للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستراتيجية الأمريكية ـ الصهيونية في تفتيت حماس]

محمد مصطفى علوش

النجاح الذي حققته السياسة الأمريكية والصهيونية في تدجين (منظمة التحرير الفلسطينية) قد أصبح استراتيجية لهما في التعامل مع باقي الفصائل والحركات الفلسطينية بشكل عام. وها هما يحاولان تطبيق تلك السياسة مع حركة حماس إلاّ أنها لم تنجح حتى الآن.

وإذا ألقينا نظرة على الوضع الفلسطيني قبل أوسلو ومدريد في بداية التسعينيات من القرن الماضي، نجد أن لاءات (منظمة التحرير الفلسطينية) كانت: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعدم الاعتراف بالمحتلّ كدولة، واعتماد الكفاح المسلَّح السبيل الوحيد لتحرير كامل التراب الفلسطيني.

ثم جاء احتلال العراق للكويت ووقوف (ياسر عرفات) آنذاك إلى جانب (صدام حسين) الذي وجّه عدداً من صواريخ (سكود) الروسية الصنع إلى الدولة العبرية، إلاّ أن هزيمة العراق أمام قوات التحالف آنذاك ومحاصرة عرفات ومنظمته مالياً من قِبَل دول الخليج الذي وقف ضدها، إضافة إلى رغبة الولايات المتحدة بالتقريب بين العرب والصهاينة أدَّى بعرفات إلى قبول التفاوض مع الصهاينة، وكانت سلسلة اللقاءات التي بدأت منذ مدريد مروراً بأوسلو والتي لم تنتهِ حتى الآن.

وماذا كانت النتيجة؟

١ ـ الاعتراف بالدولة العبرية باعتبارها دولة!

٢ ـ نبذ الكفاح المسلَّح وسيلة لإعادة الحق المسلوب.

٣ ـ انشقاقات داخل منظمة التحرير، سلبتْها حصرية (المرجعية الوحيدة للحق الفلسطيني) أو الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.

٤ ـ غرق في مفاوضات لا تنتهي، كلما تغيرت حكومة العدو الصهيوني عادت المفاوضات إلى الصفر من جديد.

٥ ـ صراع داخلي بين التيارات والحركات الممثلة للشعب الفلسطيني.

٦ ـ إنشاء قوى أمن فلسطينية دورها شرطي صهيوني ينظم المرور ويراقب المتطرفين ويعتقل المقاومين للعدو داخل السلطة الفلسطينية.

وبالمقابل لم يجنِ (عرفات) سوى وَهْم دولة فلسطينية مخنوقة محاصرة، ليس لها مقوّمات دولة حقيقية حتى تعيش وتحيا، حيث إن الدولة التي أعطيت لعرفات دُرست بعناية من قِبَل الصهاينة بحيث لا يمكن أن تستمر طويلاً، وأن تبقى عبارة عن مستوطنة صهيونية منبوذة وفي طريقها إلى الزوال، بل إن الدولة العبرية كانت تريد من (عرفات) كل شيء في مقابل لا شيء، ولم تسمح له ولا لغيره بمناقشة القضايا الأساسية والمصيرية، مثل: قضايا اللاجئين والقدس والاستيطان الذي لم يتوقف يوماً. ولما أراد أن يرفع الصوت قليلاً كانت النتيجة أن قامت بسمِّه كما أشار طبيبه الخاص.

٣ الصهاينة وحماس والانتخابات:

نجاح الولايات المتحدة والصهاينة في تدجين (منظمة التحرير الفلسطينية) واستيعابها دفع بهما إلى اعتماد الاستراتيجية نفسها مع حركة حماس، مع بعض التعديلات، وبما أن جميع المؤشرات كانت تؤكد قدرة حماس على سحب البساط من تحت منظمة (فتح) لتصبح الحركة الأكثر شعبية ونفوذاً على الساحة السياسية الفلسطينية، وذلك بالتزامن مع تزايد نفوذ الإسلاميين في مصر، الأمر الذي سيؤثر فيما بعد على طبيعة التوازنات الإقليمية في المنطقة في حال وصل الإسلاميون إلى الحكم في لبنان ومصر والمغرب، وربما يقيمون حلفاً استراتيجياً ممتداً إلى خارج المنطقة العربية ليتصل بتركيا وإيران؛ فكان البديل حثّ حماس في فلسطين والإخوان في مصر للمشاركة بفاعلية في الانتخابات النيابية في كلا البلدين.

وكانت تقضي الاستراتيجية الأمريكية - الصهيونية أنه في حال لم تفز حماس بالأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني فإنها لن تغير شيئاً من مسار الوضع القائم، ومن ثم فإن اللاءات التي كانت ترفعها في أيِّ حشد شعبي لها سيتلاشى، وسينقلب عليها مؤيدوها. وأما في حال حصدها للأكثرية النيابية التي تمكّنها من تشكيل الحكومة الفلسطينية فإن الاستراتيجية تقضي بتوريطها في الحكم، وعرقلتها داخلياً بعدم مشاركة (فتح) لها، وخارجياً بتجفيف التمويل المالي عن السلطة الفلسطينية، وبهذه الطريقة تتراجع شعبية حماس بعد أن تثبت ضعفها أمام الشعب الفلسطيني، فتُحلّ الحكومة ويُدعى إلى انتخابات برلمانية مبكرة، أو تستنجد بـ (فتح) لمشاركتها في السلطة مقابل التنازل عن كثير من الأمور التي تنازل عنها بالأمس (ياسر عرفات) ؛ من ضمنها: الاعتراف بالدولة العبرية.

وسار المخطط وفق هذه الاستراتيجية، فما إن حصلت حماس على الأكثرية، حتى حاولت (فتح) عرقلتها حين رفضت مشاركتها في تشكيل الحكومة، وتركت لها الجَمل بما حمل من حيث الظاهر، في الوقت الذي جمَّدت (اللجنة الرباعية) ـ التي يديرها حقيقةً الطرف الأمريكي دون غيره ـ مساعداتها المباشرة لحكومة السلطة الفلسطينية بقيادة (حماس) ، مشترطة لاستئنافها ثلاثة شروط، هي: الاعتراف بالدولة العبرية، وترك الكفاح المسلَّح، والالتزام بتنفيذ الاتفاقات الصهيونية ـ الفلسطينية المبرمة. ولتسريع القضاء على حماس أو ابتزازها سحبت الدولة العبرية تحويلات العوائد الضريبية التي جمعتها سلطات الجمارك الصهيونية وهيئات التأمين الوطنية لتصبح حماس مخنوقة من الداخل والخارج.

٣ الحرب الأهلية وسيلة ضغط ليس إلا!

لكن الذي حدث هو استيعاب حماس للصدمة وفهمها المسبق للخطة، وقد حاولت فكَّ الحصار من خلال التمويل الذاتي أو من دول مثل: إيران، إلاّ أنها لم تنجح في فكِّ الحصار ولم تستسلم أيضاً كما كان مخطط له، حتى بدأت التظاهرات الشعبية تتزايد، ما أدّى إلى صراع مسلَّح علني بين حماس وفتح، الأمر الذي برّر من حيث الظاهر دعوة عباس ـ حين علم أن حماس لن تستقيل ولن تسلِّم لهم الحكم ـ إلى إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة.

ومن المريب أن الصراع المسلَّح جاء عقب زيارة (رايس) للمنطقة وعقب مؤتمر (دافوس) الذي شهد لقاءات فلسطينية صهيونية أمريكية وراء الكواليس بين (محمود عباس) و (شيمون بيريز) ومسؤولين أمريكيين، وتردد أنه بحث أساليب دعم (الرئاسة) الفلسطينية على حساب الحكومة، سواء في صورة تسليم ١٠٠ مليون دولار من الدولة العبرية للرئيس (عباس) أو في صورة تقديم الرئيس (جورج بوش) دعماً محدداً للرئاسة الفلسطينية.

وكانت صحيفة (معاريف) كشفت في ٦ فبراير ٢٠٠٧م عن ثلاث خطط وضعها الجيش الصهيوني لإشعال فتيل الاقتتال الداخلي، وهي:

١- الخطة الأولى: تنفيذ مذبحة كبرى بين الأطراف الفلسطينية المتنازعة على غرار مذبحة (صبرا وشاتيلا) يستطيع الاحتلال التدخل عسكرياً فيما يجري في مناطق السلطة الفلسطينية.

٢- الخطة الثانية: تتضمَّن دعوة للدولة العبرية من حركة فتح للتدخل فيما يجري.

٣- الخطة الثالثة: اندفاع آلاف أو عشرات الآلاف من الفلسطينيين نحو الحدود مع قطاع غزة هرباً إلى الضفة، في حالة نشوب معارك شديدة وحدوث قتل كثير وكارثة إنسانية كنتيجة لتفاقم الوضع في الشوارع مما سيدفع جيش الاحتلال إلى التدخل.

٣ حماس تتفوق بالنقاط:

لم تخضع حماس للضغوط رغم أن الحرب الأهلية كانت تلوح بالأفق، الأمر الذي دفع فتح وبمساعدة سعودية للتفاوض مع حماس في مكة. وعلى الرغم من محاولة الدولة العبرية عرقلة اتفاق مكة من خلال إعادة العمل بالحفريات حول المسجد الأقصى إلا أن الاتفاق قد تمَّ، وعند التوقف أمام هذا الاتفاق نجد أنه حقق لحماس نصراً دبلوماسياً وسياسياً من خلال النقاط التالية:

١ ـ حقن دماء الفلسطينيين، وقضى على حالة الفلتان الأمني.

٢ ـ أعاد البوصلة الفلسطينية إلى اتجاهها الصحيح في مقاومة المحتل.

٣ ـ تفويت الفرصة على الصهيوني والأمريكي في تقسيم الفلسطينيين إلى معتدل ومتطرف.

٤ ـ كسب حماس للشرعية الدولية بعد كسبها للشرعية الشعبية في الانتخابات.

٥ ـ الحدّ من التدخلات الخارجية في الوضع الفلسطيني.

٦ ـ هذه الحكومة ستتمكن من رفع الحصار الاقتصادي المفروض على الشعب الفلسطيني.

٧ ـ الحدّ من مسلسل التنازلات السياسية المجانية لصالح إسرائيل.

٨ ـ تدشين شراكة جديدة بين فتح وحماس قد تكون بداية لأي عمل مستقبلي في إطار الحفاظ على الحق الفلسطيني.

في المقابل؛ فإن اتفاق مكة وبحسب ما أوضح مسؤولو الحركتين ليس فيه ما يمكن تفسيره باعتباره يتناول أول شرطين من شروط اللجنة الرباعية: الاعتراف بالدولة العبرية وترك الكفاح المسلَّح. وإن أبدت حماس احترامها لقرارات الرباعية إلا أن ذلك لا يعني التزامها بها فهناك اختلاف كبير بين (احترام) قرارٍ ما و (الموافقة على الالتزام به) . وهذا ما أكّده المحرر السياسي في صحيفة (معاريف) بقوله: (لا يوجد في وثيقة الإجماع الوطني ولا اتفاق مكة المكرمة ولا كتاب تشكيل الحكومة ـ كما اتفق عليه ـ أيُّ اعتراف ضمني أو صريح بالدولة العبرية) .

٣ لهذا يواجهون حكومة الوحدة:

لقد أدرك الصهاينة والأمريكيون أن ما حققته حماس من اتفاق مكة كان في الحقيقة نصراً على استراتيجيتهم القاضية إلى تفكيك حماس وعزلها، ومن ثم نصراً على التيار الانقلابي داخل فتح، بل وصل بهم الأمر إلى الحد الذي أقلق وزير الشؤون الاستراتيجية في الدولة العبرية (أفيجدور ليبرمان) في مقابلة مع مجلة (در شبيجل) الألمانية من أن تؤدي حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عن اتفاق مكة (إلى منح حماس الشرعية الدولية التي افتقدتها حتى الآن، دون أن تعترف بـ «الدولة العبرية» أو تضع حداً لاستراتيجيتها «الإرهابية» ضدنا) .

هذا القلق الصهيوني هو الذي دفع (رايس) إلى زيارة المنطقة في محاولة لعرقلة قيام حكومة الوحدة، حين شككت ـ وبعد لقائها كلاً من أولمرت وعباس منفردين ـ بالتزام الحكومة المزمع تشكيلها بشروط اللجنة الرباعية، أو تخلِّي حماس عن سعيها لتدمير الدولة العبرية، قائلة: (لا يمكن أن تضع قدماً داخل هيئات منتخبة وأخرى في العنف عندما تحاول تدمير دولة أخرى) .

بل إن رئيس الوزراء الصهيوني (إيهود أولمرت) أكد أنه اتفق مع الرئيس الأمريكي (جورج بوش) على مقاطعة الحكومة الفلسطينية الجديدة؛ إذا لم تستجب لشروط اللجنة الرباعية الدولية القاضية باعتراف الفلسطينيين بحق الدولة العبرية في الوجود، وإنهاء المقاومة، والاعتراف بالاتفاقيات الحالية بينها وبين الفلسطينيين.

لقد بدا واضحاًَ أن الدولة العبرية لا تريد البحث في القضايا الأساسية المفضية إلى الحل الدائم للقضية الفلسطينية، وتتذرّع بضرورة التزام الفلسطينيين بقرارات اللجنة الرباعية في وقت لا تحترم فيه كياناً فلسطينياً بحدود الـ (٦٧) ، ولا تلتزم بالقرارات الدولية المرتبطة بالمصلحة الفلسطينية.

ثم ماذا قدمت الولايات المتحدة الأمريكية للقضية الفلسطينية من دعم وهي تشترط مسبقاً على حماس قبولَ ما تعجز حماس عن القبول به أصلاً، في الوقت الذي قدمت فيه للدولة العبرية ١٠٠ مليار دولار على مدى ثلاثين سنة.

أليس ما صرَّحت به (رايس) من إمكانية تراجع واشنطن عن تقديم ٨٦ مليون دولار المخصصة للمساعدة في تدريب قوات الأمن التابعة للرئاسة الفلسطينية وتجهيزها؛ إذا لم تلتزم الحكومة الجديدة بمبادئ الرباعية؛ هو من باب وضع العصي في الدواليب حتى لا ينجح أصلاً اتفاق مكة؛ لأن خطره على الدولة العبرية كبير حيث يدشن لِلُحْمة فلسطينية جامعة في مواجهة المحتل؟! وإلا كيف نفسر هذه العرقلة من جانب الولايات المتحدة والدولة العبرية وكلاهما يعلم يقيناً أن الذي يقود المفاوضات من الجانب الفلسطيني هو محمود عباس وفريقه؟!


(*) كاتب ومحلل سياسي.