[أعداء الأمن كما وصفهم القرآن الكريم]
عبد العزيز بن ناصر الجليل
إن الله ـ عز وجل ـ خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه، وسخر لهم ما في السماوات والأرض ليستعينوا بذلك على القيام بهذه الغاية العظيمة، قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦] ، وجعل ذلك مركوزاً في عقولهم وفِطَرهم، ولكن من رحمته ـ سبحانه ـ أنه لم يَكِلهم إلى ذلك فحسب، بل أعانهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل؛ ليبينوا للناس غاية خلقهم ومصيرهم، ويُعرّفوهم بربهم ـ سبحانه ـ وأسمائه وصفاته، وكيفية عبادته، ووعدهم إن هم قاموا بذلك أن يأمنوا ويسعدوا ويسلموا في الدنيا على أنفسهم وأعراضهم وعقولهم وأموالهم، وفي الآخرة لهم الأمن التام بدخولهم دار السلام آمنين مطمئنين. وتوعدهم إن هم أعرضوا عن عبادته ـ سبحانه ـ وكفروا به بالخوف والجوع والمعيشة الضنك، والشقاء في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: ٩٦] .
وإن المتأمِّل في عالمنا المعاصر ليرى دون عناء ما يعج به عالمنا من المخاوف والمزعجات والمقلقات، والقتل، والجوع والأمراض النفسية والأسرية والاجتماعية، ويرى الهلع على وجوه كثير من الناس من جراء ما يهدد وجودهم وأعراضهم وأموالهم وقبل ذلك دينهم. ولا شك أن حماية الدين وتأمين الناس في أنفسهم وأعراضهم وعقولهم حتى تنتشر السكينة وتعمّ الطمأنينة، وردّ المعتدين؛ واجب على كل شخص بحسب علمه وقدرته.
لكن الملاحظ أنه قد صاحب ذلك التهديد للأمن حملة ماكرة خبيثة ملبسة مضللة من الكفار وأذنابهم المنافقين في وسائل إعلامهم المختلفة؛ وذلك بالتلاعب بالمصطلحات، والتلبيس على الناس في معنى الأمن ووسائله، ومعنى الإرهاب وطرائقه، وجاؤوا بزخرف من القول غروراً؛ ليصرفوا الناس عن الأسباب الحقيقية لاختلال الأمن في حياة الأفراد والمجتمعات والدول، والتي ذكرها الله ـ عز وجل ـ في كتابه الكريم، وجعلها سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتحول، وصرفوهم عن الأعداء الحقيقيين للأمن، وجاؤوا بأسباب أملتها عليهم أهواؤهم ومصالحهم؛ فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقاً. وهكذا شأن شياطين الإنس والجن الذين أخبرنا الله عنهم بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} [الأنعام: ١١٢ - ١١٣] .
فبيَّن ـ سبحانه ـ في هذه الآية الكريمة أن تضليل شياطين الإنس والجن للناس بأقوالهم المزخرفة المضللة لا ينطلي إلا على من ضعف دينه وإيمانه بالآخرة. وإلا فإن المؤمن بربه الذي يصدر عن كتابه ـ سبحانه وتعالى ـ وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والمؤمن بلقاء ربه في الآخرة؛ لا يصغي لهذا المكر ولا يرضاه ولا يقبله.
ولما كانت الحملة على الإسلام وثوابته ومفاهيمه شديدة وشرسة ولا سيما في هذه السنوات الأخيرة من قِبَل الكفار وإخوانهم من المنافقين في ديار الإسلام؛ أصبح بيان الحق في هذه الحرب متعيناً على كل قادر بلسانه وقلمه وبيانه وماله، وذلك لرفع اللبس عن المسلمين وإزالة الشبهات وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين، وذلك بالرجوع إلى القرآن وهديه ومجاهدة الأعداء به، قال ـ تعالى ـ: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: ٥٢] .
ـ ومن صور التلبيس في مفهوم الأمن اليوم قصره على أمن النفوس والأموال فحسب مع أنه أشمل من ذلك من حيث إن أعظم الأمن هو الأمن في الدين والعقيدة والأخلاق وحماية الناس من أن يُفتنوا في دينهم، وهذا المفهوم الشامل قد غاب عن حياة كثير من الناس اليوم. وقد أسهم في تغييبه الإعلام الماكر للكافرين وإخوانهم من المنافقين، حيث لم يضعوا للدين وحمايته أي اعتبار في تحقيق الأمن. مع أن الله ـ عز وجل ـ قد أفهمنا في كتابه الكريم أن أي خلل في أمن الناس فمصدره الخلل في دينهم وإيمانهم، فبضعف الدين والإيمان، أو غيابه يحصل اختلال الأمن في بقية ضروريات الإنسان من نفس ومال وعقل وعرض. قال ـ تعالى ـ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: ١١٢] .
ـ وكذلك من المفهوم القاصر للأمن الذي يحاول الملبسون ترسيخه في أذهان الناس اليوم هو توجيه الأنظار إلى توفير الأمن على النفس والرزق في هذه الحياة الدنيا فحسب، ونسيان الأمن الحقيقي والسعادة الكبرى في الآخرة، وعدم أو ضعف الحرص على ذلك، وإغفال الأسباب التي توصل إلى الأمن يوم الفزع الأكبر، والفوز بدار الأمن والسلام، والتي أعدَّها الله ـ عز وجل ـ لعباده المتقين، قال ـ تعالى ـ: {إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: ٤٥ - ٤٦] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: ٢٥] .
ـ وبهذا الطرح الشامل لمفهوم الأمن ينكشف لنا الأعداء الحقيقيون لأمن الناس الذين يتترسون وراء مكافحة الإرهاب العالمي، والحرص على توفير الأمن للناس؛ مع أنهم مصدر الإرهاب في العالم والخوف والجرائم والفساد، وبيان ذلك واضح وجليٌّ في أقوالهم وأفعالهم وجرائمهم الشنيعة، في إفسادهم للدين والنفس والعقل والمال والعرض وما يترتب على ذلك من العقوبات والمخاوف الدنيوية والعقوبات الأخروية في نار جهنم حيث لا أمن ولا راحة ولا سلام.
فأي الفريقين أحق بالأمن والدعوة إليه في الدنيا والآخرة؟ أهم دعاة التوحيد والإيمان والفضيلة؟ أم دعاة الشرك والكفر والفساد والرذيلة؟ لقد حسم الله ـ عز وجل ـ الجواب بقوله ـ سبحانه ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: ٨٢] . وما مثل أعداء الأمن الذين يعتدون على الناس في دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم وأموالهم، ويعرضونهم لعقوبة الله ـ تعالى ـ في الدنيا والآخرة إلا كما قال الأول: (رمتني بدائها وانسلّتْ) .
ـ ولإيضاح هذا الأمر أضمُّ إلى آية الأنعام السابقة الآيات التالية والتي يوضح الله ـ عز وجل ـ فيها مَنْ هم دعاة الأمن وأهله ومَنْ هم دعاة الشر والعذاب وأهله، وأنه لا التقاء بينهما، وهي من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق.
ـ قال ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: ٢٧] .
ـ ويقول ـ عز وجل ـ: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: ٢٢١] .
ـ ويقول الله ـ عز وجل ـ عن مؤمن آل فرعون وهو يدعو قومه: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: ٤١ - ٤٢] .
ـ إذن فكل من ناصب الدين العداء، وسعى لصدِّ الناس عنه، وحرمهم من نعمة الأمن الحقيقية في ظلاله، وكان سبباً في حلول عقوبة الله ـ عز وجل ـ في الناس سواء في الدنيا أو في الآخرة، فهو العدو الحقيقي لأمن الناس، وسلامتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، سواء كان هذا الصد عسكرياً أو فكرياً أو أخلاقياً، وسواء كان هذا العداء على الدين والأخلاق، أو على الأنفس والأموال والأعراض.
وبهذا يتبين أن أعدى أعداء الأمن اليوم هم الكفار ومن سار على نهجهم من المنافقين الذين أخافوا الناس وسلبوهم الأمن في دينهم وعقولهم إما بالشبهات أو الأفكار المنحرفة، وسلبوهم الأمن في نفوسهم باحتلال ديار المسلمين وإهلاك الحرث والنسل بالقتل والتشريد والتعذيب، وسلبوهم الأمن في أخلاقهم وأعراضهم بما سلطوا عليهم من وسائل الشهوات والإباحيات والفضائيات التي تقتل الفضيلة وتشيع الفاحشة، وسلبوهم الأمن في أموالهم بما سلطوا عليهم من نار الربا والبيوع والعقود المحرمة وأكل المال بالباطل. وساعدهم في تحقيق ذلك العملاء المنافقون المنتسبون زوراً وبهتاناً للإسلام والمسلمين، كما ساعدهم على ذلك بعض أبناء المسلمين من أهل الفسوق والمجون واللهو واللعب المتبعين للشهوات والذين ليس لهم هَمٌّ إلا الدنيا ومتاعها الزائل، وهؤلاء على درجتين:
١ ـ فمنهم الماجن الفاسد في نفسه وبيته.
٢ ـ ومنهم الداعي إلى الفساد بماله وفكره وجهده، وهؤلاء أشد جرماً من الفاسد في نفسه فقط. ولا يخفى ما لأهل الفسق والمجون والشهوات من أثر خطير على أمنهم في أنفسهم، وعلى أمن الناس الذي يضلونهم وينشرون الفاسد بينهم، فكم من مستقيم على دينه ضلَّ بسببهم! وكم من نفس تلفت أو لحقها أذى بسببهم! وكم من عقل اغتالته المسكرات والمخدرات بسببهم! وكم من عرض انتهك بسببهم! وكم من مال اعتدي عليه بسببهم! والمقصود أن أثر هذه الفئة ظاهر وجليٌّ في تهديد أمن الناس في حاجاتهم وضرورياتهم. وهم الذين يستخدمهم أعداء الدين من الكفرة والمنافقين في تمرير الفساد والخنا والرذيلة والفجور، حيث وافق فساد الكفرة ومخططاتهم الخبيثة هوى في نفوس هؤلاء الجهلة وأهل الشهوات، ووافق حباً للدنيا في قلوبهم فأسهموا في تنفيذ مخططات الكفرة المفسدين في بلاد المسلمين. وهؤلاء هم الذين أمرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ على أيديهم حتى لا تغرق سفينة المجتمع بسببهم، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» [البخاري: ٢٤٩٣] .
ـ وممن يلحق أيضاً بأعداء الأمن أهل الأهواء والبدع من أهل القبلة ولا سيما فرقتي الخوارج والمرجئة، ذلك أن من عقيدة الخوارج تكفير عصاة المسلمين ومن ثم استباحة دمائهم وأموالهم، وفي هذا عدوان على أمن الناس في دينهم بهذا المعتقد المخالف لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ وعدوان عليهم في دمائهم وأموالهم باستحلالها؛ لكونهم عند الخوارج كفاراً غير معصومين.
وأما اعتداء المرجئة على أمن الناس فيتمثل في معتقدهم المنحرف المخالف لما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ، وفي هذا اعتداء على الدين وعدوان على أمن الناس في أعراضهم وأموالهم وأنفسهم؛ لأن الإيمان عندهم إنما هو التصديق فحسب، وأنه لا يضر مع الإيمان معصية، ولا يخفى ما في ذلك من تجرئة الناس على الفجور والفساد والتهوين من شأن المعصية والرذيلة والفساد.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يؤمِّننا في ديننا وأنفسنا وعقولنا وأعراضنا وأموالنا في الدنيا، وأن يمنَّ علينا بدخول الجنة دار السلام والأمن، يوم يبعث ما في القبور، ويُحصّل ما في الصدور، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.