الافتتاحية
تحولات النخب
تيه السياسة.. تيه الثقافة
مسارُ التاريخ العربي المعاصر - السياسي والفكري منه - مر بعدد من
الانكسارات الحادة، كان كل منها يهدم سياقاً وصل إلى لحظة الانفجار في مأزقه،
وينشيء من أشلائه نسيجاً لسياقٍ آخر جديد، غير أن التحولات جميعاً كانت تحدث
داخل هذا التيه لا خارجه، وكثيراً ما كان الآخر - بنفسه أو بظلاله من النخب
السياسية التي تتغذى من دعمه - هو المسيطر على مسار التحول ووجهته الرئيسة.
إنها رحلة تنحدر كل يوم إلى عمق أشد محنة وأكثف ظلاماً وأبلغ إمعاناً في
سفر الهدف الضائع والجهد المهدر، وها هي النخب اليوم وهي تقف في أعقاب
قرن من التحولات والانكسارات السياسية والثقافية تحاول بعد أن ركبت قطار
«السلام» أن تجبر كل شيء على محو هويته والركوب معها! بدءاً من ... الذاكرة التاريخية، ومروراً بالأشخاص والأفكار والأشياء، حتى ولو كانت العقول المسلحة بالوعي والعلم مجمعةً على خطورة الرحلة، ومحذرةً من جُبّ الانتحار الذي قد ينتظر القطار في نهايتها. ولئن اختلف من بقي من عقلاء هذه المنطقة على كل شيء إلا أن حوافرهم تشترك جميعاً في النزول عند فكرة واحدة أسّها الإقرار بأن مسيرة «السلام» وآلياته ومفاصله الرئيسة، وبُنيته السياسية والاقتصادية والفكرية أصبحت - بعد الاتفاقيات العديدة التي صَبّت في مجرى السلام أو زامنت مسيرته - في يد العدو التقليدي: البعيد (على المستوى الجغرافي فقط) ، أو القريب المنتزع من أحشاء أوروبا وأمريكا، والمزروع في جسد العالم العربي من خمسين عاماً خلت.
لقد كان قرناً من التيه تَحملُنا فيه النخب السياسية من هوة إلى أخرى والكثرة
الكاثرة من الأمة غائبة أو مغيبة، تسمع صهيل الخيول ووعود العز فإذا استبان
الأمر وانجلى الغبار وجدت نفسها في مزاد البيع، تدكها بغال العدو وتصهل فوقها
أحصنته، وهي تباع بالثمن البخس الذي تقبضه النخب لحسابها الشخصي، بينما
تسوقها إلى حظيرة الاستسلام بسوط السلطان، وغبار الإعلام!
هل نسينا وعود الليبرالية وتحالفاتها مع المحتل بين الحربين؟ وكيف انتهت
الحرية إلى سجون العسكر وثوراتهم بعد نكبة (١٩٤٨م) ؟ ! أم نسينا جحيم
الأحزاب القومية والمد الثوري الذي تغذى على مشاعر الناس وعواطفهم ودمائهم!
ثم لما بانت صحائفه بعد أن باد سلطانه إذْ به عاش على سمع العدو وبصره،
والتحمت كفاهما خلف الستار مراراً (خارج النص المسرحي الإعلامي طبعاً!) ،
وليس أبلغ من صفة «القتل» التي لم يجد أحد الباحثين السياسيين كلمة أصدق
منها في توصيف الحال التي انتهى إليها (البلد/الأنموذج) مصر بعد تنقله بين هذه
النخب.
أما اليوم فإن الصبح قد بان لذي عينين، وأطلت علينا النخب السياسية تحت
شمس إسرائيل (المشرقة) ، تبادلها العناق، وتكشف في ميدان السباق إلى
«الحضن اليهودي» ما كان يمارس خلف الستار، بعيداً عن لهيب أكف الجماهير المصفقة لعبارات «التحرير» أو «الجهاد» ! المدوية في مكرفونات هذا النظام أو ذاك (حسب ما يقتضيه المقام) ! وكما أن عرفات (غزة / أريحا) لم يكن سوى نسخة رديئة عن سادات (كامب ديفيد) فإن حسين (وادي عربة) ليس سوى حبة ثالثة في المسبحة، وكل الثوابت التي تُبطّئ تساقط بقية الحبات قد اختُزِلت اليوم في ثابت وحيد، يحتاج إلى بعض الجهد والوقت لتذويبه.. إنه «الحرج» بالمفهوم الذي يشرحه «حسن المغرب» - في إجابته لسؤال الصحفيين عن توقع طلب رابين رفع مكتب الاتصال إلى قنصلية - بقوله: «إن صداقته الحميمة مع رابين وذكاء الأخير سيجعلانه يقدر» الحرج «الذي قد يسببه للحسن مع شعبه لو أراد تنفيذ هذا الطلب الآن! . ومع ذلك فإنه يبدو أن الوجه الكالح للنخب السياسية لم يعد حريصاً على برقع الحرج هذا، بعد أن أصبح حبلُه السري المتّصل بالآخر الحامي له، يعتمد في بقائه على تضحيات» شجاعة «تبدأ بالتطبيع الاقتصادي، ثم تطمع أن لا تحلّ الرحال إلا في مضارب» الشرق أوسطية «حيث تنصب إسرائيل خيمة شيخ القبيلة! .
على الشط الآخر تُسايرُ معظم النخب الثقافية أمراضَ الساسة، وربما سبقتهم
حيناً! فكانت طليعتهم في تهيئة الأجواء لامتصاص سقطة أخرى دون انفجار! ، أو
تأخرت بعض الوقت فلم تفلح في نقض نسيج السنين الطوال وركوب عربة القطار
الأولى التي احتشد فيها الساسة، فتأخرتْ لا رفضاً للمرحلة ولكن بنية الإعداد
والركوب في العربة التالية! أما الالتحام مع خيار الأمة والانحياز إلى الشعوب
المغلوبة على أمرها فكيف نتوقعه أو ننتظره ممن يعيش بجسده في مدينة عربية
بينما كل قراءاته وقناعاته وكيانه النفسي والثقافي يستوطن إحدى العواصم الغربية.
إن الواحد من هؤلاء» يعيش تمزقاً حاداً في الانتماء فهو منتم بفكره إلى العالم
الغربي الحديث بينما هو منتم بعلاقاته الاجتماعية إلى العالم العربي «، إن هذا
النوع من النخب هم طلائع العدو الثقافية، وإن هاجموا وحاربوا كياناته السياسية
وتسلطه الاستعماري.
ويبقى بعد ذلك هذا المشهد الطاغي اليوم حين تجتمع» النخبة ضد الأهل «
وتحتشد» الدولة ضد الأمة «ويكتمل عصر التبعية، غير أن تحت هذه القشرة
عالماً مفعماً بالحركة، وشعوباً تنحاز زرافات ووحداناً إلى هويتها، وتفرز رموزاً
ونخباً تَتّقدُ بهمومها، بالرغم من ثقل التبعة، ووطأة أمراض الغياب الحضاري
قروناً عددا، ومع مرور كل يوم يشتد التمايز بين تيار صاخب يحاول إعادة البناء،
وأقليات نخبوية تتشبثُ بأطواق نفوذ مُخَرمة، والعدو هناك يراقب ويرى في كل
شرارة وعي صغيرة نطفةً تتخلّقُ بركانَ لهب قادم! فيحشد مكره وريحه لإطفائها
فلا يزيد لهيبها إلا انتشاراً وجمرَها إلا نضجاً وتوقداً، غير أن النخب التي تبيع
أهلَها، وتنغرس في أرض العدو لا تكاد تعي أن خيارات الشعوب المسكونة بهاجس
الإحياء والنهوض هي المنتصرة في النهاية، ومع ذلك فإننا نشهد قلةً جادة صدمتها
الحقائق، وبدأت تغادر السفينة المثقوبة، رغم الضغط النفسي والحصار الإعلامي،
وتنحاز إلى خيارات الشعوب، وكأن صوتها يردد:
"» شدّ على أصابعي يظنني أخافْ!
أسرج لي حصانَه المقطّعَ الأطرافْ!
لوّح لي باللؤلؤ المكنون في الأصدافْ!
قلتُ له: يا سيدي (العرّافْ) ..
ماذا ترى يفعلهُ البحارُ في..
سفينةٍ مثقوبةٍ!!
بطيئةِ الشراع والمجدافْ؟ ! «".