[الأساس الصلب]
تكوينه.. أهميته.. دوره
سالم بن أحمد البطاطي
إن أي دعوة جادة تنشأ لأول مرة في مجتمع من المجتمعات تكون غريبة عليه، وغير مألوفة لديه؛ ولذلك تواجه في أول أمرها الاستغراب والتوجس والشك؛ بل تواجه في معظم الأحيان: الرد، والرفض، والاستنكار.
وكلما بعدت الشقة وعظم الفرق بين الحال التي يعيشها هذا المجتمع؛ عقيدة وسلوكاً وتشريعاً، وبين الصورة التي جاءت بها هذه الدعوة الجديدة؛ كان ذلك أدعى إلى عظم المواجهة، وضراوة الحرب، وشدة النفور.
ولو تصورنا الحال التي كانت تعيشها الجاهلية العربية الأولى التي بعث فيها النبي -صلى الله عليه وسلم -، ومدى تغلغل الفساد، والهوى، والانحراف العقدي والتشريعي، والسلوكي فيها، وتعارف الناس على الأوضاع والمعتقدات الوثنية، وبناء حياتهم وتصرفاتهم كافة ـ حضراً وسفراٌ، فعلاً وتركاً ـ على هذه المعتقدات والتصورات.
ثم تصورنا الدعوة التي يحملها المصطفى -صلى الله عليه وسلم - من لدن ربه ـ عز وجل ـ وما فيها من الكمال، والجمال، والنقاء، والتطهر، والتوحيد، ورد الأمور كلها لله ـ عز وجل ـ ورفض كل الآلهة المدعاة، وتسفيه أحلام عابديها على مدار الزمان، وإعادتها إلى أوضاعها الطبيعية: أحجاراً أو أشجاراً أو تماثيل؛ لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ونبذ المعتقدات الضالة المتعلقة بالملائكة، أو بالجن، والمتأصلة في عقلية الرجل العربي، وتغيير الشعائر، والمناسك، والتشريعات، والعادات الاجتماعية، والقبلية، والدينية التي تسيطر على هذه البيئة.
لو تصورنا هذه إلى جنب تلك في كل مجالات الحياة، والاعتقادات التي جاء الإسلام لتغييرها، وإعادتها إلى أصولها الصحيحة؛ لأدركنا طبيعة المعركة التي كان لا بد أن تثور وتدور بين هذا الوضع الثابت المستقر الموروث، وبين هذه الدعوة الجديدة الناشئة.
وهذا الأمر وحده ـ وهو الفرق الشاسع بين صورة الجاهلية المهلهلة المظلمة المضطربة، وبين الحقيقة الناصعة القوية التي جاء بها الإسلام ـ كافٍ في تعليل الغربة الأولى التي واجهها، وعاناها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في مطلع الدعوة، واستمرت آثارها فترة ليست بالقصيرة من عمر الدعوة الأولى.
لقد انتفض التجمع الجاهلي ليدفع عن نفسه الخطر الذي يتهدد وجوده بكل ما يدفع به الكائن العضوي خطر الموت عن نفسه؛ وهذا هو الشأن الطبيعي الذي لا مفر منه كلما قامت دعوة إلى إلهية الله للعالمين؛ في مجتمع جاهلي يقوم على أساس من إلهية العباد للعباد؛ وكلما تمثلت الدعوة الجديدة في تجمع حركي جديد يتبع في تحركه قيادة جديدة، ويواجه التجمع الجاهلي القديم مواجهة النقيض للنقيض.
- كيف يكون الأساس صلباً؟
لا بد أن نعلم أن الابتلاء سنَّة {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ٢ - ٣] ، والتمحيص قبل القضاء على الأعداء سُنة {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ١٤١] ، وفي فترة الابتلاء والتمحيص تتم جوانب كثيرة من التربية المطلوبة لحَمَلَة الأمانة الذين يواجهون الجاهلية في أول جولة، والذين يحتاجون إلى صفات وأحوال غير التي تحتاج إليها الأفواج الداخلة فيما بعد، بمقدار ما تختلف إقامة الأعمدة الراسية في الأرض، التي تحمل البناء كله، عن إقامة الأحجار في أماكنها بين هذه العمدان.
إن هذه الأعمدة تحتاج إلى صناعة خاصة، ومكونات خاصة، ومقومات خاصة، وزمن معين لاستكمال تلك المقومات؛ فإن لم تستوفِ كل مقومات صناعتها، فإنها تعرض البناء كله فيما بعد للتشقق أو الانهيار.
لقد تعرض كل فرد في التجمع الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها، إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان، ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الإسلامي الوليد، والولاء لقيادته الجديدة، إلا كل من نذر نفسه لله، وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمار بن ياسر وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس؛ فما منهم إنسان إلا وقد وأتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه فأعطوه الولدان، وأخذوا يطوفون به شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد» (١) .
وقال عبد الله بن عمر: «.. كان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن في دينه، إما قتلوه، وإما عذبوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة» (٢) .
وكان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وأخزاه، وأوعده بأبلغ الخسارة الفادحة في المال والجاه، وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به (٣) .
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته (٤) .
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً، فتخشف جلده تخشف الحية (٥) .
وكان أبو فكيهة ـ واسمه أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، فكانوا يشدون برجله الحبل، ثم يجرونه على الأرض (٦) .
وكان خباب بن الأَرَتْ مولى لأم أغار بنت سباع الخزاعية، فكان المشركون يذيقونه أنواعاً من التنكيل، يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً، ويلوون عنقه تلوية عنيفة، وأضجعوه مرات عديدة على فحام ملتهبة، ثم وضعوا عليه حجراً؛ حتى لا يستطيع أن يقوم (٧) .
وكان المشركون يلفون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر، ثم يلقونه في حر الرمضاء، ويلبسون بعضاً آخر درعاً من الحديد ثم يلقونه على صخرة ملتهبة (٨) .
وقائمة المضطهدين والمغتربين في الله طويلة ومؤلمة جداً؛ فما من أحد علموا بإسلامه إلا تصدوا له وآذوه. لقد كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة، وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط؛ وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدم النصير الأرضي.. إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للأساس الأصيل الثابت عند نقطة الانطلاق الأولى.
ولقد كان -صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحداث وفي هذه الظروف الصعبة يربيهم على ما يلي:
١ - التأسي بالسابقين من الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل الأذى في سبيل الله.
٢ - التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه الإسلام في هذه الحياة الدنيا، ويذل فيه أهل الشرك والعصيان.
عن خباب ـ رضي الله عنه ـ قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله؟ فقعد وهو محمر وجهه، فقال: «لقد كان مَنْ قبلَكم ليمشَّط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه، فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله» زاد بيان: «والذئب على غنمه» (٩) .
٣ - التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من النعيم، وعدم الاغترار بما في أيدي المشركين من زهرة الحياة الدنيا.
عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمار وأم عمار وعمار: «اصبروا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة» (١٠) .
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم - مر بعمار بن ياسر وبأهله يعذبون في الله ـ عز وجل ـ فقال: «أبشروا آل ياسر! موعدكم الجنة» (١) .
٤ - ضبط النفس والتحلي بالصبر، وعدم مقارعة القوة بالقوة والعدوان بالعدوان، حرصاً على حياتهم ونظراً لمستقبل الدعوة، وإمساكاً بزمام الدعوة الوليدة أن يئدها الشر وهي لا تزال غضة طرية ولعل المشركين كانوا يحرصون على مواجهة حاسمة مع الدعوة تنهي أمرها، لكن الحكمة الإسلامية فوتت عليهم الفرصة.
أتى عبد الرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم - بمكة فقالوا: يا نبي الله! كنا في عزة ونحن مشركون؛ فلما آمنا صرنا أذلة! قال: إني أُمرت بالعفو؛ فلا تقاتلوا القوم ـ فلما حوَّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِىلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: ٧٧] (٢) .
٥- توثيق الصلة بالله، والتقرب إليه بالعبادة. ولقد نزلت هذه الآيات في المرحلة المكية؛ حيث قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل: ١ - ٦] ، وهي تأمر النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يخصص شطراً من الليل للصلاة، وقد خيّره الله ـ تعالى ـ أن يقوم للصلاة نصف الليل أو يزيد عليه أو ينقص منه، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه معه قريباً من عام حتى ورمت أقدامهم، فنزل التخفيف عنهم بعد أن علم الله منهم اجتهادهم في طلب رضاه، وتشميرهم لتنفيذ أمره ومبتغاه، فرحمهم ربهم فخفف عنهم فقال: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: ٢٠] . ولا شك في أن امتحانهم في هجر الفُرُش ومقاومة النوم ومألوفات النفس لتربيتهم على المجاهدة، وتحريرهم من الخضوع لأهواء النفس، تمهيداً لحمل زمام القيادة والتوجيه في عالمهم؛ إذ لا بد من إعداد روحي عال لهم.
وكان -صلى الله عليه وسلم - يربي الصحابة على هذه المبادئ وغيرها تأكيداً عبر المواقف والأحداث اليومية كما مر معنا مع آل ياسر وخباب. وتأسيساً عبر اللقاء التربوي في دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا.
لقد كان الذين استجابوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - في مكة خلال ثلاثة عشر عاماً قلة محدودة لا تبلغ المائتين من الناس، ولكنهم كانوا هم نواة ذلك الجيل الفريد الذي تفرد في التاريخ البشري كله.
كانوا قلة، نعم! ولكنهم كانوا ـ بلغة البناء ـ هم الأعمدة الراسية التي يقوم عليها البناء كله، فتحمله وتمكِّن له في الأرض. وكما يعمد البنّاء حين يشرع في إقامة بنائه إلى دك الأساس دكّاً متيناً بادئ ذي بدء، ثم إقامة الأعمدة التي تحمل البناء، قبل أن يضع الطوب والأحجار.. فكذلك فعل قدر الله بهذه الدعوة على يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقيض له تلك الفئة القليلة حوله -صلى الله عليه وسلم - تتلقى كل رعايته، وكل توجيهه وكل تربيته، وتتلقى منه الشحنة كاملة، فتكون كما شاء الله لها أن تكون، عُمُداً راسية في كل اتجاه.
بذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربي؛ فأما العناصر التي لم تحتمل هذه الضغوط فقد فتنت عن دينها وارتدت إلى الجاهلية مرة أخرى؛ وكان هذا النوع قليلاً؛ فقد كان الأمر كله معروفاً مكشوفاً من قبل؛ فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع الطريق الشائك الخطر المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة الفريدة التكوين.
وهكذا اختار الله السابقين من المهاجرين من تلك العناصر الفريدة النادرة، ليكونوا هم القاعدة الصلبة والأعمدة الراسية لهذا الدين في مكة؛ ثم ليكونوا هم القاعدة الصلبة والأعمدة الراسية لهذا الدين بعد ذلك في المدينة؛ مع السابقين من الأنصار الذين وإن كانوا لم يصطلوها في أول الأمر كما اصطلاها المهاجرون، إلا أن بيعتهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة قد دلت على أن عنصرهم ذو طبيعة أصيلة مكافئة لطبيعة هذا الدين.
- أهمية الأساس الصلب:
إن هذه الصفوة (المتمثلة في الأساس الصلب) هي التي تستطيع بحكم متانة تأسيسها أن تصمد لكيد الجاهلية التي تحاول بكل جهدها أن تقضي على الدعوة الجديدة قبل أن تمد لها جذوراً في التربة؛ لأنها تعلم جيداً أنها إن لم تبذل كل طاقتها في ذلك فسيفلت الأمر من يدها، ولا تستطيع أن تسيطر عليه؛ لذلك يكون البطش في أقصى عنفوانه في جولته الأولى، ولا يصمد له إلا تلك الصفوة المختارة من المؤمنين الذين يتلقون الشحنة الكاملة من قائدهم الذي يتعهدهم بتربيته ورعايته.
ثم إن نجاح هذه الصفوة في الصمود للكيد هو الذي يشكل في الحقيقة نقطة التحول في خط سير الدعوة؛ لأنه يعطف القلوب نحو أولئك المؤمنين الذين يتلقون هذا القدر الهائل من البطش والتعذيب دون أن يتحولوا عن الحق الذي يؤمنون به، فيكون صمودهم شهادة لهذا الحق، تجتذب نفوساً جديدة تؤمن به وتجاهد في سبيله، فتتسع القاعدة وهي على القدر ذاته من المتانة وقوة التأسيس.
ثم إن هذه الصفوة تشكل جنوداً فائقين لقائد الدعوة، ولكنهم في الوقت ذاته يربَّوْن ليكونوا قادة، وليكونوا خَلَفاً للقائد من بعده.
انظر إلى صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -! لقد كانوا جنوداً فائقين للدعوة ولقائدهم -صلى الله عليه وسلم - على الصورة التي يعرفها التاريخ، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - رباهم في الوقت ذاته بحيث يكون كل واحد منهم ركناً في الموقع الذي يكون فيه، فقاموا بالمهام التي وكلها إليهم على المستوى الفائق الذي يعرفه التاريخ، وكانوا هم القدوة للناس في تربيتهم على هذا الدين، كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قدوتهم هم في هذه التربية الفريدة، ثم كانوا هم حَمَلَة الأمانة من بعده، والقادة الذين قادوا الأمة من بعده في الخلافة الراشدة التي يعرفها التاريخ.
- دور الأساس الصلب:
لقد كان للأساس الصلب دور بارز في نصرة الدين وتثبيته والدفاع عنه وحمايته؛ هذا الدور هو الدور المنتظر لهذه الصفوة المختارة أن تكون عوناً في نصرة الدين وتثبيته وحمايته والدفاع عنه تتبنى ذلك وتعتقده، عقيدة في القلب لا تساوم عليه، تقدم من أجله الغالي والنفيس وهذا الذي حصل.
ولعلنا نعرض مثالين لهذا الدور البارز في فترتين مختلفتين:
١ - بعد غزوة بدر.
٢ - بعد فتح مكة.
وقبل أن نشرع في توضيح دور الأساس الصلب في هاتين الفترتين حري بنا معرفة حال المجتمع خلالهما.
- المجتمع المدني بعد غزوة بدر:
لم يظل المجتمع المدني بهذا الخلوص والنقاء. لقد ظهر الإسلام وفشا في المدينة؛ واضطر أفراد كثيرون ومعظمهم من ذوي المكانة في قومهم أن يجاروا قومهم احتفاظاً بمكانتهم فيهم؛ حتى إذا كانت وقعة بدر قال كبير هؤلاء عبد الله بن أُبَيّ بن سلول: «هذا أمر قد توجه» وأظهر الإسلام نفاقاً. ولا بد أن كثيرين قد جرفتهم الموجة فدخلوا في الإسلام تقليداً ـ ولو لم يكونوا منافقين ـ ولكنهم لم يكونوا بعدُ قد فقهوا في الإسلام ولا انطبعوا بطابعه؛ مما أنشأ تخلخلاً في بناء المجتمع المدني ناشئاً عن اختلاف مستوياته الإيمانية.
إذاً المجتمع المدني بعد بدر كان مجتمعاً مدخولاً بعناصر جديدة تحتاج إلى تصفية وصهر وتربية.
آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من القلوب (بعد بدر) :
هذه بعض آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من قلوب العناصر المختلفة الجديدة الداخلة في جسم المجتمع الوليد. لقد كانت تظهر بين الحين والحين ـ وبخاصة في فترات الشدة ـ أعراض من الضعف، والنفاق والتردد، والشح بالنفس والمال، والتهيب من مواجهة المخاطر؛ وبصفة خاصة أعراض من عدم الوضوح العقيدي الذي يحسم في العلاقة بين المسلم وقرابته من أهل الجاهلية. وهناك نصوص قرآنية تكشف لنا عن طبيعة هذه الأعراض التي كان المنهج القرآني يتعرض لها بالعلاج بشتى أساليبه الربانية الفريدة نذكر منها على سبيل المثال:
١- قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًَا * وَإنَّ مِنكُمْ لَمَنْ لَّيُبَطِّئَنَّ فَإنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} [النساء: ٧١ - ٧٣] .
٢ - قال ـ تعالى ـ: {إنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ * هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: ٣٦ - ٣٨] .
٣ - قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر: ١١ - ١٣] .
٤ - قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: ٩ - ١١] .
وحسبنا هذه النماذج من شتى السور، للدلالة على أن ما كان يظهر في المجتمع المسلم من أعراض نتيجة طبيعية وحتمية لدخول عناصر جديدة فيه بصفة مستمرة، لا يتم صهرها وتنسيقها مع القاعدة الصلبة الخالصة إلا بعد فترة وجهد وتربية مستمرة.
إلا أن قوام المجتمع المسلم في المدينة كان سليماً في جملته بسبب اعتماده أساساً على تلك القاعدة الصلبة الخالصة من السابقين من المهاجرين والأنصار؛ وما تحدثه من تماسك وصلابة في قوامه في وجه جميع الأعراض والظواهر والخلخلة أحياناً، والتعرض للمخاطر التي تكشف عن هذه العناصر التي لم يتم بعدُ صهرها ونضجها وتماسكها وتناسقها.
وبهذا يظهر دور الأساس الصلب في تلك الأثناء وهو القيام بعملية الصهر للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم؛ وبالفعل كانت هذه العناصر تنصهر شيئاً فشيئاً وتنساق مع القاعدة والأساس الصلب؛ ويقل عدد الناشزين من ضعاف القلوب ومن المنافقين؛ ومن المترددين كذلك والمتهيبين وممن لم يتم في نفوسهم الوضوح العقيدي الذي يقيمون على أساسه كل علاقاتهم مع الآخرين؛ حتى إذا كان قبيل فتح مكة كان المجتمع الإسلامي أقرب ما يكون إلى التناسق التام مع قاعدته الصلبة الخالصة؛ وأقرب ما يكون بجملته إلى النموذج الذي يهدف إليه المنهج التربوي الرباني الفريد، فتقاربت المستويات الإيمانية وتناسقت، وتوارى من ذلك المجتمع؛ الكثير من أعراض الخلخلة في الصف، والكثير من ظواهر الضعف والتردد والشح بالنفس والمال، وعدم الوضوح العقدي، والنفاق بحيث يمكن اعتبار المجتمع المدني بجملته هو القاعدة الإسلامية.
- حال المجتمع المدني بعد فتح مكة:
إن فتح مكة في العام الثامن الهجري، وما أعقبه من استسلام هوازن وثقيف في الطائف ـ وهما آخر قوتين كبيرتين بعد قريش في الجزيرة ـ قد عاد فصب في المجتمع المسلم أفواجاً جديدة كثيرة دخلت في الدين مستسلمة على درجات متفاوتة من المستويات الإيمانية؛ وفيهم كارهون للإسلام منافقون؛ وفيهم المنساقون إلى الإسلام الظاهر القاهر، وفيهم المؤلفة قلوبهم، دون انطباع بحقائق الإسلام الجوهرية ولا امتزاج بروحه الحقيقية.
غير أن هذا الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر ـ ولكن على نطاق أوسع ـ بعدما كاد المجتمع يبرأ منها بتأثير التربية الطويلة المدى، المستمرة التأثير خلال السنوات السبع بعد بدر الكبرى؛ ولولا أن المجتمع المدني بجملته كان قد تحول إلى أن يكون هو القاعدة الصلبة الخالصة لهذه العقيدة، والأساس الركيز لهذا المجتمع؛ لكان هناك خطر كبير من هذا الاتساع الأفقي السريع في رقعة الإسلام في الجزيرة. ولكن الله الذي كان يدبر لهذا الأمر ويرعاه، كان قد أعد العصبة المؤلفة من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لتكون هي القاعدة الأمينة لهذا الدين بعد التوسع النسبي الذي جاء به انتصار بدر، كما أنه ـ سبحانه ـ كان قد أعد المجتمع المدني بجملته ليكون هو القاعدة الأمينة بعد التوسع الشديد السريع الذي جاء به فتح مكة. والله أعلم حيث يجعل رسالته.
- آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من القلوب (بعد الفتح) :
كما ذكرنا سابقاً أن الاتساع الأفقي في رقعة الإسلام قد أعاد معه جميع الأعراض والظواهر التي ظهرت في المجتمع بعد انتصار بدر، ولكن على نطاق أوسع؛ وهذه بعض آثار عدم تمكن الإيمان والتربية من قلوب العناصر المختلفة الجديدة الداخلة في جسم المجتمع بعد الفتح منها:
١ - يوم حنين: قال ـ تعالى ـ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: ٢٥] .
وكان من الأسباب الظاهرة لهذه الهزيمة في أول الأمر أن ألفين من (الطلقاء) الذين أسلموا يوم الفتح، قد خرجوا مع الآلاف العشرة من جند المدينة الذين فتحوا مكة، فكان وجود هذين الألفين ـ مع عشرة آلاف سبباً في اختلال التوازن في الصف بالإضافة إلى عامل المفاجأة من هوازن ـ ذلك أن الجيش لم يكن كله من القاعدة الصلبة الخالصة التي تمت تربيتها وتناسقها في الزمن الطويل ما بين بدر والفتح.
٢ - كذلك ما ظهر في أثناء غزوة تبوك من الأعراض والظواهر المؤذية ثمرة طبيعية لهذا الاتساع الأفقي السريع؛ ودخول تلك الأفواج الجديدة بمستوياتها الإيمانية والتنظيمية المخلخلة؛ وقد تحدثت سورة التوبة عن هذه الظواهر والأعراض.
٣ - بعد عامين اثنين من الفتح، عندما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فارتدت الجزيرة العربية كلها، ولم يثبت إلا مجتمع المدينة ـ القاعدة الصلبة الخالصة ـ هذه الظاهرة يسهل الآن تفسيرها. إن عامين اثنين بعد الفتح لم يكونا كافيين لاستقرار حقيقة الإسلام في نفوس هذه الأفواج الكثيرة التي دخلت في دين الله بعد الفتح، بمستوياتها الإيمانية المخلخلة. فلما قُبِض رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ارتجت الجزيرة المخلخلة، وثبتت القاعدة الصلبة. وبهذا يظهر جلياً دور الأساس الصلب والقاعدة الصلبة في تلك الأحداث العظيمة بثباتها على دين الله وتضحيتها وبذلها من أجله خاصة في أوقات العسرة، وحراسة الإسلام وصيانته من الهزات العنيفة بعد الفتح، ومن الهزة الكبرى بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم - وارتداد الجزيرة.
- ملخص دور الأساس الصلب:
١ - هم القاعدة في مكة والمدينة (قبل بدر) .
٢ - هم الحراس الأقوياء الأشداء في فترة التخلخل التي أعقبت النصر في بدر، بالتوسع الأفقي الذي جاء بأعداد جديدة لم تنضج بعد، ولم تتناسق مع القاعدة في مستواها الإيماني والتظيمي، فقاموا بعملية الصهر للعناصر المختلفة الداخلة في جسم المجتمع الوليد والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم.
٣ - هم الذين ثبتوا وضحوا وبذلوا وحرسوا الإسلام وصانوه من الهزات العنيفة بعد الفتح، ثم من الهزة الكبرى بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، وارتداد الجزيرة عن الإسلام.
- خلاصة الدروس المستفادة:
١ - تدبير الله الحكيم في المحنة الطويلة التي تعرضت لها الدعوة في مكة ـ في أول الأمر ـ وحكمته في تسليط المشركين الطواغيت على الفئة المسلمة يؤذونها، ويفتنونها عن دينها، ويهدرون دماءها، ويفعلون بها الأفاعيل. لقد كان الله ـ سبحانه ـ يعلم أن هذا هو المنهج القويم لتربية الجماعة الأولى وتكوين القاعدة الصلبة لهذه العقيدة، وأنه بدون هذه المحنة الطويلة لا تصلب الأعواد ولا تثبت للضغوط؛ وأن هذه الدرجة من الصلابة والخلوص والتجرد والإصرار والمضي في سبيل الله على الأذى والعذاب والقتل والتنكيل والتشريد والتجويع، وقلة العدد، وانعدام النصير الأرضي؛ إن هذه الدرجة هي وحدها التي تصلح للقاعدة الأصيلة الثابتة عند نقطة الانطلاق الأولى.
٢ - إن طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في أي زمان وفي أي مكان، يجب أن تبدأ بتوجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخُلَّص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها؛ والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعياً.
٣ - الحذر الشديد من التوسع الأفقي في الدعوة قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة.
فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى.
على أن الله ـ سبحانه ـ هو الذي يتكفل بهذا لدعوته؛ فحيثما أراد لها حركة صحيحة عرَّض طلائعها للمحنة الطويلة، وأبطأ عليهم النصر؛ وقللهم؛ وبطأ الناس عنهم؛ حتى يعلم منهم أن قد صبروا وثبتوا، وتهيؤوا وصلحوا لأن يكونوا هم القاعدة الصلبة الخالصة الواعية الأمينة، ثم نقل خطاهم بعد ذلك بيده ـ سبحانه ـ والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ذلك هو الترتيب الرباني الذي به نجحت الدعوة وتمكنت في الأرض.
ولْنتخيل الأمر تم على غير هذه الصورة، فدخل الناس في دين الله أفواجاً منذ أول لحظة أو في السنوات الأولى للدعوة، فهل كان يقوم البناء على الصورة ذاتها، وهل كان يرسخ في الأرض كما قدّر الله له الرسوخ؟!
إن الله يقول للشيء كن فيكون، ولو شاء الله لفعل، ولو قدر شيئاً لكان، ولكن الله ـ جلت مشيئته ـ قد جعل سنناً في الكون وسنناً في الأرض وسنناً في حياة الناس، وجعل تلك السنن هي العاملة بمشيئته ـ سبحانه ـ في الكون والأرض والناس، وجعل من سنته في الدعوة أن يستجيب لها قوم محددون، ينالون من رعاية النبي المرسل النصيب الأوفى، فيكونون كالأعمدة الراسية التي يقوم عليها البناء.
والتربية عملية شاقة بطيئة تحتاج إلى كثير من الجهد.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم - هو أعظم مرب في التاريخ، ولكنه لو واجه الألوف من أول لحظة فما كان من المستطاع أن يعطيهم كل رعايته وكل توجيهه وكل تربيته، كما أعطاها لتلك الحفنة القليلة العدد، فتحقق فيها على أكمل صورة وبأكمل قدر قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: ١١٠] وكان إتمام الأمر على هذا النحو متمشياً مع السنن الجارية التي يجري بها قدر الله في حياة الناس. فلقد شاء الله لحكمة يعلمها ـ سبحانه ـ أن يجري أمر هذا الدين كله على السنن الجارية لا على السنة الخارقة، حتى لا يأتي جيل من أجيال المسلمين يتقاعس، ويقول: لقد نصر الأولين بالخوارق، ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم الرسالة وانقطاع النبوات.
٤ - دور الأساس الصلب في كل زمان ومكان ما يلي:
أ - القيام بعملية الصهر للعناصر المختلفة الجديدة والارتقاء بهم عبر معايشتهم ومحاكاتهم.
ب - هم الحراس الأقوياء الأشداء الذين يحرسون الإسلام ويصونونه من الهزات العنيفة، ويقفون في وجه التيار ويردونه عن مجراه الجارف ويحولونه إلى الإسلام مرة أخرى.
ج - السعي الحثيث في إبقاء وتثبيت الإسلام على هذه المعمورة مهما كانت صعوبة الظروف وخطورة المواقف.
- أخيراً:
إن بعض الناس ينتظر من هذا الدين ـ ما دام منزلاً من عند الله أن يعمل في حياة البشر بطريقة سحرية خارقة غامضة الأسباب! دون أي اعتبار لطبيعة البشر، ولطاقاتهم الفطرية، ولواقعهم المادي.
وحين لا يرون أنه يعمل بهذه الطريقة يصابون بخيبة أمل لم يكونوا يتوقعونها، أو يصابون بخلخلة في ثقتهم بجدية المنهج الديني للحياة وواقعيته، أو يصابون بالشك في الدين إطلاقاً؛ وهذه السلسلة من الأخطاء تنشأ كلها من خطأ واحد أساسي: هو عدم إدراك هذا الدين وطريقته.
إن هذا الدين منهج إلهي للحياة البشرية. يتم تحقيقه في حياة البشر بجهد البشر أنفسهم في حدود طاقتهم البشرية، وفي حدود الواقع المادي للحياة الإنسانية في كل بيئة، ويتحقق بأن تحمله جماعة من البشر. تؤمن به إيماناً كاملاً، وتستقيم عليه ـ بقدر طاقتها ـ وتجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- المراجع:
١ - القرآن الكريم.
٢ - السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري، ج ١ مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط ٦، ١٤١٥هـ.
٣ - الغرباء الأولون، د. سلمان العودة. دار ابن الجوزي ط ١، ١٤٢٤هـ.
٤ - في ظلال القرآن ج ٢، سورة التوبة، دار الشروق. الطبعة الشرعية الحادية والعشرون، ١٤١٤هـ.
٥ - صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلي، دار النفائس، الأردن، ط ٢، ١٤١٦هـ.
٦ - الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار السلام، الرياض ١٤١٤هـ.
٧ - واقعنا المعاصر، محمد قطب، ط ١، مؤسسة المدينة للصحافة، ١٤٠٧هـ.
٨ - هذا الدين، سيد قطب، دار الشروق القاهرة - ١٣٩٩هـ.