للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غياب الأيديولوجية في زمن الاستضعاف]

ربيع الحافظ

طال الأمد على آخر تحوُّل أيديولوجي كبير يشهده العالم؛ فانقلاب شعوب أوروبا وآسيا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على نظم سياسية مزمنة تحت طائل العامل المعاشي والظلم أو الاستعلاء

كانت البؤر السياسية العالية الرئيسية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في حالة من عدم استقرار السياسي، والشيخوخة، وكانت المناخات السياسية تنذر بأن تحولات كبرى قد أزف أوانها؛ فالأحوال المعاشية المتردية في روسيا القيصرية في مقابل الفكر الشيوعي الوليد يومئذ، وتراجعات الدولة العثمانية المتعَبة أصلاً في حروب البلقان، ثم تحالفها الهش مع ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا في أوروبا، ووصول النازية إلى ألمانيا، والتخلخل السياسي في منطقة نفوذ الإمبراطورية اليابانية في جنوب شرق آسيا، ثم أمريكا التي لم تكن قد حزمت أمرها بعدُ حول علاقتها مع العالم الخارجي، هذه كلها كانت إرهاصات لتحول كبيرٍ مّا سيكتنف العالم.

عدم توافق السياسي والأيديولوجي السائد، والتنافس الاقتصادي أدخلا العالم طوراً من التوتر قاد إلى حربين عالميتين، كان من تداعياتهما قيام إميراطوريات جديدة، منها ما جسَّد فكراً آنياً عابراً كالشيوعية والنازية، ومنها ما ورث حضارات قائمة كأمريكا بالنسبة لأوروبا.

كما كان من تداعيات الحربين احتجاب نظم سياسية لحضارات كبرى، في طليعتها النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية، الذي اختفى من الخارطة السياسية بشكل كامل وللمرة الأولى منذ خروجه على العالم كلاعب سياسي رئيسي قبل أربعة عشر قرناً، تاركاً وراءه رقعة هائلة من الجغرافية السياسية المكشوفة دون غطاء سياسي ذاتي. فقد كانت الحقبة العثمانية الختامية أقرب للحراسة العسكرية لرقعة شعوب الحضارة العربية الإسلامية، وأفضى انتهاؤها إلى انكشاف هذه الرقعة على الأصعدة جميعها؛ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

من جهة ثانية؛ فقد طال الأمد على آخر دور طليعي للعرب في النظم السياسية التي استوعبت الحضارة العربية الإسلامية؛ حيث تعتبر حقبة الخليفة المعتصم ولجوئه إلى الأتراك للحد من النفوذ الفارسي المتنامي في الدولة العباسية منعطفاً وبداية النهاية للطور العربي في النظام السياسي للحضارة العربية الإسلامية. لكن هذا الدور سد مسده ـ أو حد من تداعياته ـ في أحايين متعددة عالمية الحضارة العربية الإسلامية، وتعاقب شعوبها من سلاجقة وأكراد ومماليك ثم أتراك عثمانيين على انتشال نظامها السياسي في مراحل الضعف وتصريف شؤونها؛ حدث ذلك يوم كانت هذه الشعوب أعجمية النسب ولكنها عربية اللسان والثقافة، وسنية المعتقد سياسياً.

المنطقة تواجه من جديد زلازل سياسية على أعلى الدرجات في مقياس الزلازل، في ظرف يقترن فيه ـ هذه المرة ـ استمرار الغياب السياسي العربي، مع خروج اختياري لتلك الشعوب من المعادلة السياسية للحضارة العربية الإسلامية تحت طائل النزعة القومية التي اجتاحت شعوب الأرض في القرنين الأخيرين، فعادت تلك الشعوب أعجمية النسب واللسان والثقافة. يضاف إلى المشهد التراجع الكبير للدور الفكري العربي الذي كان رديفاً بالغ الأهمية ـ وإنْ من مواقع سياسية خلفية ـ للنظم الحاكمة غير العربية، ووازعاً لكثير من قراراتها السياسية المفصلية في مسار الحضارة.

السيناريو الحاضر يمكن إيجازه: بأن الخطر عاد إلى المنطقة من جديد، وأن الدور السياسي العربي لا زال معطوباً، والشعوب التي سدت مسد العرب في الماضي هجرت الميدان، وهي ليست بأحسن حال منهم، والحصيلة هي ما بات يطلق عليه «النظام السياسي العربي المنهار» . وقد توغلت أمريكا في جغرافية هذا النظام السياسي الفاقد للمناعة السياسية والثقافية، لإعادة تكوينه وإقامة ما تسميه «الشرق الأوسط الكبير» ، والعراق هو محطتها الأولى فيه.

لا يخفي نزلاء هذه الجغرافيا بدءاً من الأقليات السياسية والدينية والطائفية وانتهاءً بإسرائيل أن سيناريوهات كهذه هي فرص نادرة الحدوث في عمر الأمم لإعادة إحياء مشاريع مؤجلة أو ملغاة أو مستعصية، وقد نُبشت الأراشيف ولم يعد مستهجناً عند أصحاب المشاريع فتح ملفات علاها الغبار منذ عقود طويلة، ولا يعدّ محرماً أو عيباً اللجوء إلى أية وسيلة لبلوغ الغاية.

لم يألُ الظهير الإعلامي لتلك المشاريع جهداً في وضع الحدث اليومي في المشهد العراقي ضمن سياق لا تخطئه الإمكانيات الفكرية العادية لرجل الشارع العادي، سواء كان هذا الرجل في نيويورك حيث الحرب على الإرهاب، أو في إسرائيل حيث فرحة بلوغ الفرات (الحدود الشرقية لدولة الميعاد) وعبوره إلى بابل حيث منفى الأجداد، أو في «كردستان الجنوبية» المقتطعة من كردستان الكبرى، أو من مناطق المقابر الجماعية التي حفرت أخاديدها «الأقلية السنية» التي «ظاهرت» صدام، أو في المثلث السني الذي ما حمل السلاح وشن المقاومة لولا خسارته لمواقعه السياسية التاريخية.

كل شيء عند نزلاء الجغرافيا «وزوارها» (الأمريكان) يسير وفق سياق.

المشهد العراقي غني بمعطياته وانعطافاته القتالية والوطنية التي يراقبها باهتمام شديد العدو قبل الصديق، وهو مشهد يحدث على مفترق طرق رئيسي لعمالقة الأمم والكتل السياسية التي ترقب بصبر نافد عثرة العملاق الأمريكي المتغطرس في حلبة العراق التي باتت محكّاً سيكرّم فيه العملاق أو يهان.

الأمور مجتمعة (الاحتلال + مشاريع النزلاء + المقاومة بأشكالها المختلفة + الهشاشة السياسية في المنطقة + التنافس السياسي العالمي في المنطقة) تشكل وصفةَ تحوُّل كبير قابل للحدوث جداً في أحد اتجاهين متعاكسين.

من الواضح جلياً أن السياق الأيديولوجي مؤمّن بشكل جيد لأحد الاتجاهين، لكنه يغيب بشكل أكثر جلاءً عن الاتجاه الآخر. فالأخبار التي تتوالى من العراق عبر قنوات لا يفترض أن تكون مناوئة، هذه الأخبار على أهميتها ومراميها الاستراتيجية لا تتعدى في أحسن الأحوال كونها عرضاً نزيهاً لشريط أخبار لا تقع ضمن سياق، ويمكن وصفها إلى حد كبير بـ «كومة» مفردات؛ منها: المثلث السني، الحوزة الصامتة، أهل السنة الوحيدون من غير قيادة، المقاومة ليس لها ذراع سياسي، لولا طهران لما سقطت بغداد، ولولاها لما سقطت كابول أيضاً، الموساد يصطاد العلماء العراقيين، يهود يبتاعون عقارات في العراق، المقاومة تحارب على جبهتين أمريكية ومحلية، غزو ديموغرافي إيراني للعراق، حرق دور التراث، وغيرها من المفردات التي تثير فضول السامع العادي بشكل كبير لكنها لا تنبهه إلى ما تعنيه مجتمعة.

كان القاسم المشترك في تحولات القرن التاسع عشر والقرن العشرين هو ظهور قادة ملهمين سلبوا لب الشارع السياسي المتعطش للرؤى الثاقبة، وهيجوا المشاعر وأوجدوا القناعات فصنعوا التغيير. بعبارة ثانية: لقد كانت أزمات القرنين الماضيين محضناً ـ إن لم تكن رحماً ـ للأيديولوجيات التي قُيض لها من يحملها ويترجمها إلى شعارات تتقبلها عقول الناس.

لم يكن الحال في نظم حضارتنا السياسية عبر التاريخ على غير هذه الشاكلة؛ فقد ارتبطت محطات الحضارة بأسماء أعلام بعثوا الأمل في النفوس وقادوا مجتمعاتهم وتركوا بصمات غائرة على محيا التاريخ، وهم إلى هذا اليوم مدارس يلتقي عليها المفكرون.

ما نشهده في ساحتنا اليوم هو صورة مقلوبة لسنن التحول في حياة الأمم؛ شارع يبحث عن قيادة وليس العكس، عامة تبحث عن نخبة وليس العكس. التاريخ اليوم يُصنع في شوارع الفلوجة وبغداد وتكريت وسامراء والموصل وبعقوبة والأنبار على الوجه الذي يتوق إليه أي قائد جماهيري في أي شعب من الشعوب.

في الشهر القادم (نزول العدد) سيكون عامان من التغطية الإعلامية والإخبارية التي شهد لها العدو قبل الصديق بالشجاعة والسبق المهني، لكنها تغطية خارج السياق، كحبة الماس الثمينة التي تبحث عن عقد تنتظم فيه لتأخذ شكلها الجمالي النهائي، ولو خرجت أمريكا من العراق غداً فسيتحول شريط الأخبار إلى تغطية أحداث الغد، ونجد أنفسنا أمام كومة إخبارية جديدة.

أكثر من عام على الاحتلال كافٍ وزيادة لمجاراة العواطف والانفعالات الإنسانية التي لا مناص منها في الأزمات؛ فالعواطف مهما جاشت لن تدوم، بل ستخفت، ما يدوم هو الحقائق؛ فهي التي تُبقي النبض في العروق، وتشحذ الهمم كلما اقتضت الحاجة.

لقد أظهرت أحداث عام ونصف وبلون فاقع هشاشة الأداء السياسي عند أهل السنة وتذبذباته، وبدائية أدواته، وحسبنا أن أحدث معجم سياسي في حوزة المؤسسة السياسية للحضارة العربية الإسلامية يتناول مسألة خيانة طابور خامس هو نسخة سنة ٦٥٦هـ، مع أن سقوط بغداد في ذلك العام ليس هو الأقرب زمنياً لسقوطها في ٩ نيسان ٢٠٠٣م، بل سقوطها الثاني في ١٩١٧م على يدي الإنكليز هو الأقرب، ولا زال تصوير دواوين ابن كثير لتدمير بغداد وحرق دور تراثها بعد تسعة قرون على كتابتها هو أحدث ما في ملفاتنا عن مؤامرة تدمير حضارة بتنسيق بين عدو خارجي وطابور محلي وهدم دولة على رؤوس ساكنيها. المشكلة لا تُعزى إلى ندرة العمالقة في هذا العصر، ولكن السقوط الأول كان عسكري الطبيعة، وبقي هناك من يرصد الحدث بمنظار الحضارة، ويضع الأمور في سياقها، في حين خلت مدونات التاريخ المعاصر ـ أو كادت ـ من وثائق وحقائق سقوط بغداد الثاني، رغم التشابه الكبير في الحالات الثلاث، وامتلأت بالعموميات والتزييف، ولم تورّث أجيال اليوم مادة تسترشد بها أو تقتبس منها شعاراتها ونعوتها، فعادت إلى أراشيف القرن السابع الهجري.

إن الحقائق المذهلة التي تتكشف اليوم عن فصول التاريخ القريب قلبت قناعات ظنها الكثيرون نهائية، لكن هذه الحقائق ـ على أهميتها ـ تُقرأ اليوم كمادة إرشيفية منتهية الصلاحية، ولو أنها دونت في حينها بنمط آخر؛ لكنا اليوم أمام صورة مغايرة للتاريخ المعاصر، ولأغنى قاموس ١٩١٧ بشخصياته وبيوتاته المعاصرة عن قاموس ٦٥٦هـ، ولكانت أجيال اليوم أقل سطحية وحيرة وأكثر تأهباً لما حدث اليوم أو لما سيحدث في المستقبل.

لقد أيقظ الاحتلال والمقاومة معاً الإحساس بالهوية، وبعثا روح العزيمة، وأزالا الحدود القطرية التي كانت نُدَباً ثقافية وسياسية شبه مزمنة في العقل العربي المعاصر لتصبح المقاومة هي الأخرى متعددة الجنسيات مثل القوات الغازية، وكانت العثرة الحقيقية الأولى في مسار الإمبراطورية الأمريكية.

العراقيون ليسوا وحدهم في الميدان، بل معهم عرب الجوار وعرب الأقاصي والمسلمون، وكل شعوب الأرض التي اكتوت بظلم وجشع ظاهرة «دولة الشركات» كل يعبر عن حنقه بطريقته الخاصة، ولو بارتداء دثار «فانيلة» تحمل اسم العراق، أو رفع علم العراق في مناسبة رياضية. ليس المقصود عند هؤلاء العراق ذاته، ولا يهم العراقيين رفع العلم أو الدثار (الفانيلة) ، ولكن قضية العراق أصبحت بصيص أمل الفلسطيني في مخيم جنين، والسوداني في دارفور، والأفغاني في كابول، والأرجنتيني الذي سلبه المزارع الأمريكي مزرعته، والفيتنامي الذي حولت أسلحة الدمار الشامل الأمريكية أرضه إلى أرض جدباء لا تنبت، وأصبحت الفلوجة اسماً يضاف إلى قائمة الأمراض النفسية «للأمة الأمريكية» .

أهل السنة بحاجة إلى سياق أيديولوجي تنتظم فيه مكونات قضيتهم وفصول تضحياتهم، وترتسم من خلاله الصورة الكاملة للحدث بخلفياته ومراميه، سياق يتسق مع الماضي فيحتشد الماضي وراء ظهورهم، ويتسع للحاضر فينشدّ أحرار العالم إلى قضيتهم.

لا بد من ولادة أيديولوجية في مناخ أزمة كهذه، تحاكي كل أطياف المجتمع التي يرعبها المشروع الصهيو ـ أمريكي، ولا بد من المسارعة إلى تدوين أحداث الحاضر، وإعادة كتابة أحداث الماضي القريب الذي ترك لأقلام شعوبية بحبر جديد، وإعادة الثقة إلى الشارع السني بوطنية آبائه وأجداده وأدوارهم مع الإنكليز التي لم تختلف عما يشاهدونه اليوم.

نقول هذا خشية ذهاب حقائق وتضحيات مقاومة مثلثهم أو مستطيلهم أدراج الريح، وضياعها بين ثنايا الكتب غير السياسية كما حصل إبَّان الاحتلال البريطاني، أو أن تخطف المشهد زوابع لا تلبث أن تنتهي أو تقمع ذاتها.

لقد كانت معادلة أو «تفاهم» العلماء ـ الأمراء (العلماء أهل النظرية والأمراء أو الساسة أهل التنفيذ) هي المناخ السياسي الذي يُصنع فيه القرار السياسي في نظم الحضارة العربية الإسلامية، وكانت حجر الزاوية في تماسك نظامها السياسي وجبهتها الداخلية.

ولم يعرف العالم عن العرب قبل هذه المعادلة أو هذا «التفاهم» سمة الأممية، كما أنه لم يُعثر لها على أثر بعد اختلال هذه المعادلة، بل إن العرب بغير الرسالة السماوية التي تممت مكارم الأخلاق عندهم، وخلقت أيديولوجية أعادت صياغة نظام حياتهم هم أقل أقوام الأرض قدرة على إدامة المدنيات والحضارات، وبغيره يعودون إلى ثقافة داحس والغبراء التي تتخذ اليوم شكل (فيشت الديبل) و (البوليساريو) ، و (الكويت) و (حلايب) وغيرها.

لكنه لن يشق على الناظر إلى الساحة السياسية اليوم، وفي العالم العربي على وجه الخصوص، معرفة حجم الضرر الذي أصاب هذا «التفاهم» في ظل النظام السياسي المعاصر، وفي ظل الحرب الثقافية الأهلية التي اجتاحت المجتمعات العربية منذ مطلع القرن الماضي، ومزقت نسيج المجتمع وأنهكت الشعوب والحكومات معاً واستنزفت الثروات، وكانت بامتياز سمة القرن الماضي.

هذه الحرب هي التي تطورت وتعقدت فيما بعد، وشهدت استنجاد أطراف فيها بالخبرات الأمنية الخارجية لكسب المعركة الثقافية، وانتهت باستضافة الجيوش الأجنبية على أراضينا بشكل رسمي.

كان دخول المشروع القومي إلى المنطقة إيذاناً ببدء الحرب الأهلية؛ فقد جاء متأسياً بالمثال الأوروبي الذي أوصل أوروبا إلى جادة الرخاء والاستقرار التي هي فيه. الفارق هو أن المثال الأوروبي أتى في وقت كانت قد حسمت فيه القارة ومنذ وقت مبكر علاقتها مع كنائسها التي كانت سبباً في شقاء وهجرة الملايين من الأوروبيين وفي تخلفهم أيضاً. في حين اقتُبس المشروع القومي العربي في زمان كانت تؤوب الشعوب فيه إلى الدين تحسباً من بديل سياسي مجهول في ظل جيش احتلال أجنبي وأطقم ثقافية مرافقة، ومكان من العالم يُعتبر فيه الدين وما يتفرع عنه قاعدة لفهم السياسة والتاريخ، والنتيجة هي إرهاصات حرب ثقافية أهلية.

كان الدين في تلك اللحظة، ممثلاً بالمساجد والعلماء، خط الدفاع الأول في وجه القادم المجهول، وكان هو أيديولوجية المقاومة في أبسط أشكالها، قبل أن تنشأ مدارس سياسية تترجم الرفض الجماهيري إلى شعارات وأدبيات، وتصيغ مفاهيم الحضارة العربية الإسلامية بلغة معاصرة.

وبذلك تكون المنطقة قد تجاذبتها عموميات الفكرة القومية الليبرالية المسلوبة ـ إن لم نقل المحاربة ـ لشق الشخصية الحضارية العربية الإسلامية والتي فتحت الميدان السياسي لكل من نطق بالعربية، ومعارضة سياسية إسلامية مبتدئة فاقدة للخبرة السياسية، والتي فعلت الشيء نفسه ولكن لكل من رفع لافتة الدين، فحققت أطياف سياسية شروط الانخراط السهلة في النمطين الفضفاضين. ومن بين المتفوقين في اجتياز شروط النضال القومي العربي بامتياز «صفويون» فرس (مصطلح شيعي عربي) ولكن بأنساب عربية منتحلة، واجتاز متدينون منهم اختبار منح الثقة عند الإسلاميين، وظلت تلك الثقة مسبغة عليهم حتى لحظة وصولهم على ظهور الدبابات الأمريكية إلى أسوار بغداد، وسط ذهول كثير من القوميين والإسلاميين على حد سواء، الذين أنطقهم هول الصدمة بعبارة: (كنا نظنهم مناضلين) .

ليس من شطط الكلام القول إن هذه السذاجة الأيديولوجية عند القوميين والإسلاميين ـ التي لم تُستدرك ـ هي التي أسقطت العراق بيد الصفويين الجدد في صفر ١٤٢٣هـ / نيسان ٢٠٠٣م وقدمته على طبق من فضة، وقد تسببت السذاجة ذاتها في سقوط دول أخرى في المنطقة ولكن من دون ضجة.

الأحاديث الجريئة التي شقت طريقها أخيراً إلى الهواء الطلق بعناء واستحياء شديدين، عن تواطؤ الحوزة مع المحتل الأمريكي بعد عام ونصف على وقوع الاحتلال لا زالت ناقصة، ولم تخرج عن دائرة العموميات؛ فالتشيع الصفوي علاوة على الاختلافات المعروفة بين أهل السنة والشيعة مدرسة سياسية راسخة على الخريطة السياسية العالمية، لها أجندتها السياسية التي يفهمها الأوروبيون ويفهمها الروس وتفهمها الهند، منذ الانقلاب غير الأبيض الذي حمل الصفويين إلى الحكم عام ٩٠٠ هـ، وأخرج إيران من دائرة الحضارة العربية الإسلامية، لتكون الخروف الأسود في القطيع الأبيض، ويصبح خلافها السياسي مع محيطها الإقليمي ورقة ثمينة لا تفرط بها القوى الدولية في توازناتها الإقليمية والدولية.

ولم تتغير الأجندة الصفوية في إيران بتغير السلالات المتعاقبة على حكمها، ابتداءً بالصفويين أنفسهم، فالقاجاريين، فالبهلويين، وأخيراً الحوزة.

وقد التقت مصالح إيران الحوزة مع مصالح قوى عالمية على حساب جاراتها المسلمة ثلاث مرات خلال عقدين: تارة مع الشيوعية، وتارتين مع المسيحية المتصهينة التي يعتنقها نزلاء البيت الأبيض. وهذا الذي يحدث في العراق تكرار لتلك المصالح كما لا ينفي ذلك المسؤولون الإيرانيون، وهي مصالح تغلِّبها طهران كل مرة على تبعات الحروب المعروفة سلفاً من انتهاكات الحرمات والأعراض.

لا جدال في أن نمط الحياة السياسية في الدولة العراقية الحديثة، والأطقم الثقافية المبكرة للدولة من السنَّة العرب والأكراد من بقايا الدولة العثمانية له علاقة مباشرة بالخلاف الصفوي العثماني، وحساسية العثمانيين من الشيعة الذين قاطعوا مؤسسات الدولة العثمانية والتعليم الحكومي، وانصرفوا إلى أعمال التجارة، ومن أراد التعليم منهم طلبه في إيران.

ولكن في الوقت الذي غاب فيه الحضور العثماني عن العراق بجميع أشكاله، وخرج من اهتمامات الدولة التركية الوريثة شؤونُ الشعوب التي شاركتها نظامها السياسي أربعة قرون، إضافة إلى تخليها عن أدوار الدولة الإقليمية الكبرى، واكتفائها بشؤون التركمان العراقيين، ثم ارتفاع جُدُر ثقافية عالية تعزل أجيال اليوم عن شركاء الأمس بسبب أدبيات ومناهج تعليم الدولة القومية التي اعتبرت الحقبة العثمانية حقبة احتلال أجنبي، مقابل هذا كله يستمر حضور الشريك الفارسي بأشكاله المختلفة؛ الديموغرافية والفقهية والمالية والسياسية، وظلت إيران على الدوام الرقم الحاضر الغائب في المعادلة الداخلية العراقية، والعمق الاستراتيجي والروحي للحوزة ولشيعة العراق، وهو حضور يطوِّر الخلاف السني الشيعي المحلي، ويقلل من فرص الوفاق.

وربما ظهرت آثار هذا الحضور بادية في موقف الحوزة الصامتة ـ مصطلح شيعي عربي ـ التي يهيمن عليها التيار الفارسي في صمتها من تدمير الفلوجة وقتل أناسها العزل، في مقابل السلوك التكافلي الذي أبداه أهل السنة والتيارات الشعبية الشيعية العربية نحو بعضهم أثناء أحداث الفلوجة الأولى وأحداث النجف. وظهرت هذه الآثار في فتوى المرجعية العظمى في الحوزة ـ وهو إيراني لا يحمل الجنسية العراقية ـ بدخول النار لمن لا يشارك في العملية السياسية التي يريدها المحتل الأمريكي.

ليس مجانبة للصواب القول: إن الدولة العراقية استطاعت إيجاد شخصية عراقية تعتز بوطنها، وأن ملامح هذه الشخصية غطت إلى حد ما على الاعتبارات الأخرى التي يزخر بها كل مجتمع فسيفسائي كالمجتمع العراقي.

قد لا نبالغ إذا قلنا: إن المشوار الثقافي عند الفرد السني وطموحاته السياسية تنتهي عند الغلاف الخلفي لكتاب التربية الوطنية الذي تقرره مناهج الدولة في المدارس والمعاهد وحتى في الدوائر الحكومية.

هذه العلاقة بين الشخصية السنية ومؤسسات الدولة صيد سهل لخصوم أهل السنة، لكن الناظر في التاريخ يرى أن نشوء هذه الشخصية كان مصاحباً لنشأة دولة الحضارة العربية الإسلامية الأولى، بل إنهما أوجدا بعضهما، لتبقى هذه الشخصية لصيقة بالدولة ومؤسساتها الفقهية والفكرية والحضارية على مر العهود.

وفرق كبير بين أن تكون نقطة البداية من الحكم وبين أن تكون المعارضة هي الأصل.

المشكلة هي أن الدولة المعاصرة تغيرت والشخصية هذه استمرت؛ فما كان هو الأسلم في حساباتها يوم صفين ووصول الأمويين وفتن الفلسفة في خلافة بني العباس والعلاقة مع الأقليات المذهبية بقي هو الأسلم. الأسوأ هو عندما تُحسَب هذه الأنظمة على أهل السنة ويؤخذون بجريرتها. وقد خسر أهل السنة بسبب أيديولوجية استنبطت في ظروف مختلفة قطاعاً واسعاً من شارعهم ولا زالوا يفعلون.

يمكن القول: إن سيكيولوجية الحكم المزمنة لدى هذه الشخصية لا زالت تتحكم بها في زمن الاستضعاف؛ فهي لم تألف العمل المعارض، ولا تملك خطاً ثانياً من مؤسسات الاكتفاء الذاتي المالي والإعلامي والاجتماعي مما يوازي مؤسسات الدولة، فتفعله في الحالات الاستثنائية وتدير به شؤون «شارعها» كما هو الحال لدى الأقليات؛ لذا نرى الاضطراب والحيرة يدبان في سلوكها لحظة غياب الدولة.

من أين تبدأ هذه الشخصية خطة إعادة التأهيل؟ سؤال كبير. ولكن ما من شك أن طريقة التفكير هي إحدى العثرات المبكرة على الطريق؛ فلا زالت هذه الشخصية تفكر بعقلية من يحكم وليس بطريقة من اجتمعت عليه الأحزاب. وفي الغرب يدخل أفراد الحزب الحاكم الذي خسر الانتخابات في «كورس» لنقلهم من جو سيكيولوجي إلى آخر، وإعادة تكييف الشخصية بما ينسجم ومهامها الجديدة؛ فكيف بمن أمضى تاريخه كله في موقع الحكم ولم يجرب المعارضة، وليس في فقهه السياسي الذي استنبط في ظروف التمكن الكثير الذي يرجع إليه، أو في تاريخه من الفصول المشابهة التي يمكن الاقتباس منها؟

ما استيقظ عليه أهل السنة أمام مشهد سقوط بغداد وبعضهم لم يستيقظ حتى هذه اللحظة أن الحدث الكبير ألغى عملتهم الأيديولوجية في سوق صرف العملات، فلا العراق عاد عربياً، ولا وحدوياً، ولا عراقاً موحداً بالضروة. بضاعة خرج موسمها.

أمر آخر استيقظ عليه أهل السنَّة، وهو أن خصمهم وضعهم في خانة واحدة، إسلاميهم ووطنيهم، دون اعتبار لاختلافاتهم، وذبحهم على مذبح واحد.

وإذا كان الأمران الأول والثاني خارجين عن الإرادة؛ فإن الأمر الأخير هو إيضاح ميداني بالألوان لبيئة العمل السياسي الموحد لأطياف أهل السنة ولو إلى حين، وإذا كان الخوف من الغرق جدير بأن يحوِّل ركاب السفينة الجانحة إلى فريق إنقاذ واحد، فإن الفناء أمام الآلة العسكرية والسياسية الأمريكية أجدر به أن يحقق ذلك.

لقد كانت الشخصية الوطنية وسلامة الوطن والانتماء للمحيط العربي شغل الفرد السني الشاغل، لكن الحصار الداخلي الخانق الذي يواجهه أهل السنة اليوم، والحرب الأهلية غير المعلنة التي تشن ضدهم، واشتراك ميليشيات الفئات الأخرى مع جيش الاحتلال في دك مدنهم، والدور الإيراني المكشوف، ومجيء الكوريين والبولنديين والمجريين واليابانيين من وراء الحدود، هذا السيناريو بمجمله لا يبقي لمعاني المواطنة الشيء الكثير، ويختزل معنى الوطن إلى مساحة من اليابسة للعيش، ويدفع الخيارات الأيديولوجية للمحاصرين إلى ما وراء الحدود من جديد باتجاه عمقهم الإقليمي التاريخي.

ما ينتظر العراق علمه عند الله تعالى؛ فقد يطول الاحتلال وقد يقصر، ولكن الاحتراب الثقافي الداخلي يبقى بوابة المحتل متى ما شاء الدخول، وطوق النجاة إذا ما اضطر إلى الخروج يوماً، وحينها سيدخل في صفقة مع من يراه أخف الضررين في طرفي النزاع الثقافي، حتى لو كان ذلك الطرف فصيلاً في المقاومة، وسيتحول ذلك الفصيل إلى حكومة وطنية، وينقلب على رفيق الأمس، وحينها نكون قد عدنا إلى حيث بدأنا في القرن الماضي حينما قرر الإنكليز والفرنسيون «الخروج» ومنح «الاستقلال» .

قضيتنا نحن أهل السنة ـ وبخلاف غيرنا ـ هي أننا إما أن نكون أو لا نكون. شخصيتنا سبيكة ثنائية المعدن، العمل بأحدهما ينتج ثقافة عرجاء جربها جيلان على نحو ثمانية عقود فوصلوا بها إلى درك التخلف العالمي.

مدرسة أهل السنة اليوم ـ وكما في أية مدرسة سياسية ـ أمام مشكلة أطياف سياسية، هذه الأطياف منها ما يقف عند النص (في هذه الحالة بشقيه: الرسالة السماوية ومكارم الأخلاق العربية) ، وهو ما يقابل النظرية أو الأيديولوجية عند الأحزاب المعاصرة، وهذا طيف أقرب للمرجعية الفكرية. ومنها أحزاب سياسية ميدانية تلتقي في برامجها مع النظرية في مساحات وتبتعد عنها في مساحات أخرى. ونوع ثالث يصطدم مع النص ولا ينتسب إلى مدرسته في الواقع إلا انتساباً «بيولوجياً» .

لا يختلف المسلمون عبر تاريخهم أن السياسة هي فن الممكن، وفي كثير من الأحيان هي فن الإنقاذ. وإذا كان ركاب السفينة الجانحة يدركون تماماً أنهم أمام وفاق قسري مدته تعادل بُعدَهم عن اليابسة على الأقل، وإلا فالغرق هو خيارهم الآخر والوحيد؛ فإن الذين يذبحون اليوم على مذبح المارينز أمام وفاق قسري إلى حين انجلاء هذه الغمة، وإلا فالفناء السياسي هو خيارهم الآخر، إلا من أراد منهم الغرق الاختياري في المستنقع الأمريكي.

إذا كان الاقتباس السياسي في حكومة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هو أول صور المرونة التي مارستها دولة الحضارة العربية الإسلامية الفتية؛ فإن في العملية السياسية في الغرب اليوم طرفاً ثالثاً في معادلة صنع القرار يتوسط مؤسستي النظرية والتنفيذ، وقد قطع هذا الفن أشواطاً بعيدة تحت مسمى معاهد الفكر التي تكون ظهيراً ـ ولكن مستقلاً ـ للمؤسسات السياسية، التي تستفيد غير ملزَمة من عصارة بحوثها ودراساتها في رسم سياستها واستقراء الواقع من حولها. وتنتسب هذه المعاهد إلى مدارس أيديولوجية، وتتخصص في إثراء نظرياتها لتكون هي العمق الفكري للمؤسسة التفيذية، وهمزة الوصل بين شخصيتي المنظّر والمنفّذ.

وتلعب هذه المعاهد أدواراً مهمة في تحديد مواقع نقطة الوسط في الطيف السياسي؛ فهي ـ أي المعاهد ـ أقرب للمثالية منها إلى الواقع، وهو ما يحافظ على قرب أحزاب الوسط من النظرية، ويضع حداً لحالة التفلت الأيديولوجي. كما أن لهذه المعاهد المستقلة المقدرة على إبداء آراء ونشر دراسات يتعذر على المؤسسة التنفيذية القيام بها.

نحن أكثر حاجة من الغرب إلى معاهد فكر تعمِّق مفاهيم حضارتنا، وتؤطر أيديولوجيتنا، وترمم العلاقة بين طرفي معادلتنا، وتعيد صياغة قاموسنا السياسي بلغة سهلة يفهمها رجل الشارع.

الأزمات محطات مهمة في تاريخ الشعوب لا تفوّت، فيها تُراجَع القناعات وتُصنَع المعجزات، وفيها يعاد رسم الشخصية الجماعية للمجتمع، وهي فرص نادرة الحدوث.

الخطب ليس يسيراً، ولكن الأمم إما متبوئة لقمة الرفاهية راكنة إلى الدعة في فترات الاستقرار ومتراخية في مضمار البناء الفكري، وإما متبوئة لقمم الفكر في أوقات الضيق ومتراجعة عن رغد العيش، والأمل في الله ثم في سنن المجتمعات هو أن تكون الأخيرة من نصيب أجيال اليوم.


(*) كاتب من العراق مقيم في بريطانيا.