وقفات مع
التحقيق والمحققين
محمد عبد الله آل شاكر
-١-
منذ قرون بعيدة أدرك العلماء أهمية تحقيق النصوص وتصحيحها، وعلموا
أنها مسؤولية عظمى تحتاج إلى جهدٍ كبير وإلى درايةٍ ومهارة، فقال الجاحظ في
مقدمة كتاب (الحيوان) : «ولربما أراد مؤلف الكتاب أن يصلح تصحيفاً أو كلمةً
ساقطة، فيكون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ وشريف المعنى، أيسر عليه من
إتمام ذلك النقص حتى يرده إلى موضعه من اتصال الكلام» .
ثم دار الزمن دورته، وجاء أناس يزعمون لأنفسهم التحقيق والضبط
والمراجعة، وقد انقلبت عندهم المفاهيم رأساً على عقب، وابتدعوا طريقة في
التحقيق جديدة، لم يعرفها السابقون، ولا يرضى عنها المعاصرون. بل إن عملية
التحقيق نفسها أصبحت عند بعضهم " هلوسة "، كلهم يريد أن يحقق، كلهم يريد أن
يحقق كل شيء، حتى القرآن الكريم!
ومن عجيب ما وقع في يدي من هذا اللون كتاب بعنوان (دليل آيات العبادات ...
والأحكام الشرعية) جمع وتحقيق ذخر الدين شوكة، عميد كلية الشريعة ... بالجامعة الأردنية، الطبعة الأولى ١٤٠٣ هـ، طبع جمعية المطابع التعاونية في عمّان. وهو يحتوي على مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة مصورة من المصحف ويقابلها ترجمة معانيها بالإنكليزية، من كتاب «تفسير آيات القرآن
الكريم» لمحمد بكتال، الذي قامت بطبعه رابطة العالم الإسلامي، عن طريق مكتبها الدائم في هيئة الأمم المتحدة بنيويورك! (انظر صفحة ١ من مقدمة الكتاب) .
رأيت هذا الكتاب في معرض للكتاب، فدعاني ذلك لسؤال صاحب المكتبة
مازحاً: هل عندك القرآن الكريم محققاً؟ وأبدى المسكين تأسفه لعدم وجوده! !
واستكمالاً لما سبق نشره في أعداد سابقة من البيان الغراء، حول تراثنا
وطريقة التعامل معه، أشير في هذه المقالة إلى بعض الملاحظات، والله الموفق.
-٢-
اضطرب مفهوم التحقيق عند بعض الدارسين الذين استهواهم هذا الاسم، فغدا
التحقيق في عملهم شرحاً لمتن، أو حاشية على الشرح، أو تقريراً على الحاشية،
يستعرض فيه أحدهم قدرته على تتبع كل كلمة في النص وشرحها. ومن أعجب ما
رأيت من هذا اللون من التحقيق ما أسميته بـ (التحقيق الأزهري) ، (وللأزهر في
نفوسنا مكانة، فهو مقصد طلاب العلم والعلماء) ، فقد لفت نظري إعلان عن كتاب
استهواني موضوعه، ولي فيه نوع اهتمام، وهو (تحرير المقال فيما يحلُّ ويحرم ...
من بيت المال) للحافظ تقي الدين، أبي بكر محمد بن محمد البلاطُسُني، تحقيق ودراسة: فتح الله محمد غازي الصباغ، منشورات دار الوفاء بالمنصورة الطبعة الأولى، ١٤٠٩ هـ. واستعنت بالله ولم أستكثر الجنيهات التي دفعتها ثمناً له، فهو رسالة ماجستير قدمت لكلية الشريعة بالأزهر، وبإشراف أحد الدكاترة «الذي كان له الفضل في أن يسير البحث في خطواته الصحيحة (ليته كان) حتى وصل إلى الصورة التي عليها الآن» (كما يقول صاحب التحقيق والدراسة ص ١٦) .وتجاوزت المقدمة والدراسة التي بلغت ثمانين صفحة، ووصلت إلى متن الكتاب نفسه، وأُصبت بصداع، وأظلمت الدنيا في عيني، وأسفت على الحال التي وصل إليها التحقيق ... فالمحقق وضع عنوان الكتاب في سطر واحد، وأمام كل كلمة رقم إحالة، وفي الهامش شرح لكل كلمة في العنوان: تحرير ... القول ...
الحلال ... الحرام ...
واستغرق هذا الجهد ستة وعشرين سطراً بحرف صغير حتى أتى على شرح
العنوان كله في ص (٨٥) . وفي الصفحة التالية: تعليقات ثمانية على سطرين
اثنين يشرح فيها المحقق لفظ (المقدمة) .. ولماذا بدأ المؤلف بالبسملة والحمدلة،
ثم شرح لمعاني المفردات! وفي ص (١٣٠) شرح للكلمات الآتية: الباب،
الفصل ... الخ
ثم قلبت ورقة واحدة، فوجدت هذا العنوان: (سبب تأليف الكتاب) وفي
الهامش مع الإحالة هكذا: (المحقق) ، (يقصد أن العنوان من عمل المحقق) كثيراً
ما تطالعك هذه التعليقة البارعة. وبمناسبة ورود كلمة، (بدعة) في المقدمة، بدأ
صاحبنا يشرح معناها وأنواعها نقلاً عن الشاطبي والعز بن عبد السلام، -رحمهما
الله تعالى-. وعجبت من هذا الأسلوب في التحقيق أشد العجب، وقلت في نفسي:
لا ضير، فلكل شيخ طريقة، ولشيخنا هذا طريقة أقره عليها المشرف على الرسالة، ويبدوا أنهما لم يفرقا بين التأليف والشرح والتحقيق. ومن الطريف أن صاحبنا
رقَّم على غلاف الكتاب: (تحقيق ودراسة) وفي آخر الإهداء في ص (٥) التوقيع: ... (المؤلف) ، فهل هو محقق الكتاب أم المؤلف؟ أم أن الإهداء من البلاطسني
لوالديّ المحقق ولكل من يؤمن بالإسلام طريقاً للنجاة..؟ !
وليت صاحبنا اقتصد في عمله، وقرأ كتاباً في أصول تحقيق النصوص
ونشرها إذن لأفاد واستفاد، وأراح واستراح.
وسار على هذا المنهج في التحقيق آخرون كما نجد في (المنتخب) للحافظ
عبد ابن حميد، تحقيق وتعليق أبي عبد الله مصطفى بن العدوي شلباية، الجزء
الأول، دار الأرقم، الكويت، الطبعة الأولى ١٤٥٩ هـ. وأين هذا مما كان يفعله
علماؤنا في التحقيق وضبط النص، رغم أنهم لم يتبجحوا بهذه الكلمة التي ابتذلت
في أعمال كثير من الناس اليوم؟ ومن أراد معرفة ذلك فلينظر إلى كتب أدب الطلب، وليقرأ مقدمة كتاب «إرشاد الساري بشرح البخاري» للقسطلاني ص (٣٩-٤١) ، أو مقدمة الملاَّ علي القاري لكتابه (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح) !
-٣-
وإذا أردت صورة أخرى من التعالم في (التحقيق والضبط والمراجعة) فستجد
أمثلة كثيرة لذلك في الكتب التي أفسدها المحققون والمراجعون الأدعياء، الذين
يضعون أسماءهم على أغلفة هذه الكتب المظلومة المفترى عليها باسم التحقيق، وقد
شحنوها بالأخطاء الفاحشة والنقص والسقط، ولم يقابلوا نسخها المخطوطة، وهي
قريبة منهم وفي متناول أيديهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء القراءة المتأنية للكتاب، ولم
يصححوا فيه خطأ، أو يضعوا عليه تعليقاً مفيداً، أو أن يصنعوا له الفهارس التي
تيسر الإفادة من الكتاب.
ولكي لا نكون ممن يلقى الكلام على عواهنه، نأخذ مثلاً على ذلك، وهو
كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام -رحمه الله-، الذي
نشرته مكتبة الكليات الأزهرية من حوالي عشرين سنة، نشرة سقيمة سيئة جداً، ثم
أعادت نشره بطبعة جديدة (مضبوطة منقحة) (هكذا زعم الناشر أو المحقق) في
شهر صفر عام (١٣٨٨) هـ، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد.
وهذا الكتاب النفيس وأمثاله له مكانة في نفسي، وتستهويني قراءته التي
أشعر بلذتها، ويعكر علي هذا أنني أقف عاجزاً عن فهم كثير من المواطن في
الكتاب.. واتهمت نفسي وفهمي، وأحسنت الظن بغيري، إلى أن حصلت على
صورة من النسخة الخطية المحفوظة بالمكتبة الأزهرية (وهي على بعد أمتار من
ناشر الكتاب!) وأخرى من مكتبة الحرم المكي، وثالثة من دار الكتب المصرية
بالقاهرة. ورجعت إلى بعض النصوص التي كنت بحاجة إليها، فهالني ما رأيت،
عندما قابلت المطبوع بالمخطوط، فلم أجد صفحة واحدة، بل مقطعاً واحداً،
وأحياناً سطراً واحداً في صفحة، خالياً من الأخطاء والتصحيفات والنقص، حتى
ليكاد النقض في المطبوع يربو على عشر ورقات ذات وجهين، ومثاله في الجزء
الثاني ص (٢٧) ، ويقابله في النسخة الخطية المكية الورقة (١٧٩) وما بعدها.
وحتى التعليقات على الكتاب، وعددها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة في
كتاب يزيد عن الخمسمائة صفحة، هذه التعليقات مسروقة عن الطبعة الأولى
(المكتبة الحسينية، ١٣٥٣هـ) المأخوذة أو المقابلة على نسخة الشنقيطي، وهي
الطبعة التي اعتمدها محقق الكتاب، ونشرها من جديد بنصها وفصها، دون أن
يشير إلى ذلك. فما أدري، ما الذي بقي من جهد أو عمل لهذا المحقق المحترم؟ !
وليت شعري، كيف يثق القارئ - بعد ذلك - بهذه الكتب التي أخرجها، أو أخرجت باسمه، وقد يقع الكتاب منها في مجلدات ذوات عدد مثل:
«الروض الأنف» بشرح سيرة ابن هشام للسهيلي، وهو من أعظم شروح السيرة وأدقها وأكثرها فوائد، و «تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام» لابن فرحون، وهو عمدة الدارسين في القضاء والسياسة الشرعية،
و (القواعد الكبرى) لابن رجب الحنبلي، وغيرها. فلا بد من إعادة النظر في طبعاتها كلها.
-٤-
وعلى هذا النهج من التحقيق يسر الدكتور الطبيب (!) عبد المعطي أمين
قلعجي، في تحقيقاته المزعومة، كتحقيقه لكتاب الحازمي «الاعتبار في الناسخ
والمنسوخ من الآثار» دار الوعي بحلب، الطبعة الأولى، القاهرة ١٤٠٣ هـ.
وإن تعجب من تحقيقه، فعجبك أكثر من تخريجه للحديث! والطبيب المحقق هذا،
يبدو أنه يستحل جهود الآخرين وأتعابهم، فيأخذ منهم كتباً ليطبعها لهم، أو يكلفهم
بالعمل على تحقيقها بالاشتراك ثم يطبعها باسمه وحده، وقد حدثني بذلك أحد كبار
أساتذة الأزهر، فقد وقع هو في أحابيله، وجّرأه على ذلك كِبَر سن الشيخ وعدم
قدرته على متابعة الطبيب المحقق!
وأما تحقيقات «محمد صادق قمحاوي» عضو لجنة مراجعة المصاحف
بالأزهر الشريف، والمدرس بالأزهر الشريف، (كما هو مثبت على صفحة
العنوان لكتاب (أحكام القرآن) لأبي بكر الجصاص، طبعة دار المصحف بالقاهرة، الطبعة الثانية) .. وهذه التحقيقات، طراز آخر من التحقيق، لا تجد فيه ضبطاً
لكلمة، ولا شرحاً لمصطلح، ولا تعليقاً على رأي مثلاً، ولا توثيقاً لنص ولا
تخريجاً لحديث، بل ولا تجد علامة من علامات الترقيم، ولا إخراجاً فنياً يساعد
القراء على القراءة والفهم حتى إنه ليصعب عليك أن تميز الآية التي يستشهد بها
المؤلف عن الآية التي يشرحها، وقد بخل على الكتاب والقارئ باسم السورة إلى
يفسرها المؤلف. أما صنع الفهارس المتنوعة للكتاب فهذا أبعد من نجوم السماء
وكأنه بدعة ضلالة!
ولئلا نبخس الرجل أو نهضمه حقه، فإن جهده - ولعله جهد المطبعة - يتمثل
في أنه أخرج الكتاب في خمس مجلدات بدلاً من الثلاثة في طبعة الآستانة. ووجدت
له كذلك تعليقين في الجزء الأول من الكتاب، أحدهما في الصفحة الخامسة، يقول
فيها: «المراد بهذه المقدمة التي ذكرها المصنف - الكتاب الذي ألفه في أصول
الفقه» . وفي ص (٣٠) عند قول المؤلف عن نافقاء اليربوع: «لأن له أجحرة
يدخل بعضها عند الطلب ... » قال المحقق: «هكذا في النسخ التي بأيدينا،
وصوابه جِحَرة» (بكسر الجيم المعجمة وفتح الحاء) وكفى الله المؤمنين القتال!
وكفى الله القارئين الجهد والتعب!
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (يتبع)