مقال
[دعوة للتعقل الإعلامي]
بقلم: د. محمد البشر
الغلو الإعلامي ظاهرة يلحظها المتابع للوسائل الإعلامية في الوطن العربي
بكل أنواعها المقروءة والمسموعة والمرئية، والتعبير بكلمة (الغلو (لم يأت جزافاً أو
رديفاً أو قياساً على مظاهر الغلو في الدين، بل هو حقيقة يدركها كل من وهبه الله
قلباً عَقولاً يميز به بين الوهم والحقيقة، وبين الزيف والواقع، إن هذا الإعلام الذي
نقل إلينا مصطلحات (الغلو) و (التطرف) و (الأصولية) ، وألبسها لبوساً خاصّاً
مفصلاً على القضايا والمشكلات التي تعاني منها المجتمعات العربية، وروّج لها
لإقناع الجماهير بالمعنى المراد بها، والمفهوم الذي اختير لها، كان هو أول من
وقع في فخ المغالاة من حيث التعبير عنها أو العمل بها.
فالغلو ليس في الدين فقط، وليس في الفكر فقط، بل يكون أيضاً في الإعلام، حيث يتجلى هذا الغلو في أوضح صوره وأشكاله.
وفي صور هذا (الغلو الإعلامي) تحريف النصوص التي ينقلها هذا الإعلام
على لسان العلماء والدعاة والمصلحين في الوطن العربي، وغاية هذا التحريف
المتعمد أن ينسجم مع السياسة العامة لتلك المؤسسة الإعلامية، أو لا يتعارض مع
السياسة التي تملى عليها، ومنهج تحريف النصوص يكون بتحوير المعنى الأصلي
لها، أو بتر أجزاء منها حتى تتفق مع السياق العام المراد لها، وهذا النوع من الغلو
يكثر بشكل ملحوظ في الصفحات المخصصة للتحليل الإخباري ذي الصبغة
السياسية في الصحافة المقروءة بطريقة تبعث على النفور والتقزز.
ومن صور هذا الغلو: (التصفيق الإعلامي) في المحافل والمناسبات السياسية، ذلك التصفيق المثقل بكل معاني التزلف والمراء والمداهنة الذي يجيده فئام من
الإعلاميين حملوا على عواتقهم بزعمهم القضاء على الغلو بكل مظاهره في
المجتمعات العربية، الذي يأتي غالباً في سياق حديثهم عن الغلو في الدين وحربهم
له، وكأن الغلو لا يكون إلا في الدين فقط، ولسنا نرى بوناً شاسعاً وفرقاً كبيراً بين
من يغالي في حب شيخه وتقديسه والتمسح بجبته، وبين من يتزلف إلى (الزعيم)
ويعلق صورته على صدره أو يتسول على بلاطه ويستعطي عند بابه.
ومن صور هذا الغلو: التهميش المقصود للمشكلات التي تعاني منها الأمة
العربية، وتجاهل القضايا الكبرى الموغلة في جذور المعاناة، والاشتغال بقضايا
فرعية تأتي في ذيل اهتمامات المجتمع.
ومن صور هذا الغلو الإعلامي أيضاً: المبالغة في تحليل الخبر ووصفه
والتعليق عليه إذا وافق هوى في نفس صاحبه، واستغلال ما يصدر من الجهات
المختصة من قرارات وبيانات في الترويج لفكرة مكبوتة وضميمة موبوءة تبحث
عن متنفس لها يبرر نشرها والتصفيق لها، فتجعل من هذه القرارات والبيانات
الرسمية مطية لها يتصدر تعليق صاحبها عليها الصفحات الأولى لتزويقها وتضليل
العامة بها، وهذا منهج تقليدي قد حذقه أقوام وجدوا أنفسهم فجأة يتسنمون منابر
الإعلام ومنافذ الفكر بعد أن كانوا مرتكسين في حمأة الفن أو الرياضة، وإذا بنا
نراهم يمثلون طلائع الصفوة والنخبة التي فرضت على المجتمعات العربية فكراً
عقيماً أجوف لا يعرف ثابتاً ولا يفقه متغيراً.
إنها دعوة للتعقل الإعلامي في مجتمعاتنا العربية للقضاء على مظاهر الغلو في
أجهزته بكل صورها وأشكالها، دعوة تنادي بترميم شامل للواجهات الإعلامية التي
عفى عليها الزمن، والتي سودتها الشعارات، وطمست معالمها التيارات التي
عصفت بالأمة العربية سنين عدداً، وما الروائح المنبعثة من هذه الوسائل إلا دليل
على امتزاج قيء أصحابها بمداد أقلامهم.
إن لوازم العقل، ودواعي الفطرة، ومتطلبات المرحلة، ومنطق الحاجة،
واستقراء الواقع ... كل ذلك يحتم استئصال الفكر الأجوف الذي عشش وفرّخ في
أجهزة الإعلام العربي، واستبداله بفكر متجذر في عقيدة الأمة، يحمل الهم ويدرك
الغاية، يستجيب للواقع ويتفاعل مع الحقيقة، ليسمو بالمجتمع ويحرر العقل العربي
من أوشاب الزيف وأدران الجاهلية.
هذه مقتضيات الدعوة إلى التعقل الإعلامي الذي تفرضه ظروف المرحلة
الراهنة، ونقيضها يجعل من هذا الإعلام اليوم وغداً ومستقبلاً عبئاً على المجتمعات
العربية وعالة على شعوبها.