للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الإسلام لعصرنا

[ماذا وراء كسر طالبان للأوثان؟]

أ. د. جعفر شيخ إدريس

رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة

ما هذا الذي أقدمت على تكسيره طالبان؟ إنه حجر في صورة إنسان! فلو أن

الناس رأوه على حقيقته الظاهرة هذه حجراً في صورة إنسان لما حرصت على

تكسيره طالبان، ولا أمر بكسره دين من الأديان. لكن الناس رأوا فيه ما ليس فيه؛

رأوه إلها وما هو بالإله، ورأوا أنهم يضاهون به خلق الله، ولا أحد يخلق مثل خلق

الله؛ فكان كسره كسراً لهذا التصور المفسد لقلب الإنسان.

[وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليَمِّ نَسْفاً]

(طه: ٩٧) .

فالكسر وسيلة لإقامة الدليل القاطع على بطلان ذلك التصور الفاسد.

[فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا

إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى

أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ

كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ

الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن

دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ

تَعْقِلُونَ] (الأنبياء: ٥٨-٦٧) .

والكسر هذا ليس مختصاً بالتماثيل التي تعبد من دون الله، وإنما هو شامل

للبشر الذين يرون أنفسهم آلهة من دون الله، فيصدقهم ضعاف العقول ويتخذونهم

فعلاً آلهة من دون الله. وكسر البشر كسران: كسر بالحجة والبرهان، وإلا فهو

كسر ككسر الأوثان.

[أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ

الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ

المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ]

(البقرة: ٢٥٨) .

وكسر الذين ينصبون أنفسهم آلهة من دون الله هو أيضاً كسران: فكسر قدري

يتولاه المولى - عز وجل -: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ

غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى

وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَظَنُّوا

أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ

عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] (القصص: ٣٨-٤٠) .

وكسر شرعي يقوم به العباد المؤمنون تنفيذاً لأمر الله - عز وجل -.

فكسر الأوثان ليس إذن بدعة جاء بها خاتم أنبياء الإسلام، وإنما هو سنَّة

مطردة دعا إليها وطبقها كل رسل الإسلام. إنها أمر لازم للدعوة إلى إخلاص

العبادة لله. إنها سنَّة ذات جذور عميقة في تاريخ الأديان التوحيدية. وهذا هو

الإرث الذي ينبغي أن تحافظ عليه وتعتز به البشرية، لا إرث بوذا وفرعون

وهامان.

وقد أشار إلى شيء من هذا كاتب أمريكي منصف في مقال له بجريدة

الواشنطن بوست [١] بدأ الكاتب مقاله بنص من التوراة عن تحريق موسى عليه

السلام لإله السامري. ثم قال: «إن ما تفعله طالبان بالتماثيل في أفغانستان يبدو

كأنه عمل تدميري لا عقل فيه، بيد أنه ذو جذور عميقة في تقاليد مشتركة بيننا

وبينهم» . ثم ذكر كلمة إنجليزية قال إنها كانت تعني في الأصل محطم الأوثان،

لكننا صرنا نتذبذب بين تحطيم الأوثان وعبادة الأوثان. ثم ذكر أن أفلاطون كان

يريد منع الفن التصويري؛ لأنه كان يعده خداعاً، وأن النصارى كسروا صور

الآلهة الرومانية واليونانية في كل أنحاء الإمبراطورية، وأن المبشرين بالنصرانية

فعلوا الشيء نفسه في كل أنحاء العالم. وقد كانت الدعوة الإصلاحية للوثر وكالفن

إلى حد ما رد فعل لعبادة الكاثوليك لمريم والأولياء. وقد حطم البروتستانت صوراً

كاثولوكية لا حصر لها. ثم قال: «إن تحطيم الأوثان أمر لا يمكن فصله عن

التوحيد» ، ثم انتقد تحطيم طالبان لتمثالَيْ بوذا لكنه عاد ليقول: «إن فهم طالبان

للإسلام متصل اتصالاً مباشراً بالفهم السائد لدين موسى» .

ثم ذكر ملاحظة طريفة جديرة بالتأمل والاعتبار فقال: «إن الأوثان التي

حطمتها طالبان ليست أصناماً يعبدها البوذيون؛ فالبوذية ماتت في أفغانستان منذ

ألف عام. إن الأصنام التي حطموها هي أصنامنا نحن. نحن أهل الغرب العلماني

قد استبدلنا - إلى درجة ما - الفن بالدين. صار الفن عندنا شيئاً مقدساً تجب

المحافظة عليه، في مبان أشبه بالقلاع نحج إليه» .

ثم قال: «الفن عندنا روحي، خالد، متعال. لقد جعلنا الفن عبادة صنمها

العمل الفني. ولذا فإن محطمي التماثيل المحدثين يرعبوننا كما أرعب محطمو

التماثيل في العالم القديم عباد الأصنام. لقد بدا أحياناً في الأيام القليلة الماضية أن

مشاعرنا يحركها الكرب الذي أصاب التماثيل أكثر من الكرب الذي أصاب شعب

أفغانستان ... لكن طالبان يعرفون جيداً كيف يخيفوننا. إنهم يعرفون ديننا،

ويعرفون دينهم. إنهم يقومون بعمل هو من صميم دينهم، وفي الوقت نفسه يثيروننا

إثارة قصوى بمهاجمة ديننا» .

قلت: ذاك تفسير معقول للضجة التي أثارها الغربيون العلمانيون؛ فما بال

بعض المسلمين يضجون مثل ضجيجهم؟ حاشاهم أن يكونوا عباداً للأصنام، وهم

حتى لو كانوا علمانيين لم يصلوا إلى درجة تقديسهم للفن تقديس الغربيين.

ما بالهم إذن؟ أما خيارهم فلا يشكُّون في أن كسر الأصنام عمل مشروع أمر

به النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم يقولون إن الرسول إنما كسر الأصنام العربية

بعد أن هزم العرب المناوئين له في ساحة القتال، وبعد أن دانت له الجزيرة العربية

ودخلت في الإسلام. لكننا اليوم مستضعفون نخشى أن يثير هذا العمل ثائرة بعض

البوذيين فيلحقون الضرر بأرواح المسلمين أو مساجدهم، ونحن نقرأ في

كتاب ربنا: [وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]

(الأنعام: ١٠٨) . فهذا اعتراض يستند إلى أصل شرعي، وهو لذلك جدير

بالاعتبار.

أما غيرهم فقد اتخذوا من الغرب مثالاً يحتذى؛ فحتى لو دخلوا جحر ضب

لدخلوه. إنهم يخشون من أن يعيرهم الغرب بأنهم أناس متخلفون غير متحضرين لا

يتذوقون الفن ولا يحترمون الآثار.

يقال لهؤلاء وللغربيين العلمانيين من ورائهم: إن كان الفن هو تذوق الجمال

وصناعة الجمال فإنه لمقصد مشروع من مقاصد ديننا؛ فالله جميل يحب الجمال.

لكن من قال إن الجمال محصور في الصور والتماثيل؟ إن الجمال يكون في السلوك

[فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ] (الحجر: ٨٥) .

ويكون في التعبير؛ بل إن جمال التعبير هو أرقى أنواع الفنون؛ ونحن

أمة كتابها الهادي هو مثلها الأعلى في جمال التعبير، ونبيها رجل أوتي جوامع

الكلم. بل ويكون في الثياب: [يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ

وَرِيشا] (الأعراف: ٢٦) ، [يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ]

(الأعراف: ٣١) .

لكن جمال الحق عندنا فوق كل جمال، وهو المعيار الذي يحكم به على كل

دعوى من دعاوى الجمال. فما وافق الحق قبل وما خالفه رد، مهما كان مظهره.

وما دامت الحقيقة الكبرى التي يصلح العباد بالاعتراف بها هي أن الله وحده هو

المستحق للعبادة؛ فلا يتسامح مع أي فن تعبيري أو تصويري يتناقض مع هذه

الحقيقة.

وجمال الخلق هو جزء من جمال الحق؛ فهو كذلك معيار لقبول دعاوى

الجمال الأخرى أو ردها.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.


(١) Crispin Sartwell, Saturday, March ١٠, ٢٠٠١, page A٢١.