الطفولة. هذه آفة أولى، وهي خطيرة جداً على النشء.
الأمر الثاني: هو إقصاء اللغة الأم، أعني العربية؛ لأن اللغة الأم تصير
محاصرة، ومزاحمة باستعمال اللغة الأجنبية؛ ولذلك إذا تعلمها الإنسان فإنما يتعلمها
كأنها لغة أجنبية؛ فلا تبقى لديه لغة أصلية؛ لأنه في الوقت الذي يكون عمره
خمس سنوات، أو أربع سنوات، بل ثلاث سنوات يعلمونه اللغة الأجنبية. هكذا
في هذه السن الصغيرة جداً. فلا يمكن لنا أن نقول: هذه لغته الدخيلة وهذه لغته
الأصلية. وهذه آفة أخرى يعيشها كثير من الناس.
الأستاذ أحمد إبراهيم: هذه الحرب التي يعلنها البعض على التعريب هي خير
دليل على مدى أهمية التعريب في تحديد هوية المواطن المغربي؛ فبعدما نجحت
الفرنكوفونية في القضاء على اللغات الأصلية لكثير من الشعوب، في معظم
مستعمراتها الإفريقية. نراها الآن لم تفقد الأمل في ضم المغرب إلى لائحة
الضحايا؛ وما ذلك إلا لعلمها علم يقين أن صلاح وفلاح المواطن المغربي إنما
يكمن في معرفته للغته الدينية، وهي اللغة العربية التي تمكنه من فهم دينه، ومن
بناء شخصيته وفق معايير شرعية مضبوطة تضمن له الانضباط والطمأنينة
والاستقرار النفسي.
ومما لا يخفى على المتابعين لسلوك الدول الاستعمارية أن استبدال اللغة الأم
بلغة المستعمر كان هدفاً أساسياً حرصت عليه كل دولة مستعمرة. ومن هنا فإن
أهمية اللغة العربية في حياة المسلم لا تقل عن أهمية الماء والهواء والطعام، بل
هي أعظم من ذلك؛ فبدونها لن يفهم القرآن، بل لن يفهم نفسه؛ وهذا يكفي ليهيم
على وجهه في بحر من الظلمات. ذلك أننا إذا اعتبرنا الإنسان سيارة قائدها
العقل، ومحركها القلب، فكما أنه لا يمكن ضمان سلامة السيارة إضافة إلى سلامة
قائدها إلا أن يحترم قائدها قانون السير وعلامات المرور المختلفة؛ فكذلك هلاك
الإنسان محقق إن لم يحترم قانون السير المخصص له، والمحدد بوضوح في
القرآن، وأنى له أن يفهم هذا القانون، أو أن يحفظه، وهو لا يعرف اللغة التي
كتب بها؟
أما ما تدعيه الفرنكوفونية من أن التعليم باللغة الفرنسية سيسهم في تطوير
القدرات العلمية للتلاميذ، وكذا قدراتهم على المواكبة العالمية؛ فهذا كلام لا يستند
إلى أي أسس منطقية مقنعة؛ لأن كل لغة يمكنها أن تسهم في ذلك، لو تشبث
أبناؤها بها وعرفوا لها قدرها، وأنتجوا من خلالها. ولا توجد لغة تنافس اللغة
العربية في سعة الدلالات؛ لأنها لغة القرآن، كلام الصانع الخبير بما يناسب
صنعته سبحانه وتعالى.
إن الدعوة إلى الفرنكوفونية على حساب اللغة الأم إنما هي دعوة إلى استمرار
سياسة السيد والعبد، وتكريس لسياسة التبعية والتقليد الأعمى التي تضمن دوام
السيادة للسيد ودوام التبعية للعبد.
(البيان) : تتمتع ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية بالمغرب بامتياز
خاص من الدولة؛ حيث تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، ونرى أن الأعيان من
النخبة الفرنكوفونية يتسابقون لتسجيل أبنائهم بها، بعضهم يراها إيجابية؛ باعتبار
أنها نوع من الإثراء والتنويع الثقافي، بينما يرى آخرون أنها تهدد هوية المغرب
ووحدته الثقافية؛ فهل هذه ظاهرة صحية أم مرضية؟
د. خالد الصمدي: لا بد أن أبدأ بشيء مهم جداً: وهو أن أي بلد لكي يرسم
سياسة تعليمية مستقلة، لا بد أن يعتمد على موارده الذاتية؛ حتى يكون له استقلال
في اتخاذ القرار، وفي بناء نظام تعليمي غير مستورد. لكن جل بلدان العالم الثالث
مع الأسف لا تملك من المؤهلات البشرية، ومن الموارد المادية، ما يمكنها من
بناء نظام تعليمي مستقل؛ لذلك فهي تفتح أبوابها لدعم الأجنبي. شيء طبيعي
إذن؛ أن دعم الأجنبي لا بد أن يكون مشروطاً بمجموعة من الضرائب المعنوية.
ففي المغرب مثلاً يتجلى هذا في النظام التعليمي، في تعدد الأنساق التعليمية على
الصعيد الوطني. ليس لدينا نسق تعليمي واحد. صحيح أنه يوجد لدينا في المغرب
مؤسسات ثانوية، وأساسية أجنبية فرنسية بوجه خاص، ولكني أرى أن الأخطر
من ذلك هو اعتماد مناهج تعليم فرنسية في المدارس المغربية؛ بحيث إن رياض
الأطفال الآن في المدن الكبرى: فاس والرباط والدار البيضاء، مثلاً، تعتمد
اللغات الأجنبية في رياض الأطفال، منذ البداية. ثم إن الكتب المدرسية المقررة
تأتي مباشرة من فرنسا وإنجلترا. وليست كتباً مغربية! فإذا كانت المؤسسات
الأجنبية مؤسسات محدودة في العدد؛ فإنها لا تشكل في اعتقادي الخطر الأكبر؛
فخطرها أقل من خطر اعتماد المؤسسات التعليمية المغربية خاصة على مستوى
رياض الأطفال والتعليم الابتدائي والأساسي برامج ومناهج فرنسية؛ لأن هذه
تستوعب شريحة واسعة من أبناء المغاربة الذين يرون في تعلم الإعلاميات،
والإنجليزية، واللغة الفرنسية، وغيرها من المواد، منذ التعليم الأولي المنقذ
المستقبلي المادي. هذا من ناحية. أما من ناحية ثانية فوزارة التربية الوطنية،
حين نطرح عليها هذا السؤال، يعني حول البرامج والمناهج التي تعتمدها مؤسسات
التعليم الأجنبي بالمغرب؛ فإنها لا تفتأ تؤكد أنها ستعمل بحزم على ضرورة احترام
البرامج والمناهج التعليمية المغربية الأساسية في هذه المؤسسات؛ على اعتبار أن
هذه المؤسسات توجد فوق التراب المغربي، ويدرس فيها أبناء المغاربة. لكن مثل
هذه الرؤية، ومثل هذا القرار كما قلت سابقاً يحتاج إلى استقلال حقيقي، يحتاج
إلى سيادة، يحتاج إلى رؤية واضحة لبرامج ومناهج التعليم، يحتاج إلى توفر البلد
على الموارد المادية والبشرية للتحكم في نظامه التعليمي. أمَّا ونحن نمد أيدينا إلى
المؤسسات الممولة الأجنبية، فشيء طبيعي أن مثل هذا القرار لا يمكن أن نتخذه؛
لأنه من شرط التمويل الأجنبي أن يسمح لهامش من برامجه ومناهجه أن يتغلغل،
ويتوسع في النظام التربوي والتعليمي بالمغرب.
طبعاً نتيجة كل هذا هو أننا في المغرب نعيش بأنظمة تعليمية متعددة؛ فمن
النظام الفرنكوفوني من التعليم الأساسي والثانوي، إلى النظام التعليمي العصري
(المغربي) ، إلى نموذج التعليم الأصيل. نرى كل هذا في التعليم الثانوي
والأساسي. وعلى مستوى التعليم الجامعي هناك النظام الأنجلوساكسوني الذي
تعتمده جامعة الأخوين، والنظام الفرنكوفوني المعتمد في كثير من الشعب بكلية
الآداب، وكليات العلوم، وكليات الحقوق، خاصة على مستوى لغة التدريس.
وذلك يصارع نظاماً عربياً إسلامياً يتمثل في شعب الدراسات الإسلامية، واللغة
العربية. إذن هناك خليط في الأنساق التعليمية؛ بحيث لا يمكننا أن نقول: إننا
نعيش نمطاً واحداً موحداً من النظام التعليمي التربوي بالمغرب. وأنتم تعلمون أن
جامعة الأخوين، في الإصلاح الجامعي الحالي استثنيت بمادة خاصة في القانون
التنظيمي من الإصلاح الجامعي؛ لأنها جامعة لها خصوصياتها في التكوين،
وفي البرامج والمناهج. فإذن هي جامعة غير مغربية على التراب المغربي! على
اعتبار أنها لا تخضع لنفس الإصلاح الذي عنى باقي الجامعات الأخرى. لكن
تصوَّرْ معي! لو أن جامعة القرويين نفسها طالبت أن يكون لها نفس هذا الاستقلال،
على اعتبار أنها جامعة لها خصوصياتها، فشيء طبيعي أن يرفض مثل هذا؛ فكيف
يمكننا أن نكيل بمكاييل متعددة في نظام تعليمي يفترض أن يكون موحداً؟
الشيخ محمد العمراوي: أولاً المصيبة عمت! وأنا لا أوافق على المقولة
المشهورة: إنه (إذا عمت هانت) . بل إذا عمت عظمت! لم يعد الأمر اليوم
مقتصراً على الطبقات الأرستقراطية، وإنما وصل ذلك الطبقات المتوسطة في
المجتمع. وأنا أعرف ناساً من متوسطي الحال أقدموا على تسجيل أولادهم
بالخصوص في جامعة إفران. هذا أمر خطير جداً. ثم إن المدارس الابتدائية
والثانوية الخصوصية صار سوقها نافقاً في المجتمع المغربي، وصارت مجال
استثمار واسع. فنظرة سريعة على الدار البيضاء تريك حجم تسابق الناس على
تسجيل أبنائهم بأموال باهظة، من هذه الطبقات المتوسطة، بل الطبقات الضعيفة
أيضاً. الكل يبادر إلى تسجيل أبنائه في هذه المؤسسات التي ظاهرها مغربي،
وباطنها فرنسي، أو أمريكي. في تقديري هذا ليس تنوعاً ثقافياً، ولا إثراء للثقافة
المغربية التي هي ثقافة إسلامية في الأصل. لماذا؟ لأننا لم نختر التعامل مع هذه
الثقافات كي نستوعبها في إطار منظومتنا الثقافية العامة، وإنما هي ثقافات غالبة،
وافدة، غازية تحتوي وتبتلع ثقافتنا! أهم ما في ثقافاتنا هو الإنسان، وليس لدينا
شيء آخر في التثقيف الإسلامي يتقدم الإنسان مطلقاً. الإنسان هو المحور الأساسي
في النظر الإسلامي، كما هو واضح ومعروف. لكن الإنسان الآن مبهور مأسور
بالثقافة الأمريكية، أو بالثقافة الفرنسية! فأي تنوع ثقافي، وأي إثراء ثقافي، وأي
تلاقح ثقافي، يكون والحال هذه بيننا وبين الآخر؟
تاريخنا شاهد على أننا نحن استوعبنا الثقافات كلها، استوعبنا الثقافة اليونانية،
استوعبنا الثقافة الهندية، استوعبنا الثقافة الفارسية، استوعبنا كل الثقافات،
وأدرجناها ضمن منظومتنا العامة. وصار عندنا تنوع ثقافي حقيقي. وصارت
عندنا مجموعة من المدارس داخل هذه المنظومة الإسلامية، بتأثير هذه الثقافات
الأخرى. ولكن لم تكن وافدة بالمعنى الذي هي عليه اليوم. اليوم هي ثقافات غازية،
ثقافات مستعمرة، أو مستدمرة بتعبير البشير الإبراهيمي ولذلك فنحن نقبلها من
منظور آخر، وهو أن تكون لنا نحن موازين القبول والرد، موازين الأخذ والعطاء،
أن تكون لنا استقلاليتنا. عندما نكون نتحكم في قراراتنا، ولا تفرض علينا هذه
الأمور، عندها نعم، نقول هذه الثقافة نأخذها ونتعامل معها؛ فالنبي عليه الصلاة
والسلام أمر زيد بن ثابت بأن يتعلم العبرية؛ وهو في صحيح البخاري. نحن
عندما تكون لنا شخصيتنا السياسية، والثقافية المستقلة، ونختار؛ فهذا أمر ليس فيه
مشكلة.
الأستاذ أحمد إبراهيم: ظاهرة إنشاء الجامعات والمعاهد الأجنبية في المغرب،
التي تعتمد مقررات فرنسية أو أمريكية، وتهافت الناس على إلحاق أبنائهم بها،
أرى أنها ظاهرة مرضية تسهم بدورها في سلخ الإنسان المغربي عن هويته، ولا
أرى فيها تنويعاً ثقافياً كما يدعون، بل أراها ذبحة للوحدة الثقافية، لحساب ثقافات
معينة، مستغلين في ذلك لهفة الشباب على الهروب من عالم البطالة، ومن عالَمٍ
آفاقه المادية محدودة، إن لم تكن مسدودة. إلى عالم آخر عكس ذلك؛ حيث الحرية
والمال والأعمال.
(البيان) : هناك إجماع وطني رسمي وشعبي على إخفاق مشروع التعليم
بالمغرب، بكل مراحله وأصنافه، منذ مراحل بداية الاستقلال إلى اليوم؛ فإلى أي
شيء ترجعون هذا الإخفاق في نظركم؟
د. خالد الصمدي: في اعتقادي أن هذا الحكم الذي ذكرتموه أعني إخفاق
مشاريع إصلاح التعليم في المغرب يعود إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول: هو عدم وضوح الرؤية، وعدم توحدها، في مستقبل النظام
التعليمي؛ بحيث إن الأجنحة المتصارعة الآن في الساحة الوطنية، هي أجنحة
أيديولوجية كل منها يرى من زاويته الخاصة الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه
المتعلم في المستقبل. إذن ليست هناك رؤية واحدة ومحددة؛ وهو ما يجعل مشاريع
الإصلاح مشاريع غير موحدة بقدر ما تكون مشاريع توفيقية تحاول ما أمكن أن
ترضي جميع الأطراف. هذا سبب.
أما السبب الثاني: فيعود إلى عدم الاستقلالية في اتخاذ القرار، واتخاذ
الموقف؛ بخصوص الملفات الكبرى. ومنها ملف التعليم. فقد سبق أن ذكرت لك
أن الاستقلال في اتخاذ أي قرار، خاصة في المجال الاقتصادي، والمجال التعليمي
بوجه أخص يحتاج إلى التضحية، يحتاج إلى بذل خاص، يحتاج إلى صبر،
يحتاج إلى الاعتماد كلياً على الطاقات والموارد الذاتية. وحيث إن هذا غير متوفر
في المغرب؛ فشيء طبيعي أن إصلاح التعليم الذي يتطلب وسائل وإمكانات كبيرة
جداً لا يمكن أن يتم إلا عن طريق استجداء المؤسسات الدولية، والذي يقابله فرض
إملاءات من جهتها، وتوجيهات ملزمة لتكييف النظام التعليمي حسب حاجاتها هي،
وحسب مصالحها هي. فعلى سبيل المثال: لو أنك قررت مثلاً أن تضع في برامج
التعليم وفي مادة التربية الإسلامية بوجه خاص مجموعة من المواضيع التي تحرم
الخمر، والقمار، والعلاقات الجنسية غير الشرعية؛ والحال أن الاستثمار الأجنبي
والتابع له، سواء في العالم العربي والعالم الإسلامي، يسير في اتجاه التمكين
لمجموعة من المؤسسات التجارية التي لا تروج إلا هذا؛ فإن الجهات الممولة
تتدخل؛ لحذف مثل هذه المواضيع من نظامنا التعليمي! حتى تفتح المجال بشكل
أوسع للاستثمارات الأجنبية. إذ منطق حالها يقول: لا يمكنني بوصفي مشاركاً
اقتصادياً، أو مؤسسة منفتحة اقتصادياً، أن أثق في نجاح الاستثمار داخل بلد
يشتمل نظامه التعليمي على مجموعة من العوائق والمحددات التي لا تفتح المجال
أمام الأجيال القادمة للتعامل بحرية مع المنتج الاقتصادي الجديد.
أما النقطة الثالثة في اعتقادي التي أسهمت في إخفاق مشاريع إصلاح التعليم
بالمغرب، فهي الارتباط الكبير بالنظام التعليمي الفرنسي القديم، المعروف عالمياً
أنه من الأنظمة المتخلفة التي لم تنتج إلا التبعية. فحتى نظام التعليم الفرنسي نفسه
هو الآن عالة على التعليم الأنجلوسكسوني. ونحن نعلم أن البلدان التي اعتمدت
النظام الأنجلوسكسوني كمصر، أو الأردن، أو غيرها، خاصة في منهج تكوين
المكونين، وفي بناء البرامج وبناء المناهج؛ قد قطعت أشواطاً كبيرة جداً،
ونجحت إلى حد ما في إصلاح التعليم. أما بالنسبة للبلدان المغاربية بشكل عام التي
التصقت بشكل كبير جداً بالنموذج الفرنسي القديم، فلم تتطور، ولم تنتج، وكانت
نسبة النجاح فيها أقل بكثير جداً من مساحة الإخفاق!
الأستاذ أحمد إبراهيم: يرجع إخفاق مشروع التعليم بالمغرب إلى عدة عوامل،
أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
١ - غياب استراتيجية واضحة ثابتة لنظام التعليم تطبق عبر مراحل مدروسة.
٢ - تبعية نظام التعليم للأيديولوجيات الحزبية، ولمذاهب المسؤولين فيه.
٣ - التقليد الأعمى للنظام التعليمي بفرنسا، دون اعتبار لخصوصيات
المجتمع المغربي.
٤ - أمانة التعليم أحياناً تسند لغير أهلها.
٥ - تهميش المواد التي تحدد الهوية، والتي تضمن الوحدة الثقافية؛ لحساب
مواد أخرى أجنبية.
٦ - الاهتمام بالكم على حساب الكيف.
٧ - اضطراب نظام الامتحانات، وأساليب التقويم بالمدارس.
(البيان) : يُرجِع بعضهم ازدهار الصحوة الإسلامية بالمغرب إلى إنشاء
شعبة الدراسات الإسلامية بالجامعات المغربية، وفي كليات الآداب على الخصوص؛
مع العلم أنه تزامن إنشاء شعبة الدراسات الإسلامية مع التقليص من عدد مواقع
شعبة الفلسفة وفروعها؛ مما جعل الاعتقاد يسود بأن الإسلام ضد الفلسفة من ناحية،
وبأن رجوع الفلسفة للتدريس بكل الجامعات رهين بحذف شعبة الدراسات
الإسلامية؛ فهل هناك عداء حقيقي بين الإسلام والفلسفة من جهة؟ وهل ثمة
ضرورة لعدم التعايش بين الشعبتين من جهة ثانية؟ ثم ما علاقة شعبة الدراسات
الإسلامية بالمجتمع وتحولاته؟
د. خالد الصمدي: بخصوص إسهام شعبة الدراسات الإسلامية في ازدهار
الصحوة الإسلامية بالمغرب، فهذا أمر ظاهر وجلي، بحيث إن نهاية الثمانينيات
وبداية التسعينيات، شهدت تخرج الأفواج الأولى، على مستوى دبلوم الدراسات
العليا، ودكتوراه الدولة، في شعب الدراسات الإسلامية. وكان لهذا انعكاس كبير
في تأطير الشعبة نفسها في التعليم الجامعي؛ إذ لم تكن قد استكملت أطرها. ثم بعد
ذلك صدرت كثير من الدراسات والأبحاث، وطبعت من طرف خريجي الدراسات
الإسلامية، وهكذا بدأت كثير من الأجيال خاصة بعد نهاية الثمانينيات في الالتحاق
بشعبة الدراسات الإسلامية، واتسع مجال الاهتمام بها، وازدهر الاهتمام من جديد
بالعلوم الشرعية؛ إذ كان الأمر مقتصراً على خريجي جامعة القرويين، وخصوصاً
كلية الشريعة وكلية أصول الدين. وشيء طبيعي أن ازدهار هذه العلوم يؤدي إلى
ازدهار الدعوة الإسلامية والإرشاد الديني. فكان تأسيس مجموعة من الجمعيات من
طرف خريجي الدراسات الإسلامية، وكذلك الإشراف على مجموعة من دور
القرآن الكريم، وتدريس العلوم الشرعية بها ... إلخ، فهذه بعض الانعكاسات
للتعليم والتكوين بشعب الدراسات الإسلامية.
(البيان) : تتمة لما تتحدثون عنه: ما الجديد الذي جاءت به هذه الشعبة،
وقد كانت هناك جامعة القرويين بكلياتها الثلاث بالمغرب تدرس العلوم الشرعية؟
د. الصمدي: نعم طاقة كلية الشريعة وكلية أصول الدين، وكلية اللغة
العربية، المنتمية جميعها لجامعة القرويين، طاقة محدودة جداً. وكلية الشريعة
توجد بمدينة فاس، وبمدينة أجادير، وكلية أصول الدين توجد في مدينة تطوان،
وكلية اللغة بمراكش، ولا يمكن لهذه الكليات أن تستوعب هذه الأعداد الغفيرة من
الطلبة المقبلين على تعلم العلوم الإسلامية. أضف إلى هذا أن طبيعة التكوين في
القرويين ينقسم إلى قسمين: منه ما هو شرعي، ومنه ما هو قانوني وضعي. كما
أن التخصص في كلية أصول الدين يهتم بالعقائد وعلم الكلام أكثر من الاهتمام
بالعلوم الشرعية الأخرى، والذي يميز شعبة الدراسات الإسلامية هو الاهتمام
بالعلوم الشرعية في قالب معاصر؛ إذ يدرس بها مثلاً الاقتصاد الإسلامي، والأدب
الإسلامي، كما أنها مطعمة بعلوم حديثة، مثل علم النفس، وعلم الاجتماع،
واللسانيات. بالإضافة إلى التعمق في العلوم الشرعية الحقة، كعلوم القرآن
والتفسير والحديث والفقه وأصوله. فهي تحمل تصوراً جديداً، ونظرة جديدة في
طريقة تقديم العلوم الشرعية. والدليل على أن الحاجة كانت ملحة لإنشاء شعبة
الدراسات الإسلامية هو هذا الاهتمام الكبير جداً الذي يظهر في حجم الملتحقين بها
من أعداد الطلبة؛ بحيث يمكن أن نقول: إن شعب الدراسات الإسلامية اليوم هي
على الصعيد الوطني الأكثر استيعاباً للطلبة الجامعيين.
وأما بخصوص النقطة الثانية: وهي علاقة إنشاء شعب الدراسات الإسلامية
بإغلاق شعب الفلسفة، فنحن نعلم أن شعبة الفلسفة في نهاية السبعينيات، وبداية
الثمانينيات، كانت تحت سيطرة اليسار المغربي الذي كان مهيمناً عليها، وموجهاً
لها، وواضعاً لبرامجها، وطرق تدريسها، ووسائلها، بوصفها مادة بالتعليم الثانوي،
ثم باعتبارها شعبة بالجامعة؛ مما أسهم بشكل كبير جداً في ترسيخ أيديولوجية
اليسار، وخاصة انتشار الإلحاد في كل تلك المرحلة. إلا أنه في بداية الثمانينيات
تم إنشاء شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب بالمغرب؛ حيث كان تسجيل الفوج
الأول بها سنة: ١٩٨١م، فتزامن ذلك مع التقليص من عدد شعب الفلسفة بتلك
الكليات، وهذا صنع نوعاً من الصراع بين الإلحاد الذي كانت شعب الفلسفة
محضناً لأفكاره؛ وبين الصحوة الإسلامية التي كانت شعب الدراسات الإسلامية
متنفساً مهماً لها؛ حيث كانت تستغل لمزيد من التأطير في العلوم الإسلامية. لكني
أرى والله أعلم أنه لا يمكن أن نربط بين حذف شعبة الفلسفة، وإنشاء شعبة
الدراسات الإسلامية. الأمر في اعتقادي لا يعدو أن يكون تأسيساً لشعبة، وحذفاً
لشعبة أخرى، دون أن تكون بديلاً عنها؛ لأن في الجامعة المغربية متسعاً لمزيد من
الشعب والتخصصات التي تُكوِّن في مختلف الاتجاهات، وبمختلف التصورات،
دون أن يكون لذلك أثر كبير على الصراع الأيديولوجي القائم بين الشعبتين. وأؤكد
بهذا الصدد أن هذه المعركة اختلقها اليسار المغربي نفسه؛ بحيث لم يختر خريجو
الدراسات الإسلامية استمرار شعبتهم بحذف شعبة الفلسفة. لذلك لم يكن من المنطق
تماماً أن ترجع الفلسفة على حساب حذف شعبة الدراسات الإسلامية. فأعتقد أن
الأمر أيديولوجي أكثر مما هو مرتبط بالبعد التربوي.
- د. حسن العلمي: الحقيقة أن الدراسات الإسلامية في المغرب جاءت في
مرحلة كان الجو الفكري والثقافي في بلاد المغرب قد بلغ مبلغاً من العتو في الإلحاد،
وطغيان المادية الماركسية اللينينية الملحدة. واليسار كان قد بلغ مبلغاً لم يبلغه في
أي زمن من شتى أنواع الهجوم على الإسلام، ومحاصرة الدين، ومحاصرة الإيمان
بالله عز وجل؛ حتى إن الطالب وقتها لم يكن يجرؤ أن يتلفظ بالبسملة! هذا أمر
عشناه جميعاً بل الأستاذ نفسه كان يخاف أن ينطق بها؛ حتى لا يتهم بالفكر الغيبي
والخرافي؛ فتقوم عليه القائمة! والحقيقة أن موجة الإلحاد التي عتت في الجامعات
المغربية كانت تستدعي من المصلحين أن يلتفتوا إلى ذلك؛ لأنه سينقلب هذا الإلحاد
ضد المجتمع المغربي المتدين بفطرته، فكان من لطف الله عز وجل أن قامت شعب
الدراسات الإسلامية بدافع من بعض المخلصين من أبناء هذا الوطن الذين دافعوا
بحرارة لإعادة التعليم الديني كما كان، وإعادة دور القرويين الذي قتله الاستعمار،
فأنشئت شعبة الدراسات الإسلامية عام ١٩٨١م، فكانت والحمد لله فتحاً جديداً
للصحوة الإسلامية فتح أبواب النور على هذه البلاد. والحقيقة أن شعبة الدراسات
الإسلامية مهما ذكرنا عنها من نقص، ومهما تكلمنا في قضية ضعف مناهج
التدريس والأطر التي أطرت هذه الفترة مما ذكر الدكتور الصمدي فالحقيقة أن
المرحلة كانت مرحلة انتقالية؛ بحيث إنه لم يوجد هناك جيل من العلماء، وجيل
من المدرسين المتخصصين؛ إنما جلب إليها من المشرق بعض العلماء الذين
والحمد لله كان لهم أثر كبير على الدراسات الإسلامية في المغرب، من أمثال
الدكتور محسن عبد الحميد، والدكتور عبد الله الجبوري، ممن لا يزال أثرهم يذكر
إلى الآن، وكذلك تمت الاستعانة ببعض أساتذة التربية الإسلامية من الثانوي، إلا
أن الحق يقال إن الله سبحانه وتعالى فتح بها باباً عظيماً من الخير؛ بحيث إن جل
قيادات العمل الإسلامي، والصحوة الإسلامية في المغرب، وجل المفكرين
والباحثين الإسلاميين، هم من خريجي هذه الشعبة.
أما بالنسبة للقضية الثانية: وهي مسألة التعايش بين الفلسفة والدراسات
الإسلامية؛ مع العلم بأن اليسار يقول: إن الدراسات الإسلامية جاءت ضرة
ومزاحمة للفلسفة؛ فنحن نقول: إن الإسلام عدو للإلحاد، وللمادية. إلا أن الذي
حصل هو أن هؤلاء اليساريين العلمانيين الحداثيين بالمغرب؛ ما أرادوا فلسفة،
ولا أرادوا فكراً، ولا أرادوا منطقاً. إن الفلسفة قد تكون علماً من العلوم المحايدة،
وليست شراً كلها. أئمتنا الكبار مثل الإمام ابن الصلاح رحمه الله، والإمام الذهبي،
رغم أنهم هاجموا الفلسفة إلا أنهم ما كانوا يقصدون فلسفة العلوم التي تسمى الآن
بالأبستمولوجيا، وهي ينبغي أن تدرس الآن في الجامعات، إلا أن هؤلاء اليساريين
جعلوا الفلسفة هي الفلسفة المادية الملحدة فقط! وهذا حقيقة يتعارض مع الفطرة
الإسلامية والعقيدة التي نشأ عليها المغاربة.
(البيان) : تعتبر دور القرآن الشعبية، والمعاهد الشرعية غير الرسمية
بالمغرب ظاهرة ناشئة من بعد موات طال أزيد من قرن من الزمان. فهل هذا في
نظركم راجع إلى انبعاث الصحوة الإسلامية، وإلى الرغبة في تلبية حاجتها من
الأطر الدعوية، أم هو راجع إلى السخط الشعبي على اضطراب التعليم الرسمي؟
أم إلى شيء آخر لا هذا ولا ذاك؟ ثم كيف تُقَوِّمُون هذه المعاهد الدينية ببرامجها
العتيقة؟ هل هي فعلاً كفيلة بتخريج علماء جدد أقوياء أمناء، كما هو أمل
الساهرين على تسييرها اليوم؛ أم أنها لن تعدو تكرار النموذج التقليدي، والساذج،
للطلبة القرآنيين الذين امتهنوا في ظروف شظف العيش مع الأسف احتراف قراءة
القرآن على المقابر، والتكسب به في المناسبات؟
نبدأ بالشيخ أبي سلمان العمراوي، باعتباره أحد العلماء المتخرجين من هذه
المعاهد أساساً، ثم مشتغلاً بعد ذلك بإدارتها:
الشيخ محمد العمراوي: أولاً في كل الأحوال، نحن إذا قارنا المتخرجين من
هذه المؤسسات، قديمها وحديثها، مع المتخرجين من مؤسسات التعليم العام؛ نجد
أن الفرق شاسع، وأن البون كبير؛ ذلك أن المتخرج من هذه المؤسسات الشرعية،
في أقصى صور سوء حالها يكون إنساناً غير صالح، إما لا يؤدي حقوق الله، أو
لا يؤدي حقوق العباد، نقول على كل حال: هو إنسان فاسق، هذا هو التعبير
المناسب. أما في التعليم العام فالكارثة كبرى؛ فربما تخرج منه الملاحدة، أو
العلمانيون المحاربون للدين. هذه المفارقة ينبغي أن توضع في الحسبان، من
واجب دعم المؤسسات الشرعية، خصوصاً في هذه المرحلة، والتي هي مرحلة
صراع حقيقي بين نموذجين: نموذج مفروض على الأمة بالقوة، ومدعوم من قبل
مؤسسات عالمية كبرى، والقائمون عليه لن يستسلموا بسهولة. وبين نموذج أصيل
ينبعث في المجتمع من جديد على يد ناس أقوياء في طموحاتهم، وفي أهدافهم،
ولكنهم ضعاف في إمكانياتهم المادية والبشرية، وما إلى ذلك. نعم! نظراً لهذه
المعطيات وغيرها؛ يجب أن تكون هذه المؤسسات حريصة كل الحرص على
تخريج ناس يمثلون الإسلام خير تمثيل. لا بد لإنجاح ذلك من شروط تتعلق بثلاثة
أمور: أولها الرؤية، وثانيها المنهاج، وثالثها البرنامج.
أما الرؤية: فجواب عن: ماذا نريد من هذه المؤسسات؟ نحن لا نريد
تخريج مجموعة من الدراويش. نحن نريد العالم المتمكن من العلوم الشرعية،
المطلع في الوقت نفسه على ثقافة العصر، العالم الذي يستطيع أن يكون مثل أبي
حامد الغزالي في موسوعيته، أو مثل إمام الحرمين في قوة حجاجه، أو مثل الإمام
الشافعي في قوة إبداعه، أو مثل الإمام مالك في استنباطه وحفظه وزهده وورعه.
نريد أن يكون العالم الموسوعي المعاصر. ولا يمكن أن يكون العالم الموسوعة في
عصرنا الحاضر إلا بشروط. إذن فالرؤية ينبغي أن تكون لدينا واضحة. أنا
أشاطرك الرأي في أن كثيراً من هذه المؤسسات تقوم على غير رؤية مطلقاً. وإنما
هو من باب التنافس في الخير، ومن باب الرغبة في الخير، والحب فيه.
بالمناسبة عاينت مشكلة من مثل هذا القبيل في أوروبا، وقعت للناس هناك عندما
وصلوا إلى هولندا. ففي بداية الهجرة بدؤوا يؤسسون المساجد؛ رغبة في إيجاد
أماكن الصلاة. لكن أسسوا المساجد ثم بدؤوا يتقاتلون فيها على أشياء تافهة! ثم
جاءت مرة أخرى ظاهرة تأسيس المدارس الإسلامية. القانون الهولندي يسمح بذلك
في تفاصيل ليس هذا محل لذكرها. ففي بداية تأسيس المدارس الإسلامية، عقدت
ندوة شاركت فيها بكلمة، فقلت من بين ما قلت: (أنا أحذر الإخوان من تكرار
تجربة المساجد، أن نؤسس، ونؤسس، دون كفاءات، ودون طاقات، ودون رؤى
واضحة، وإنما رغبة في الخير، فالرغبة في الخير ليست كافية في تأسيس
مشاريع) . نعم هذه مشاريع خطيرة جداً في مستقبل هذه الأمة. ونحن نعرف أن
الحركة العلمانية الراديكالية في تركيا، لما أرادت أن تضرب الإسلام بدأت بضرب
هذه المؤسسات! هذه أسميها ركائز المجتمع الإسلامي. أسميها حصون الأمة.
ليس من السهل بناء قلعة. يجب أن تكون هناك شروط للبناء. أنا في اعتقادي وفي
تفكيري أننا نريد تخريج علماء يعيدون لهذه الأمة مجدها، علماء يشاركون في
الحياة العامة بقوة ويقودون الأمة. وفي نهاية المطاف علماء يكونون هم المرجعيات
الكبرى في العالم الإسلامي. كان عندنا من قبل الإمام الفقيه هو رأس الأمة، إذن؛
وكما قال الأستاذ مصطفى بن حمزة جزاه الله خيراً في إحدى المداخلات في مؤتمر
عقد لهذه المدارس؛ قال: (نحن نريد عالماً يحل المشاكل، ولا نريد الفقيه
المشكلة!) فيمكن أن يقال إذن: إن بعض المؤسسات تخرج لنا ناساً تسبب المشاكل.
نحن نريد عالماً منفتحاً واقعياً يعرف وجهته في هذه الحياة، ويكون قادراً على قيادة
هذه الأمة، قادراً حتى على القيادة السياسية. فالعلماء دائما كانوا في مقدمة
الأمة، وكانت تنعقد البيعات للأمراء والخلفاء على يد العلماء أولاً، ثم الشعب يكون
تبعاً.
أما المنهاج، فهناك نوعان من المناهج للدراسة معروفان:
النوع الأول: هو النوع الموجود اليوم في الجامعات المغربية الذي هو
المحاضرات العامة؛ فالأستاذ كما تعلمون يلقي محاضرة على الطلاب، ثم ينصرف
إلى حال سبيله، ويرى الطلاب مرة في الأسبوع، بل حتى إن بعض الطلاب لا
يرون الأستاذ إلا عند الامتحانات. فيما نرى هذا الأسلوب بهذه الصورة أسلوباً
عقيماً لن يخرج العالم إطلاقاً؛ والدليل على ذلك واضح في كثير من حاملي
الشهادات العليا: الدكتوراه فما دونها، ولكنهم في كثير من الأحيان مع الأسف أبعد
ما يكونون عن العلم؛ لأنه لا يمكن تخريج العالم بالحفظ الذي لا يحصل إلا قبيل
إجراء الامتحانات بأيام قلائل. هذا أسلوب عقيم.
ثم هناك أسلوب آخر كان يسلكه علماؤنا القدامى في العصور المتأخرة، وهو
أسلوب حفظ المتون، أي حفظ المقررات على مدى طويل، واستظهارها، ولكن لم
يكونوا مع الأسف يستثمرون ملكة الفهم. أما المدرسة الإسلامية اليوم، أو المعاهد
الشرعية اليوم، فيجب عليها أن تسلك مسلكاً أصيلاً، هو مسلك السلف الأوائل
الذي كان يمزج بين الأمرين: الحفظ والفهم؛ فلا ملكة الفهم تطغى على ملكة الحفظ،
ولا ملكة الحفظ تطغى على ملكة الفهم. بعض الناس اليوم يزهدون في ملكة
الحفظ تزهيداً. فأي عالم يكون إذا لم يكن يحفظ النصوص؟ ويحفظ الشواهد؟
ويحفظ القواعد؟ وما أصدق قول الناظم:
وإن لم تكن حافظاً واعياً ... فعلمك في الكُتْب لا ينفع
وتحضر بالجهل في مجلس ... وعلمك في البيت مستودع
ومن يكُ في ذهنه هكذا ... يكن دهره القهقرى يرجع
إذن لا بد من استثمار ملكة الحفظ إلى أقصى حد ممكن، وفي الوقت نفسه لا
بد من استثمار ملكة الفهم إلى أقصى حد ممكن. فباستثمار الملكتين يتخرج لدينا
العالم الحافظ المبدع؛ لأنه إذا لم يكن حافظاً، ففي أي شيء يبدع، وفي ماذا؟ وإذا
كان حافظاً بلا فهم، فهذا هو والشريط المسجل على حد سواء!
أما البرنامج: فهو يختلف باختلاف المستويات الدراسية، وهو على العموم
كما كان قديماً في تاريخ هذه الأمة برنامج يشتمل على مواد أساسية، هي مواد
شرعية. وعلى مواد تكميلية، هي علوم رياضية وكونية مختلفة.
د. خالد الصمدي: معلوم أن هذا النمط من التعليم هو نمط متجذر في التاريخ
المغربي، ليس أمراً جديداً. ونحن نعلم أنه هو الذي أسهم بشكل كبير جداً في
محاربة الاستعمار، والحفاظ على الهوية المغربية الإسلامية؛ ولذلك لم تكن هناك
قطيعة في هذا النمط من التعليم عبر تاريخ التعليم بالمغرب. وإنما الجديد الذي
ظهر الآن هو محاولة اعتماد هاته المؤسسات على بنيات جديدة، وطاقات جديدة،
وعلى طرق ووسائل جديدة في التدريس. فأعتقد أن هذا التغيير هو الذي حصل.
أما النمط التعليمي الشرعي بصورته الشعبية فهو تعليم موجود منذ القدم.
ويلاحظ فعلاً أنه يلقى اليوم إقبالاً كبيراً سواء على مستوى إنشاء الجمعيات القَيِّمة
على التعليم الشرعي التي تعمل على بناء دور القرآن الكريم، والمعاهد الشرعية،
وعلى مستوى الطلبة الذين يزداد توافدهم يوماً عن يوم لتلقي العلم بهذه الدور. فهذا
مرده في اعتقادي إلى أمرين أساسيين:
الأمر الأول: هو أن النظام التعليمي العام قد أفلست سوقه المادية رغم الشعار
الذي رفعه: وهو أن الخريجين يلجون سوق الشغل بسهولة. هذه الخرافة انتهت؛
وبذلك ظهر بالفعل أن النظام التعليمي الآن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يؤدي
إلى سوق الشغل بالشعار الذي رفع له. إذن؛ بقي للطلبة الخيار في التلقي من أي
نوع من أنواع التعليم الذي يشاؤون. ولذلك في ظل الصحوة الإسلامية ربطوا
التعليم بأخراهم، وأقبلوا على تحصيل العلوم الشرعية، وحفظ القرآن الكريم،
وإتقان اللغة العربية.
وأما العامل الثاني: فهو عامل الصحوة الإسلامية التي دعت إلى مزيد من
الاهتمام بالتكوين الشرعي، وتخريج العلماء؛ لحاجة المجتمع إلى ذلك. هذا هو
العامل والحافز الأهم الذي دفع الطلبة إلى الاهتمام بهذا المجال.
إنما التخوف الأساسي في اعتقادي الذي يراودني، وأنا أتحدث عن هذا النوع
من التعليم، هو التحديات الكبرى التي يواجهها على مستوى التأطير، وعلى
مستوى إحداث البرامج، والمناهج، ووسائل التدريس، وأما بناء البنايات،
وتوفير الأسرة للنوم، والأغطية، والتغذية ... إلخ. فأعتقد أنه التحدي الأصغر.
د. حسن العلمي: دُورُ القرآن الكريم والمعاهد الإسلامية التي نشأت وما
تزال تنشأ الآن في بلاد المغرب هي في الحقيقة امتداد لجامع القرويين، وامتداد
للمؤسسات الإسلامية العريقة. وفي القديم كان هذا النموذج يكثر في جنوب المغرب
، في مناطق تافيلالت، ومناطق سوس، ومراكش وغيرها، وهو الآن في شكله
الجديد الذي بدأ إبان نضج الصحوة الإسلامية ينتشر في كل مكان. والحاصل أنه
إذا وقعت العناية به من حيث المنهج، ومن حيث المضمون أمكن أن يخرج العلماء
الربانيين، والدعاة المتعلمين السائرين على سبيل النجاة الذين بهم ترشد هذه
الصحوة.
حقيقة يمكن أن نقول: إن سببين معاً كان لهما الأثر في ظهور دور القرآن،
والمعاهد العلمية:
- السبب الأول: نوع من السخط على المدارس العصرية التي أدخلها الغزو
الفرنكوفوني، والتي لم تخرج لنا علماء؛ فحيث بدأت تزدهر الصحوة الإسلامية
بالمغرب، صار الناس وهذا إلى عهد قريب يبحثون عن الخطيب، وعن الداعية
إلى الله، وعن الواعظ؛ فلا يجدون من يعتلي المنابر؛ لأن المدارس لم تخرج إلا
هذا النمط المائع من الشباب في غياب شُعَب الدراسات الإسلامية آنذاك، وضمور
جامعة القرويين التي لم يعد لها ذلك الأثر الذي كان لها قبل دخول الاستعمار؛ فهذا
النوع من السخط حقيقة ولَّد تفكيراً جدياً وحركة فعلية اتجهت نحو إيجاد دور القرآن،
والمعاهد الشرعية.
- السبب الثاني: حاجة الشعب المغربي المسلم إلى هذا، وكذا حاجة الصحوة
الإسلامية التي وجدت نفسها أنها كتلت جموعاً من الناس، وأنها لم تخرِّج علماء
لتأطيرهم؛ وعلي رضي الله عنه كان يقول: (إن القلوب أوعية، والناس ثلاث:
فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق لم
يعتصموا بالعلم ولم يأووا إلى ركن وثيق) .
فالمعاهد القرآنية ودور القرآن، إذا وقعت العناية بها خرَّجت لنا حفظة كتاب
الله عز وجل الذين امتلأت قلوبهم وصدورهم بمتون الشريعة الإسلامية،
ونصوصها، وأدلتها، وعلومها. ومن هنا فإلى جانب ذلك لا بد أن يمزج المنهج
بين محكمات الشرع، ومتطلبات الواقع. أما إذا سن على النمط القديم الذي يخرج
من يقرؤون على القبور، ويغسلون الموتى، ويحضرون في الجنائز والمآتم،
فهؤلاء الذين كانوا يسمون عندنا في الأيام السالفة: فقهاء الجنائزية، وفقهاء المآتم
المتكسبين بذلك، لا يكادون يحدثون أثراً في الأمة. بل أقول: إن بعض ما دخل
من الرجس الفكري قد دخل من خلال بعض هؤلاء النماذج السيئة الذين لم يكونوا
واعين بدينهم غفلة منهم؛ ذلك أن طائفة من حملة كتاب الله عز وجل لم يضعوه
حيث أمر الله سبحانه وتعالى بل صاروا يقرؤونه على الأموات، في حين أن
القرآن إنما أنزل ليُقرأ على الأحياء. فإذا بقيت بعض المعاهد على النَّفَس القديم في
تعليم القرآن الكريم دون رعاية الأخلاق، ودون رعاية لعلوم العصر، ودون رعاية
لما يتطلبه الداعية إلى الله في هذا الزمان، فإنها لا تستطيع أن تخرِّج ذلك العالم
الرباني الذي ينفع مجتمعه، وينفع الله عز وجل به أمته.
وخلاصة القول: أن عودة المعاهد الشرعية إلى المغرب من جديد ظاهرة
صحية، وانبعاث إسلامي جديد؛ فلعلها إن شاء الله تعالى أن تكون من إرث جامع
القرويين الذي كان يزلزل أركان الاستعمار، وكان الاستعمار يحسب له ألف حساب!
إن الاستعمار كان يخاف من خريجي القرويين أكثر مما كان يخاف من رجال
الأحزاب السياسية! وخريجو القرويين كانوا هم المجاهدين حقاً؛ إذ كانوا هم الذين
أنشؤوا الحركة الجهادية بالمغرب.
الأستاذ أحمد إبراهيم: لا شك أن انتشار دور القرآن الشعبية، والمعاهد
الشرعية، راجع بالدرجة الأولى إلى انتشار الصحوة الإسلامية التي أدركت خطورة
البعد عن القرآن، في أمة عرفت بحفظها للقرآن. ثم بالدرجة الثانية هو يرجع إلى
حالة اليأس وخيبة الأمل التي أصابت الناس في التعليم الرسمي. وخير دليل على
ذلك أن كثيراً من الناس يسعون لإلحاق أبنائهم بهذه الدور في العطل، وفي غير
العطل، رغم تفوقهم في الدراسة؛ مما يدل على أن الرجوع إلى الأصل أصل.
إلا أن هذه المعاهد الدينية يجب أن تجمع في برامجها بين العتيق والمعاصر.
أي بين أصالة العلوم الشرعية، ومعاصرة العلوم الإنسانية، في زمن المعلوميات
والحاسوب؛ لكي لا نكرر النموذج القديم الذي أثر عن زمن الانحطاط، وحتى
تكون الدراسة بهذه المعاهد غاية وليست وسيلة للتكسب. فدراسة علم الحيوان،
والنبات، والفلك، وعلوم الرياضيات بالغة الأهمية لتطوير هذا النموذج؛ حتى
اللغات الأجنبية أرى أن تدرس بوصفها لغة، وذلك لتيسير مهام الخريجين في أمور
الدعوة إلى الله.
(البيان) : الملاحظ على الحركات الإسلامية بالمغرب، أنها في السنوات
الأخيرة أهملت التعليم، ليس بوصفها قضية سياسية تناضل من أجلها وتجاهد؛
فهذا حاصل إلى حد ما، ولكن باعتبارها ممارسة تربوية في صفوفها، وفي
إشعاعها الدعوي والاجتماعي العام؛ فهل ذلك يعتبر فعلاً من نافلة العمل الإسلامي
ومحسناته؟ ومن هنا فلا خطورة في إهماله، أم أنه جوهر العمل الإسلامي، وركن
من أركانه؛ فيكون الإهمال إذن نوعاً من الانحراف عن المنهج يهدد مستقبل العمل
الإسلامي؟
د. خالد الصمدي: أعتقد أن الحركات الإسلامية الآن في المغرب لا تشتغل
بمنطق الملفات، ولكن تشتغل بمنطق التعبئة لرد الفعل تجاه ما يلقى في الواقع من
طرف الجهات الأخرى من تصورات ونظريات. وهذا أثّر بشكل كبير على ملف
التعليم؛ بحيث لا نجد لدى الحركات الإسلامية المغربية اعتماد منطق الخبراء
المتخصصين في أي مجال من المجالات كالمجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو
الثقافي ... إلخ. فالمفروض أن يكون هناك خبراء يشتغلون بإنجاز تصورات
واضحة لملف التعليم على سبيل المثال بمختلف قضاياه وإشكالاته، وإنجاز البدائل
العلمية، حتى إذا فتح ملف التعليم كان التصور واضحاً وناضجاً. لكن الأمر عكس
هذا؛ بحيث نجد أن الحركات الإسلامية، حين تطرح قضية التعليم تفتقد حينئذ
المشاريع الناضجة بالشكل الكافي؛ ولذلك تكون النتيجة هي العمل بمنهج ردود
الأفعال، وانتقادات المقترح الآخر، وتحاول ما أمكن أن تدفع السلبيات أكثر مما
تحاول أن تبني الإيجابيات؛ لأن بناء الإيجابيات معناه بناء بديل متكامل، لا مجرد
النقد؛ لذلك أرى أن العمل الإسلامي اليوم في المغرب يشتغل بمنهج تقليص هامش
الخطر عن طريق التدافع الإعلامي والسياسي. لكن إيجاد البديل الناضج الذي
ينجزه خبراء عبر دراسات متقنة وموسعة في الزمن، وغير مضغوطة بردود
الأفعال؛ فهذا أمر ما زال لم يتبلور بعد، وأعتقد أن الحركات الإسلامية قد تأخرت
بشكل كبير جداً، في تبني مثل هذا التصور؛ لأن العمل الاجتماعي والسياسي
والاقتصادي وغيره، هو عمل مؤسساتي. ولم يعد الظرف يسمح بوجود ردود
الأفعال في مثل هذه القضايا.
الشيخ محمد العمراوي: الحقيقة، أنا لا أريد أن أبخس الحركات الإسلامية
حقها؛ فالإخوان جزاهم الله خيراً قاموا بجهود كثيرة في إعادة الوعي الإسلامي إلى
الأمة من جديد، وإن كانت الحركة الإسلامية بالمغرب لها طبيعتها الخاصة؛ ففي
النشأة الأولى كانت امتداداً للحركات الإسلامية في المشرق، أعني من حيث الفكرة.
وهذا لا ينكره أحد. وأقصد الحركات التنظيمية. أنا عندما أتحدث في هذا
الموضوع أفرق بين أمرين: بين الدعوة التي تمارس على مستوى الأفراد والعلماء،
وبين الحركات الإسلامية التي هي تنظيمات سياسية، تنظيمات جمعوية،
تنظيمات بأي شكل من أشكال التنظيم، أي العمل الدعوي المنظم. فهذه هي التي
كانت في البداية امتداداً للحركة الإسلامية في المشرق من حيث الفكرة، ومن هنا
فإن كثيراً مما تقوم به هو ردود أفعال، لواقع يعيشه المغرب، يعني أنها تتأثر
بالمحيط، وتتأثر بالزمان والمكان، ومن ثم فبرامجها ورؤاها محاولة لإصلاحٍ هي
محكومة به في الواقع. فهي اختارت أن تسير في هذا الطريق، ونحن لا نبخسها
حقها على كل حال، وهي مشكورة على ما تقوم به، لكن أنا سمعت مرة من
أستاذي الدكتور محمد حسن هيتو كلمة جميلة جداً، وأكررها في كثير من المجالس،
قال: إن صلاح الدين الأيوبي لما قضى على الدولة الفاطمية في مصر؛ إذ كان
هو آخر من أجهز عليها، فكر بأن يصدر مجموعة من القرارات والأوامر لإبطال
كل مظاهر التشيع في المجتمع المصري، ونحن نعلم أن الدولة الفاطمية نشأت أول
ما نشأت في المغرب، ولكنها بسطت نفوذها في مصر؛ وفي مصر أظهرت كل ما
كانت تؤمن به من آراء وأفكار، ولم تستطع أن تظهر ذلك في المغرب، لا في ما
يسمى بالمغرب الأقصى، ولا فيما يسمى قديماً في التاريخ بإفريقية التي هي تونس
اليوم، ولم تستقر في المغرب الأوسط. ويذكر الشيخ الشاذلي النيفر رحمه الله في
مقدمة كتاب (المعلم على صحيح الإمام المسلم) للإمام المازري، أحد أئمة المالكية
المشاهير، أنه لشدة مقاومة علماء السنة في القيروان لم تستطع العبيدية (الشيعة)
أن تُظهر أياً من آرائها، ولا أفكارها، وقد عملوا أعمالاً كبيرة جداً على أن
(يشرِّقوا) المغاربة، أي أن يحملوهم على آرائهم المشرقية، فلم يفلحوا في ذلك.
قال: لشدة شكيمة أهل السنة، ولمقاومة العلماء. حتى إنه قال كلمة ينبغي أن
يذكرها الناس، قال: رحم الله فلاناً، وفلاناً، وفلاناً من العلماء على صبرهم؛
لأنهم لو لم يصبروا لكفرت العامة. فالعلماء دائماً هم حصون الأمة، بهم تتترس
من الكفر، ومن الانحراف، وما إلى ذلك. قلت: لما فكر صلاح الدين في أن
يصدر القرارات والأوامر لإبطال كل مظاهر التشيع في مصر أتى إليه بعض
العلماء ناصحين قالوا: لا تفعل هذا، وإنما أنشئ في كل مدينة مدرسة، ووظف
فيها علماء وطلاباً يتعلمون العلم؛ فبهم ينتشر العلم في الأمة، ويقضون على
مظاهر التشيع بشكل تلقائي، وعلى كل مظاهر الانحراف.
فالأساس إذن في إصلاح هذه الأمة هو إصلاح الجذور، هو إصلاح الأعماق.
والحركات الإسلامية الآن تتصارع صراعاً عمودياً، منشغلة برأس الهرم الذي
هو العمل السياسي، والعمل الحزبي الذي يعني الصراع على مواقع النفوذ. وقبل
يومين أو ثلاثة أيام قرأت مقالاً نقدياً لبعض الفضلاء من العاملين في المجال
السياسي، يقول: إنه من الخطأ البين هو يرد التهمة عن نفسه أن نعتقد أنه بتولينا
الحكم نستطيع أن ننفذ كل قراراتنا. قال: هذه تجربة خاضها الماركسيون فأفلسوا.
إنما كل ما فعلوه أنهم حكموا الناس بالاستبداد، وبالظلم، وبالقهر، وأرادوا أن
يمرروا على الناس آراءهم بالحديد والنار! لا بد من إيجاد قاعدة. إذن كيف توجد
هذه القاعدة؟ إنما توجد هذه القاعدة بنشر العلم والتعلم. فالصراع السياسي والتدافع
فيه مفيد بالنسبة إلينا، لا ننكره، والمعركة الاجتماعية هي أيضاً باب من الأبواب
الكبرى، ولكن أصل العلاج، وبداية الدواء، هو أن نؤسس مجموعة من
المؤسسات التعليمية لتخريج أجيال تؤمن بما ندعو إليه، تحمل هذا الهم، تحمل هذا
الفكر؛ لأن الناس اليوم هم طلاب خبز، حتى إذا وصلت ما وصلت إليه انقلبوا
ضدك، وانتفضوا عليك!
الأستاذ أحمد إبراهيم: لا أتصور أبداً أن تغيب قضية التربية والتعليم في
المجال الدعوي عن أي حركة إسلامية يمكن تسميتها بحركة إسلامية. فإذا أمكن أن
يعيش الجسد بدون روح فيمكن آنذاك أن نقبل القول بوجود حركة بدون تربية،
حتى ولو كنا نتحدث عن أي حركة أخرى غير إسلامية. إن حركة لا تبالي
بالتربية والتعليم هي كالبرتقالة التي أفرغت من لبها، ولم يبق إلا قشرتها! فماذا
سيأكل من اشتراها؟
(البيان) : كلمة أخيرة للأستاذ الدكتور خالد الصمدي، هي عبارة عن
سؤال (تربوي) حول منهجية ما يسمى بـ (أسلمة مناهج التعليم الرسمي) . فهل
لديكم فضيلة الأستاذ تصور خاص عن إدماج المادة الإسلامية في كل الشعب
التعليمية بالمغرب، وبكل الأسلاك، وجميع التخصصات؛ باعتبار أن كل المغاربة
كيفما كانت تخصصاتهم يجب أن يعرفوا دينهم؟
د. خالد الصمدي: هذا سؤال واسع ومفتوح، لكن يمكنني أن أتحدث فيه
على مستويين:
المستوى الأول: هو إدراج لا أقول المادة الإسلامية ولكن أقول: القيم
الإسلامية، في مختلف المواد الدراسية في التعليم العام.
والمستوى الثاني: هو تدريس مادة التربية الإسلامية بجميع الشعب،
باعتبارها مادة مرتبطة أساساً بالقيم الإسلامية. إذن؛ هناك إطار عام، وإطار
خاص. الإطار العام: هو إطار أسلمة التعليم، والإطار الخاص: هو محاولة
تقوية موقع مادة التربية الإسلامية. وأنا أرى أن إدماج القيم الإسلامية في مختلف
المواد الدراسية بالتعليم العام يمر عبر مجموعة من المحطات:
المحطة الأولى: هي محطة تفصيلية. وأقصد بالتفصيلية: محاولة بيان
طبيعة العلاقة التي يمكن أن تربط مختلف المواد الدراسية بالقيم الإسلامية كأهداف؛
بحيث إن أستاذ التاريخ مثلاً يستهدف إدماج تلك القيم، وكذلك كل من أساتذة
الجغرافيا والرياضة والعلوم الطبيعية ... إلخ. وهذا يحتاج إلى بحث تربوي
يؤصل لكيفية إدماج القيم الإسلامية في مختلف المواد.
وأما المحطة الثانية: فهي تتمثل في تكوين المدرسين؛ ذلك أننا لا نجد إشكالاً
في وجوه الربط بين القيم والمواد الدراسية، ولكن قد نجده في الربط بينها وبين
المدرس. فالمدرس الذي سينقل هذه القيم عبر أي مادة تعليمية هو المحطة الهامة
هنا؛ إذ يجب أن يكون رجلاً مقتنعاً بهذه القيم أولاً، ثم يحاول نقلها إلى التلاميذ
عبر مادته التعليمية.
وأما المحطة الثالثة: فهي إعادة النظر في البرامج والمناهج؛ بحيث إن
الهدف العام للتعليم هو تكوين المواطن المسلم المعتز بدينه وعقيدته، فينبغي
للأهداف الخاصة المرتبطة بكال مادة على حدة أن لا تخرج عن هذا الهدف العام،
على عكس ما نلاحظه نحن في نظامنا التعليمي الحالي القائم في الأهداف العامة
على تكوين المواطن المسلم، ولكن الأهداف الخاصة قد تناقض هذا الهدف العام؛
بحيث قد تتضمن بعض المواد مجموعة من الدروس التي تناقض الهدف العام،
وتطعن في مقومات الشخصية الإسلامية. وهذا ما يجعل التلميذ يعيش تناقضاً في
شخصيته.
هذه محطات ثلاث أعتقد أنها مهمة جداً لبناء تصور واضح لإدماج القيم
الإسلامية في مختلف المواد الدراسية. هذا الإطار العام.
أما الإطار الخاص الذي هو إطار مادة التربية الإسلامية فينبغي أن تكون
مقرراتها ومحتوياتها لها امتداد في جميع التخصصات والشعب الأخرى؛ ولذلك
أعتبر أن أخطر مادة للتدريس هي مادة التربية الإسلامية! على اعتبار أن محتوى
المادة له ارتباط بما هو تاريخي، وما هو اقتصادي، وما هو اجتماعي، وما هو
بيئي.. إلخ. وهذا يقتضي من الأستاذ أن يطلع على المواد الأخرى اطلاعاً عاماً
إلى جانب تخصصه في المادة الإسلامية. لذلك كانت التربية الإسلامية هي المادة
المحورية التي ينبغي أن نعطي لبرامجها ومناهجها الأهمية الكبرى.
(البيان) : نشكر الأساتذة الكرام جزيل الشكر، راجين من الله جلت قدرته
أن يحفظ هذه الأمة، ويعصمها من الزيغ والضلال، وأن يقيض لها من يقوم
بتربية أجيالها على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس المغرب، ومراسل المجلة في المغرب.