للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الإسلاميون.. وساعة الحقيقة إمكانات هائلة

... وطاقات معطلة

(٢)

عبد العزيز كامل

[email protected]

هل نحن الإسلاميين حساسون بقدر زائد عن الحاجة؟ ! .. وهل هذه

الحساسية مطلوبة في كل الأوقات؟ ! وهل يجب علينا كلما أردنا أن ننقد أنفسنا

ذاتياً أو نخاطب أنفسنا خطاباً موضوعياً أن نتدسس ونتحسس إلى درجة الوسوسة

في كل كلمة وكل معنى وكل عبارة، حتى لا نغضب أحداً، ولا نخدش شعور أحد،

ولو كان هذا الأحد هو نحن جميعاً؟ !

إن الظروف الاستثنائية تحتاج إلى أساليب استثنائية في الكلام والطرح

والعرض، والذي أراه أن الظروف التي تمر بها الأمة لا تحتمل المجاملة والمحاباة

والاستخفاء بالحقائق أو الاختباء وراءها.

أُلخص وجهة النظر التي أردت المصارحة بها والمطارحة في شأنها بدءاً من

العدد السابق من مجلة (البيان) وهي: أننا نحن الإسلاميين لم نَرْقَ بعدُ إلى

مستوى خطورة المرحلة التي تمر بها أمتنا، وأن انشغالنا برصد خيبات العلمانية

العربية وتخبطاتها في شأن قضية العرب والمسلمين الأولى (قضية بيت المقدس)

هذا الرصد قد أنسانا وألهانا عن تقصيرنا نحن في حقها، وإهمالنا في القيام بشأنها.

ماذا قدمنا عبر نصف قرن؟

قدمت الحركات الإسلامية منذ أن اغتُصب بيت المقدس آلافاً مؤلفة من

الشهداء والضحايا في العديد من الأحداث والقضايا، وتلك القضايا التي قدمت فيها

تلك التضحيات لا توجد قضية فيها وأكرر لا توجد قضية واحدة فيها تبلغ في

الأهمية والخطورة حد أهمية وخطورة قضية فلسطين، ولا يبلغ الطرف المعادي في

أيٍ منها في شدة عداوته ما يبلغه الطرف المعادي اليهودي في فلسطين، بل إن

كثيراً من تلك القضايا الأخرى قُدِّمت فيها التضحيات بلا ثمن، أو بخسارة فادحة في

معظم الأحيان!

إن من العجيب أن التيارات والجماعات والمنظمات الإسلامية كافة كانت ولا

تزال مجمعة على اعتبار قضية فلسطين (القضية المركزية) و (القضية المحورية)

و (قضية العرب والمسلمين الأولى) ، ولو رحت تفتش عما قُدم لهذه القضية

على المستوى الإسلامي الخاص، لوجدت خليطاً من التفريط والتخبيط عند الأكثرية

إلا من رحم الله، بدءاً من قلة فهم أبعاد القضية، ومروراً بكمِّ المشاركة فيها،

وانتهاء بحجم الانشغال بها. خمسون عاماً من الصراع أو يزيد، ولا تزال الشريحة

الأكبر من الإسلاميين لا تعي شيئاً ذا بال عن (القضية المركزية) ، مع أن العدو

المناوئ فيها عدو لم تتوافر نصوص الشرع كتاباً وسنة في التحذير من عدوٍ آخر

كتحذيرها منه، وتفصيلها عنه، وتعريفها به، ومع أن ما يكتب وما يذاع عن هذا

العدو في الأوساط العامة يحتل المرتبة الأولى في المعالجات الجادة منذ عقود طويلة،

ومع هذا.. ومع أننا نحن الإسلاميين أوْلى الناس بفهم ومتابعة أبعاد تلك القضية

وذاك الصراع؛ فإننا للآن ما زلنا نتجادل في أمور كان مفترضاً أن نكون قد انتهينا

منها منذ زمن، كذاك التساؤل المكرور عن المعركة القائمة مع اليهود: هل هي

إقليمية أو عالمية ... وهل هي دينية أم دنيوية؟ ! وهل دولة اليهود القائمة الآن

عقائدية أم علمانية؟ ! وهل هم بالفعل أقوياء أم أننا نحن الجبناء؟ ! وهل قوتهم

المزعومة حقيقية أم خرافية أسطورية؟ !

لقد كان واجباً علينا ولو من باب العلم بالشيء أن نكون على قدر معقول من

الاهتمام بهذا الصراع المصيري: ما هدفه.. ما صفته.. ما صبغته ما برامجه..

وما أبعاده.. ماذا تحقق من مراحله.. وما هي حدود ما فيه من حقائق أو أوهام..

ما هي مخاطره الماضية ومحاذيره المستقبلة.. ما تفسير رموزه الدينية والاعتقادية،

ما دورنا تجاه مواجهته دينياً وفهم طبيعته شرعياً، ووضع ضوابط تلك المواجهة

علمياً، ورصد الإمكانات لأجلها عبر الآجال والأجيال باعتبارها صراعاً وجودياً لا

حدودياً.

قليل من الإسلاميين من يعلم، والأقل منهم من يعمل بالمستوى الرافع للإثم

فضلاً عن الجالب للأجر فيما يتعلق بتلك القضية الكبرى، اتكالاً على أن لها من

يديرها، واتكاء على أن لنا ما يشغلنا عنها.

أستثني من ذلك بالطبع، أُسْدَ الإسلام داخل فلسطين الذين قاموا في انتفاضتهم

الأخيرة بشق طريق من الدم وسط النار، ليقيموا الحجة علينا وعلى كل من يكتفي

بالمشاركة (الوجدانية) فقط في معركة الوحدانية مع كفر اليهود وشرك النصارى

في الأرض المقدسة.

لكننا لا بد أن نعترف أننا سلمنا الأمانة لمن نعرف أنهم يعرفون أنهم ليسوا

أهلاً لحفظها، ولا بد أن نعترف أيضاً أننا نحن الإسلاميين كنا من أكوام الرمال إلى

جنبتي الطريق الممهد الذي مشى فوقه اليهود ليعبروا إلى بيت المقدس، وكنا جزءاً

من الفراغات التي تولوا ملأها، والحواشي التي تولوا شرحها! حيث إنهم لم يُقابَلوا

منذ بدأت دولتهم بدعوة جهاد إسلامية جادة شاملة على مستوى الأمة التي استهدفوها؛

بحيث تستطيع أن تفلَّ حدهم أو توقف مسيرتهم.

إننا وبعد أكثر من خمسين عاماً لا زلنا ندور حول أنفسنا ونتساءل: (ماذا

نعمل؟ !) مع أننا لم نفرغ بعد من مرحلة: (ماذا نعلم؟ !) ، فحتى من ناحية

التصورات العلمية لا نزال متأخرين عن القضية نصف قرن؛ فالآن والآن فقط بعد

سقوط ألوف الضحايا، وضياع ملايين المشردين على يد اليهود، نبحث عن

شرعية العمليات الاستشهادية ضدهم أو سر المواقف والتواطآت النصرانية معهم!

اليوم فقط نستفهم عن الخلفيات الدينية لأكبر القضايا السياسية التي تملأ أخبارها

الآذان والأعين والأفئدة عبر أكثر من خمسين عاماً، وعندما حدثت واقعة وضع

حجر الأساس لهيكل سليمان الثالث، تساءل الناس وأكثرنا معهم: ما معنى هيكل..

ولماذا نسب لسليمان..؟ ولماذا عدوه ثالثاً لا ثانياً ولا رابعاً..؟ !

هل لاحظت معي أننا نطرح هذه التساؤلات (البريئة الساذجة) بعد خمسين

عاماً من قيام دولة تتخذ من الهيكل شعاراً لها؟ ! هل لاحظت أن هذا الهيكل الذي

جئنا نحن نتساءل عنه الآن، هو الذي جاؤوا لتنفيذ الفصل الأخير من مؤامرته

المتواصلة منذ مئة عام؟ !

إنني لا أتحدث عن عوام الناس في البلدان المحيطة بدولة (هيكل سليمان)

ولكنني أتحدث عن الشريحة الكبيرة من المثقفين الذين أحاطوا القضية بأحاسيس

صادقة مجملة ولكنهم لم يبذلوا الجهد المطلوب لمعرفة أبعادها مع أنهم كانوا هم أوْلى

الناس بمعرفة الأعداء والتعريف بالأعداء حتى تستبين سبيل المجرمين كما أمر الله؛

فالهيكل الذي هو رمز دولة اليهود منذ قامت هو نفسه جوهر الصهيونية، وشعار

الماسونية، ومنتهى آمال المخططات السرية والبرامج العملية لليهود على مدى

العقود الماضية، ومع هذا ظللنا غافلين عن أمره، حتى فاجؤونا بأنهم

يريدون الانتهاء من (الحل النهائي) لمشكلته عسكرياً، بعد أن لم يفلحوا في الكامب

الثاني في حله سياسياً! كل هذا، ونحن أو أكثرنا لا نتابع، لا نراجع، لأننا

(مشغولون) ! !

فهل نحن مقصرون ... ؟ ! لا، لا أقول بهذا.. بل نحن مفرِّطون.

أثمان التفريط:

كما أن لكل فعل رد فعل مساوياً له في القوة ومضاداً له في الاتجاه؛ فإن لكل

تفريط جزاءً مساوياً في الدنيا ومضاعفاً يوم الحساب إلا لمن تاب الله عليه أو عفا

عنه؛ ولا يظلم ربك أحداً، وهو القائل سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ

الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ * وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ

مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (الأنفال:

١٥-١٦) . فمن ولى الأدبار، صَلِيَ النار إن لم يكن معذوراً.

ولقد فرط المسلمون في الماضي في حفظ الأرض المقدسة، فسقطت تلك

الأرض في أيدي الصليبيين، واحتُل المسجد الأقصى ورُفعت الصلبان على مآذنه،

وفرط المسلمون في زمان تلا ذلك في كيانهم السياسي الجامع (الخلافة) فسقطت

عاصمة تلك الخلافة (بغداد) في أيدي التتار الهمجيين الوثنيين، وفرط المسلمون

في حفظ الأندلس، فضاعت الأندلس! وفي المحافظة على الهند فضاعت الهند

ومثلها الفلبيين وغيرها وغيرها.

وفي عصرنا يتوالى التفريط، ولكل تفريط هزيمة، وبكل هزيمة عار.. عار

هزيمة تركيا (الباب العالي) ١٩١٤م، وعار إلغاء الخلافة فيها ١٩٢٤م، وعار

ضياع فلسطين ١٩٤٨م، وعار ضياع القدس ١٩٦٧م، وأنا على يقين أنه كان

وراء كل عار فرار وتولية أدبار، وقبل ذلك الفرار وتولية الأدبار لا بد أنه كان

هناك خذلان من الله؛ وإلا فما معنى تلك الهزائم المتوالية، مع أن الله تعالى تكفل

لنا بفرار الأعداء من أمامنا إذا واجهناهم مستقيمين على أمره مستحقين لنصره:

تأمل هذا الحكم القدري الإلهي: قال تعالى عن الكفار عموماً: [وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ

كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ

وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الفتح: ٢٢-٢٣) ، وقال سبحانه عن اليهود

خصوصاً: [لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ]

(آل عمران: ١١١) ولكنهم انتصروا ولا يزالون ينتصرون؛ فهل تخلفت السنن

الإلهية أم كنا نحن المتخلفين؟ !

حتى لا يلحقنا العار الأكبر:

المرحلة التي تمر بها أمتنا تشير كل أسهمها إلى أن اليهود ومن ورائهم

النصارى يريدون أن يُلحقوا بنا عاراً أكبر من كل ما مضى؛ إنه عار سقوط شعار

التوحيد الذي جاء به الأنبياء وفي أرض الأنبياء وهو المسجد الأقصى؛ نسأل الله

ألا يجعلنا محلاً لهذا العار؛ فخراب المسجد إن وقع ونتضرع إلى الله ألا يقع

بتفريطنا سيكون أكبر من عار سقوط بغداد على يد التتار، وأكبر من سقوط

الأندلس على يد الأسبان، وأكبر من سقوط القدس في يد الصليبيين، بل أكبر من

نكبة ١٩٤٨م، ونكسة ١٩٦٧م؛ أما لماذا؟ فلأن هذا إن حدث فسيكون تتويجاً

لانتصار أذل الأمم وأحقر الأمم على خير الأمم وأعز الأمم، يختمون به معركتهم

الدينية التي أداروها دينية من طرف واحد، ولأن ذلك سيعني أن نصيبنا من الذلة

في عصرنا قد فاق نصيب الأمة التي كتبت عليها الذلة، وإلا.. فكيف تتوالى

انتصاراتهم علينا بهذا الانتظام ونحن أمة خير الأنبياء التي ينيف عددها على ألف

وثلاثمائة من الملايين، وهم أمة قتلة وأعداء الأنبياء لا تزيد على بضعة عشر من

الملايين؟ !

أحذرك وأذكرك أخي الموحد وأحذر نفسي وأذكرها: أن العار الذي يتهددنا لا

يتهددنا بوصفنا أمة بمجموعها فقط، بل بآحادها ... وآحادها هم أنا وأنت، وهو

وهي، وهم وهن، وهذا وذاك؟ ! العار ليس شيئاً يستحيا منه في الدنيا فقط،

ولكنه إثمٌ إي وربي يُخشى علينا فيه من النار وغضب الجبار. ألم يقل علماؤنا

قديماً وحديثاً إن جهاد الأعداء بالأموال والأنفس وبكل المستطاع يأخذ حكم الواجب

المتعين على كل مسلم إذا دُهمت أرض من أراضي المسلمين؟ فكيف إذا كانت تلك

الأرض هي أرض الأنبياء والمرسلين؟ ! وكيف إذا كان مغتصبوها هم اليهود

الملعونين؟ !

صحوتنا تختبر:

نعم.. تختبر الآن بما يحدث في فلسطين.. إننا نتكلم منذ ما يزيد على ثلاثة

عقود من (الصحوة الإسلامية) التي أذهلت العالم، ولفتت انتباهه إلى أن هنا أمة

تبعث، ونهضة ستقوم، وعملاقاً على وشك الانطلاق ليحطم القيد ويكسر الأغلال،

وقد كان من المحتم بحسب سنن الله أن تختبر هذه المقالة عملياً؛ فالصحوة إفاقة في

الأمة تقود فيها الخاصةُ العامةَ إلى المرحلة الحتمية والطبيعية التالية لتلك الصحوة

وهي (النهضة) .

كان من المحتم أن تختبر مقالتنا نحن الإسلاميين بأننا نعيش صحوة كبرى في

أرجاء العالم الإسلامي وأنحاء العالم العربي، ولقد اختُبر إسلاميون كثيرون بأعداء

صرحاء ألِدَّاء في بلدان كثيرة من العالم.. وها نحن يجيء دورنا (نحن الإسلاميين

العرب) لنُختبر مثلهم. وهذا الاختبار ليس موكولاً إلى قوى عالمية معادية، ولا

نظم محلية عميلة، ولكنه اختبار الأقدار التي كانت تجري بها سنة الله في الذين

خلوا من قبل.

ولقد تواطأت نصوص الوحي على أن الإنسان يُبتلى ويُختبر، على مستوى

الفرد والجماعة والأمة، وحديث القرآن عن الاختبار في القرآن المكي يتناول في

الغالب أحوال الأفراد. أما في القرآن المدني فيتوجه إلى المجموع بعد أن تكونت

الأمة وقامت الدولة، ولقد اختُبرت تلك الأمة بعد تكوينها، واختُبرت بعد ذلك مرات

عديدة، وهي تختبر الآن ونحن في مقدمتها نختبر بما اختُبر به الجيل الأول الذي

كان أقل منا عدداً، وأضعف منا قوة، وأندر مالاً وثروة. بل وأصعب منا ظروفاً

وأكثر استضعافاً.

تأمل معي ملامح هذا الاختبار (الجماعي) الذي واجه مجتمع الأطهار

الأخيار ولَمَّا يشتد عوده، أو تنتشر في العالم دعوته أو تتعدد كياناته، أو تتضاعف

ثرواته أو يبلغ عدده ما يزيد على المليار! تأمل هذه الكلمات التي تنزلت عليهم ثم

توجهت لمن بعدهم، حتى وصلت إلينا.

أرجوك ألا تمر على هذه الآيات سريعاً ببصرك بل مررها وكررها على قلبك

وبصيرتك، ولاحظ معاني (الاختبار) في تكرار لفظ (يعلم) . يقول من يعلم

السر وأخفى سبحانه وتعالى:

[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ

نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ

لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] (آل عمران: ١٦٦-١٦٧) .

-[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ

اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] (التوبة: ١٦) .

-[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ]

(محمد: ٣١) .

-[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ

الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ]

(آل عمران: ١٤٢-١٤٣) .

-[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ

وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل

عمران: ١٤٠-١٤١) .

-[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن

تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلاَ إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا

أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] (النور:

٦٣-٦٤) .

-[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البَأْسَ

إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي

يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الخَيْرِ

أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً] (الأحزاب: ١٨-

١٩) .

-[وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ

أَعْمَالَكُمْ] (محمد: ٣٠) .

ماذا أعددنا للاختبار؟

بداية أقرر أنه ليس من الجائز أن نغمط أحداً حقه، أو ننتقص من عمله، أو

نتهم نواياه، ولكنا فقط نناقش مواقف عامة وأفكاراً مطروحة، وظواهر موجودة منذ

زمن، أو وجدت الآن، بعد أن بدأت سُحب الأزمة تخيم فوق رؤوس الجميع. لا

شك أن هناك من يعمل، وهناك من يبذل، وهناك من بدعائه وبكائه وصلاحه

وإصلاحه يستمطر الفرج ويستنصر على الأعداء، غير أن الدين النصيحة، والهمَّ

عام، والنازلةَ في اتساع، ولا يجوز هنا أن تترك الساحة نهباً للفوضى الفكرية بعد

أن اجتاحتها طويلاً الفوضى العملية والحركية.

هناك طروحات تتعدد وتزداد بين بعض الإسلاميين وهي مرشحة للتوسع

والازدياد، وهي تتعلق بسِمات المواقف المتخذة والمواقع المختارة حيال ما يحدث

في فلسطين، وأحاول هنا رصدها للتنبيه أو للتحذير أو حتى للتعريف؛ أما التحليل

والمناقشة والتقويم فله مجال آخر ومكان آخر. إنها ظواهر نظرية، ولكنها تتحول

إلى مواقف عملية، سلبية كانت أو إيجابية، والإيجابية هنا تعني التفاعل مع الفكرة

قبل استيفاء بحثها وتمحيصها وفق منهج علمي شرعي سديد، وفهم واقعي راشد.

إنها أفكار، والأفكار تحتاج دائماً إلى الاختبار قبل القبول والاعتبار.

أولاً: أفكار الانتظار:

هناك آراء ترُوج، وأفكار تموج تجعل الموقف الإسلامي الراهن قريباً من

الموقف الشيعي قبل الخمينية، والموقف اليهودي قبل الصهيونية! مع إثبات الفارق

في التشبيه والاعتذار عن التمثيل.

فالشيعة قبل الخميني كانوا يتدينون بالانتظار، ويعطلون فرص الانبعاث حتى

يُبعث (صاحب الزمان) ، وكان علماؤهم يجعلون من السعي نحو التمكين عملاً

منافياً لكمال اليقين في النصر القادم بقدوم المهدي، فجاء الخميني، وابتكر (ولاية

الفقيه) ليجعل فقيه الشيعة بمثابة النائب للإمام الغائب، يقوم بما ينبغي أن يقوم به

حتى يحضر ... ولا ضير بعد ذلك إذا تأخر خروج (الإمام الغائب) ما دام الركب

يتقدم!

وقبل الخميني بعشرات السنين، قاد (تيودور هرتزل) اليهود من تيه الترقب

المستمر منذ ألفي عام انتظاراً لخروج المسيح، إلى السير على طريق الانتصار

ملغياً فكر الانتظار، ووضع أسس (الصهيونية الحديثة) التي تناقض الفكر

الانتظاري، وبالفعل لم يمضِ على هلاكه بضعة عقود حتى أقيمت دولة اليهود التي

كانت مجرَّمة محرَّمة قبل ظهور المسيح عندهم!

في ديننا الحنيف ومنهجنا الصحيح لا مجال هناك لتعطيل شيء من واجبات

الشريعة بدعوى انتظار أحد ... صحيح أنَّا نؤمن بما أخبرت نصوص الشريعة

بحدوثه قَدَراً، ولكننا لا نبني عليه مواقفنا شرعاً؛ فمثلاً إذا كان مكتوباً للمسلمين

كوناً وقدراً أن ينتصروا على اليهود في النهاية، فليس معنى ذلك أن يعطلوا ما

أُمروا به من جهادهم ديناً وشرعاً حتى يجيء موعد هذه النهاية، وأيضاً إذا كان

مقدراً بحسب ما عندنا من نصوص صحيحة وصريحة أن تشهد الدنيا قيام دولة

خلافة عالمية راشدة في آخر الزمان، فلا يعني ذلك أن يبطل السعي الواجب لإقامة

الخلافة قبلها انتظاراً لمجيء أيام آخر الزمان.

هذه بدهيات لا أظنها تغيب عن فطنة الوعاة الدعاة، ولكن ما أكثر ما تتيه

البدهيات في خضم التفريعات والتفصيلات. ومما يدل على غياب بعض هذه

البدهيات وجود مثل هذه الطروحات التي يأتيك ذكرها:

* هناك نزعة (مهدوية) تتنامى هذه الآونة، زاعمة أن المهدي المبشر به

في الأحاديث، إن لم يكن بيننا الآن، فهو على الأقل وراء أقرب الأبواب، وأنه

سيتولى بنفسه جهاد (إسرائيل) وأعوانها، وسيأتي الخلاص على يديه قريباً،

وسوف نصلي خلفه في بيت المقدس عاجلاً غير آجل!

* هناك وجهة قريبة من تلك النزعة المهدوية، لكنها تتجه نحو

(السفيانية) [١] بمعنى انتظار انتصار السفياني على (إسرائيل) بعد غزوه لها

وحرقه لنصفها بجيش يخرج من الشرق أو بالتحديد من العراق، وهؤلاء ينتظرون

حدوث انتصار (السفياني) لا مجرد خروجه؛ لأن (القائد الركن) قد خرج بالفعل

منذ زمان! ! [٢] . إن هؤلاء يقولون: إن (أم المعارك) كانت أول الملاحم

الكبرى، ونحن بانتظار بقية العائلة بعد أن جاءت المعركة (الأم) !

* هناك من ينتظرون زماناً آخر، وهو زمان (الدجال) ، حيث يقولون: إن

القضاء على دولة اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال؛ حيث سيقودهم في إفسادهم

الأخير، فيسلَّط عليهم المسلمون، وينطق عندها الحجر والشجر، أما قبل ذلك

(فلا أمل) هكذا يقولون في الانتصار على اليهود!

* وهناك موجة بدأت مؤخراً من الانهماك في عالم الرؤى والمنامات، ودنيا

التأويلات والتفسيرات التي تتنافس في تحديد أقرب المواعيد ليوم دخول القدس،

دون أن تحدد كيف وبمن ومع من؟ ولكنها تتفق جميعاً على أن ذلك الانتصار

الساحق (المجاني) سيكون أقرب مما نتصور؛ فبين متمهلٍ مطَمْئِنٍ بأنه سيحدث

بعد بضع سنين، وبين متعجل مبشِّر بأنه سيكون بعد عام أو أقل من عام!

* وهناك موجة موجودة منذ عقود وأعوام تتجه للغوص في الأرقام، للخروج

بنتائج (حاسمة) و (محددة) و (أكيدة) عن موعد زوال إسرائيل، باستخدام

خاصية بعض الأرقام تارة، وبمقارنة أرقام السور والآيات القرآنية تارة،

وباستقصاء خاصية الزمان تارة، وبالرجوع إلى بعض أخبار الفتن في كتبنا تارة،

أو في أخبارها عند أهل الكتاب تارة أخرى.

إن تلك الطروحات الخمسة التي تغلب عليها روح التفاؤل والانتظار والتبشير

عليها الملاحظات الآتية:

١ - لا حرج في التبشير بأن المستقبل للإسلام؛ فالفأل الحسن محمود، ولكن

بشرط ألا يكون موقفنا من هذا المستقبل مجرد انتظار استقباله؛ فنحن أمة تؤمن

بالغيب ولكنها لا تقبع وراء ذلك الغيب مستشرفة حدوثه وهي في عالم الشهادة

والتكليف؛ فالخشية كل الخشية من هذه الموجة (التبشيرية) أن تتحول إلى

جرعات تخديرية.

٢ - الأفكار المهدوية تنشئ أجواء تسمح بالادعاءات المهدوية، وقد كفى أمتنا

ما عانت من أدعياء المهدوية عبر العصور والقرون، وآخرها ما كان في بداية

القرن الهجري الحالي الذي عشناه وخبرناه، وما تكرر قبلها وبعدها من انتحالات

المحتالين وادعاءات المدعين لأنفسهم أو لغيرهم. إنه يكفينا من المهدي بعد

التصديق بما صح عنه أن نعمل بما سيخرج من أجله؛ وهو نصرة الدين، حتى إذا

ما خرج المهدي وجدنا مهديين عاملين، لا منتظرين خاملين.

٣ - الأفكار السفيانية تصادم بتحديداتها وتعييناتها الشخصية والزمانية مفاهيم

مهمة في الولاء والبراء وقواعد الإيمان بالغيب؛ فهي تفترض أن (جابر الأمة)

و (كاشف الغمة) سيكون بعثياً أو علمانياً، وأنه رغم علمانيته أو بعثيته سينال

(الشرف) الذي عجزت عنه، أو عوقبت بحرمانه جموع المسلمين الملتزمين

بالدين، وأنه سيتولى، تحت رايات البعث أو غيره من الرايات غير الإسلامية،

تحرير بيت المقدس! ولهذا فإن تلك الأفكار تحبذ إن لم تكن توجب على المسلمين

جميعاً أن ينضووا تحت هذا اللواء الفاسد والراية العِمِّية ريثما تتحول إلى راية

إسلامية!

٤ - القول بأن القضاء على دولة اليهود سيجيء مع مجيء زمان المسيح

مسيح الضلالة أو مسيح الهداية يبنيه أصحابه على فرضية أن جيل المسلمين

المعاصرين للمسيح هم فقط المطالبون غداً بدفع (فواتير) ما نجتنيه نحن اليوم،

وهم من حيث يدرون أو لا يدرون، قد جلبوا على طائفة الحق السنية مواقف

(انتظارية) قدرية، لا واقعية ولا شرعية، وقد تتخذ في بعض صورها قوالب

بدعية.

٥ - الرؤى والأحلام لها إطار ينبغي ألا تتعداه، وهي سلوى للعاملين

المجتهدين، لا طمأنة للخاملين القاعدين؛ فالذي يتصور أنه سيكون غداً أو بعد غد

في الصفوف الأولى ضمن من قال الله عنهم: [وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ

مَرَّةٍ] (الإسراء: ٧) ، الذي يتصور ذلك في منام أو أحلام، وهو لا يعد نفسه

وغيره لذلك اليوم من اليوم، هو حالم في أحسن الأحوال، وظالم في أسوئها [وَلَوْ

أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ

القَاعِدِينَ] (التوبة: ٤٦) ؛ إذ كيف يترك للمجاهدين اليوم في فلسطين مراكب

الهم والهدم والدم، ويدخر لنفسه غداً مواكب النصر والفخر والعز؟ ! ومع ذلك؛

ليحلم من شاء بما يشاء، ولنؤوِّله له بما نشاء أو يشاء إذا كنا معذرين إلى الله

قائمين في اليقظة بما أمر الله.

٦ - أما الحسابات والإحصاءات والمعادلات، فالذي أخشاه أن نظل مشغولين

بموعد نهاية اليهود حتى تأتي نهاية أعمارنا منصرفين أو مصروفين إلى ضرب

أخماسنا في أسداسهم، وطرح حقنا من باطلهم، وجمع قرآننا مع توراتهم في صعيد

التصديق والتأييد!

لقد حُددت سنون وأعوام ... ولكن، لا والله ما كلفنا الله بتحديد خطط الأقدار

الكونية، بل كلفنا بتحديد خطط المواجهة الشرعية لكيد الكفار والفجار!

إن بين يديَّ الآن ما لا يقل عن عشرة من الكتب والأبحاث المطبوعة والمنشورة

بخلاف ما لا يزال تحت الطبع أو تحت التأليف كلها تحدد أزمنة مختلفة لـ (زوال

إسرائيل) ، ولست في معرض الحديث عن تقييمها أو الحكم عليها؛ فبعضها هزيل

منهار، وبعضها جدير بالنظر للاعتبار لا للانتظار.

وفي كل الأحوال فنحن في حاجة إلى موازنة بين مقتضيات التصديق بأمور

الغيب، واعتبارات التطبيق في عالم الشهادة، ولا أظن أننا أكثر إيماناً وتصديقاً

بالغيب من الصحابة الذين لم تحجزهم نبوءات الفتوح الغيبية في دوائر الانتظار،

بل تعاملوا مع تنفيذ الشرائع (افعل ولا تفعل) قبل تفنيد الأخبار (صدق أو لا

تصدق) .

ثانياً: أفكار اليأس من الانتصار:

إذا كان التفاؤل والتبشير بلا عمل يلام، فإن التشاؤم واليأس ولو مع شيء من

العمل مدان، وفي ساحة الإسلاميين اليوم أفكار تشاؤمية جرها علينا شؤم التحرر

من الضوابط الشرعية، والبعد عن التأصيلات العلمية، وإذا كانت هذه الظاهرة

موجودة من أزمنة سابقة وفي أمكنة متعددة، فإنها اليوم تتفاعل بشكل يبعث على

القلق، وبخاصة مع تزايد حدة التحدي المزمن مع اليهود.

وإذا كانت الأفكار السابقة تصبغها صفة غيبية اعتقادية، فإن الأفكار التي

أوردها الآن تكتسي مسحة فقهية علمية، وهذه أمثلة من تلك المواقف:

* هناك من (يبشر) بأنه لا فائدة من دعم العمل الجهادي في فلسطين؛ لأن

ثمرة ذلك الجهاد مصيرها إلى الاختطاف بعد القطاف، والشريعة لم تأمر بإضاعة

المال أو بإلقاء النفس إلى التهلكة. ومن ثم فإن إضاعة الوقت والجهد مع قضية

(خاسرة) فيه إضافة خسارة جديدة إلى العمل الإسلامي الذي لم يعد يتحمل خسائر

أخرى! !

* وهناك من يشكك أصلاً في وجود هذا العمل الجهادي المرشح للاختطاف

على أساس أن الراية الآن ليست إسلامية خالصة، وما دام الأمر كذلك، (فلا

يجوز) القتال تحت راية عِمِّية! فلنبق مكاننا حتى ترتفع للجهاد راية حقيقية

شرعية. ويأخذ بعض هؤلاء على عوام الفلسطينيين وجماهيرهم أنهم (حليقون)

و (مسبلون) وقد يكونون (مدخنين) أو عصاة فاسقين [٣] !

* وهناك من يقول: ما لكم ولأمور السياسة؟ اتركوا أمرها للساسة،

وفوِّضوا الأمور لولاة الأمور من الرؤساء والزعماء في فلسطين وما حولها؛ فهم

أجدر بأن يخرجوا الأمة من الأزمة ويسيروا بها إلى بر الأمان! وإلى أن يأتي هذا

الأوان (فلا يحل) لأحد أن يتكلم.. أن يتبرم ... أن يتعلم أو يعلِّم شيئاً يؤدي إلى

(الخروج) على الإجماع العربي المنعقد على أسس متينة من (الشرعية) الدستورية

الجاهلية!

* هناك من يفلسف القعود عن نصرة المستنصرين المستضعفين بأن الله أمرنا

بالعدو الأقرب فالأقرب، فعلى (المجاهدين) في الجزائر مثلاً أن يظلوا مشغولين

بما هم فيه، ولا يشتتوا جهودهم أو جزءاً من جهودهم في معارك (فرعية) مع

اليهود أو غيرهم، وإذا كان الإسلاميون في بلدان أخرى قد أفرغوا الطاقات في

ساحات خاسرة، فهذا حسبهم، ولنترك مواجهة اليهود للأجيال القادمة! !

* وهناك من يعزِّي نفسه بأن الراية الجهادية في فلسطين هي راية (حزبية)

ولو كانت إسلامية، ولأن هذا (الحزب) غير موضوع في قائمة المصالحة أو

الحوار، حالياً ولا مستقبلاً، لشدة الخصومة، أو لعدم الثقة، أو لمواقف نفسية أو

شخصية؛ فإن الانحراف إلى تأييد هذا العمل (الحزبي) هو انحراف عن

«المنهج الصحيح» واعتراف بـ «المنهج المنحرف» وصواب خطه

وسداد سياسته، وهذا «الاعتراف» هو ما لن يكون أبداً، ولو كانت الضحية

فلسطين، أو ما تبقى من فلسطين بشعبها وأرضها ومقدساتها!

إن هذه الطروحات الخمسة أيضاً وغيرها تساهم في تفريغ طاقات شريحة

أخرى من الإسلاميين، وصرف هممهم عن الوقوف مع إخوانهم في محنتهم ومحنة

الأمة كلها معهم.

وعلى كل حال، فإن هذه الأفكار التيئيسية التعجيزية التي تشيع روح الوهن

والاستسلام لا يستحق أكثرها رداً علمياً بقدر ما تحتاج تذكيراً وعظياً؛ لأن الغالب

أن وراء طرحها والله أعلم مشاكل قلبية، لا مسائل خلافية.

قد تسأل أخي القارئ: وهل صحيح أن كل الإسلاميين على هذه المواقف

السلبية؟ وهل تمثل هذه الأفكار الشريحة العظمى من الإسلاميين؟ ! والجواب:

هي في الحقيقة لا تمثل الشريحة الكبرى، ولكن الشريحة الكبرى هي شريحة من

ليست لديهم أفكار أصلاً، لا سلبية ولا إيجابية، وهؤلاء يظنون فقط أن مجرد

متابعة الأخبار على الشاشات والإذاعات مع الحوقلة والاسترجاع يعفيهم من الإثم

عند الله، أو أن مجرد ترديدهم لكلمة (آمين) في القنوت في رمضان سيفتح القدس

بإذن الله! [٤] .

أعرف أنني قد فتحت ملفات كثيرة، وأثرت قضايا عديدة قد لا يصلح لمثلي

أن يثيرها أو يتحدث فيها، مع وجود أهل العلم والفضل من ذوي الحكمة

والاختصاص في أنحاء عالمنا الإسلامي، ولكن حسبي أن يكون فتح هذا الملف

نذيراً لنفسي ولمن يطلع عليه من الإسلاميين الصادقين، من الوقوع في هاوية

الانصراف عن الواجبات، أو الانجراف مع التوهمات والتخيلات والتوسمات، في

زمان نحن فيه أسرى واقع مرير مشاهد ومعاش، وفتنة تتطلب لدرئها جهد كل

عامل وداع ومذكِّر ومجاهد. إن فتح هذا الملف مجرد تحذير من المزيد من التخدير

وسط أمة ذات طاقات هائلة ولكنها معطلة.

إن قبساً صغيراً من الجهاد الإسلامي المفروض قد بدأ في اللمعان في ليل

فلسطين الطويل، وهو يحتاج إلى جهود تحوله من قبس صغير إلى شهاب جبار،

والهاجس الأكبر؛ أن يُضيِّع الإسلاميون فرصة استمرار اشتعال هذا القبس فضلاً

عن اتساعه، بتركهم القيام بحق النصرة الواجبة والدعم المفروض، إن الجهاد

القائم الآن، هو نبتة أمل إسلامية في صحراء اليأس العربية، وواجبنا أن نتعهدها

بالسقيا والري حتى يشتد عودها وتورف ظلالها، إنهم يقومون بواجبهم فلنقم بواجبنا.

قارئي العزيز: أراك تبادرني على عجل بالسؤال المنتظر: (وما العمل؟)

وأعاجلك بالجواب: أنت أعرف قبل كل الناس بحدود ما تستطيع أن تعمل، فأكثر

ميادين العمل مفتوحة ومشروعة، وما لم يفتح الآن فسوف يفتح عما قريب بإذن الله،

بحكم الواقع والتاريخ والسنن. فقط ... أرجو منك في وقت مناسب أن تجلس مع

نفسك في اجتماع مغلق مع عقل مفتوح وضمير حاضر لمدة عشر دقائق فقط عشر

دقائق وسل نفسك أمام ربك: هل أديتُ ما عليَّ؟ هل لديَّ جواب إذا استُجْوِبت يوم

الحساب؟ هل أنا بالفعل (عاجز) عن كل شيء ولا أستطيع فعل أي شيء؟ أم

أنني أستطيع أن أفعل كذا وكذا..؟ أنا على يقين أخي الصادق أن مثل هذا الحوار

المتجرد مع نفسك سيولد عندك فكرة أو فكرتين.. أو ثلاثاً أو خمساً، وهذه الخمس

يمكن أن تتحول إلى عشر لو شاورتَ بعد ذلك صديقاً صدوقاً، وهذه العشر يمكن

أن تتضاعف إلى مئة لو قضيت وقتاً أكبر في دائرة أوسع وشريحة أكثر جدية في

تحمل المسؤولية.

لا تظن أنني أتهرب من سؤالك الآنف: (ما العمل؟) فأعدك بأن أعرض

عليك بضاعتي المزجاة في لقاء قريب بإذن الله، وإلى أن يأتي أوان ذلك أطلب منك

طلباً محدداً:

تصور ... تمثل.. تخيل؛ تخيل بكل الجدية والتحقق أن هذه الأم الثكلى التي

تراها في عشرات الوجوه المختلفة هي أمك تبكي يوم فقدت أحد إخوانك ... أو أن

تلك البرعمة الصغيرة الناعمة ... المثقوبة الجسد، المحروقة الأطراف هي ابنتك

الساكنة في قلبك ... أو أن ذلك الصغير التائه الأفكار الزائغ العينين، المتعفر

الثياب باحثاً عن أبيه، هو ولدك المفدى بما تملك.. تخيل أن تلك الفتاة المنزوعة

الحجاب والأخرى المدفوعة بين الذئاب والكلاب هي أختك التي تحبها وتخاف عليها

وتحمي حماها، تصور أن تلك العجوز المرتعشة الأصابع، الضعيفة البصر،

الرافعة كفيها إلى السماء بالدعاء، بعد هدم بيتها وغياب عائلها هي جدتك أو خالتك

أو عمتك! تمثل تلك المرأة المملوءة البطن ... أو المشغولة الصدر التي يردها

أولئك النتنى من شارع إلى شارع، ومن حاجز إلى حاجز! بلى! هي زوجتك..

هي حرمك المستباح! ماذا كنت ستفعل لو أن هؤلاء هم أهلك..؟ ! ماذا كنت

ستفعل؟ هل كان مثلك سيأتي ليسأل مثلي: ماذا أفعل؟ ! أخي: إنهم أهلك!

ماذا كنت ستفعل لو كانوا أهلك؟ أوَ ليسوا أهلك؟ بلى إنهم أهلك وإخوتك

بوشيجة عُقِدت في السماء [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: ١٠) .

نعم إنهم أهلونا! ولو خذلناهم لنُخْذَلَنَّ، ولئن أسلمناهم لَنَنْدََمَنَّ، ولئن بخلنا

عليهم لنفتقرنَّ ونُحرَمنَّ.

نعود إلى سؤال الساعة: (ما العمل؟) سؤال كبير، وهمٌّ شاخص،

ومسؤولية عظيمة؛ أسأل الله أن يفتح فيه ويعين على معالجته.

فإلى بقية في عدد قادم بإذن الله.


(١) السفياني هو رجل وردت بشأنه آثار وأحاديث تفيد بأنه سوف يخرج قبل مجيء المهدي ويمهد لمجيئه ثم يعاديه، ومجموع هذه الأحاديث كما ذكر الشيخ حمود التويجري لم يصح منها شيء يعتمد عليه (انظر: إتحاف الجماعة (١/٤٩) ، وانظر تحقيق كتاب: (السنن الواردة في الفتن وغوائلها والساعة وأشراطها) (٥/١٠٢٧) ، تأليف أبي عمرو الداني، تحقيق الدكتور رضاء الدين محمد بن إدريس المباركفوري.
(٢) جزم بعض الكتاب الإسلاميين أنه (صدام حسين) وخالفه آخر فقال: بل هو الملك حسين، فلما مات الملك حسين ظهر رأي ثالث في كتاب ثالث يجزم بأن السفياني هو ابن الملك حسين! ! .
(٣) يتناسى هؤلاء أن عوام الأفغان كانوا أسوأ حالاً وقت قيام الحرب مع الروس، ومع ذلك كان أهل العلم والفتوى يختلفون فقط في حكم الجهاد معهم: هل هو فرض عين أم فرض كفاية؟ ! وكذلك كانت شعوب البوسنة وكوسوفا والفلبين وغيرها على أحوال مشابهة، ولم يدفع ذلك أهل العلم عن الإحجام عن الفتوى بشرعية جهادهم ومشروعية الوقوف معهم.
(٤) بمناسبة القنوت: فإن فهمي القاصر وإدراكي المحدود لم يستوعب السر في أن النازلة الأفغانية والبوسنية والكوسوفية على بعدها منا كانت أوْلى بقنوت المسلمين في مساجدهم من النازلة الفلسطينية على قربها وجسامة خطرها! ! .