للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإسلاميون كيف ينظرون إلي المستقبل؟]

إعداد: أحمد فهمي

لا نبالغ إذا قلنا إن ملايين الإسلاميين العاملين للإسلام في شتى أنحاء الأرض لا يشغلهم شيء الآن بقدر ما يشغلهم مستقبل العمل الإسلامي في ظل أوضاع متوترة وظروف متغيرة، وفي ظل عجز تام عن التنبؤ بالأحداث القادمة حتى في مدة قصيرة، وحتى الولايات المتحدة التي تملك أعرق وأضخم مراكز الدراسات المستقبلية أصبحت سمعتها هذه من الماضي، ولكن بالنسبة للإسلاميين الأمر يختلف نوعاً ما، فلديهم معطيات ومعايير ربانية لا يملكها غيرهم يمكنهم بواسطتها توقع الأحداث بصورة أكثر دقة من غيرهم.

وسعياً لتلبية هذه الرغبة العارمة لدى الإسلاميين نقدم هذا التحقيق الذي يتضمن عرضاً لرؤية مستقبلية لنخبة من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي، وهذه الرؤية هي إجابة على ستة تساؤلات طُرحت على المشاركين في التحقيق تتناول بعض القضايا الهامة في العمل الإسلامي، وقد كانت المشاركات متميزة طرح فيها الضيوف أفكاراً جديدة وتصورات تثبت مواكبة كثير من الإسلاميين للظرف ومعايشتهم وإدراكهم لمشكلات العمل الإسلامي.

وهذه هي أسماء المشاركين:

- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني: المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا.

- الأستاذ قاضي حسين أحمد: أمير الجماعة الإسلامية في باكستان.

- الشيخ أبو زيد حمزة: نائب رئيس جماعة أنصار السنة، السودان.

- الشيخ حامد البيتاوي: رئيس رابطة علماء فلسطين وخطيب المسجد الأقصى.

- الدكتور منير محمد الغضبان: مفكر إسلامي سوري.

- الدكتور محمد أبو رُحَيِّم: كلية الشريعة، الأردن.

- الأستاذ كسال عبد السلام: نائب رئيس الكتلة البرلمانية لحركة الإصلاح الوطني الجزائرية.

- الأستاذ عبد الرزاق مقري: رئيس الكتلة البرلمانية لحركة مجتمع السلم «حمس» الجزائرية.

- الأستاذ محمد جهيد يونسي: نائب في البرلمان ومسؤول السياسة والعلاقات في حركة الإصلاح الجزائرية.

- الدكتور أحمد أبو حلبية: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ونائب رئيس رابطة علماء غزة.

- الدكتور سالم سلامة: أستاذ الحديث بكلية أصول الدين الجامعة الإسلامية بغزة، ورئيس رابطة علماء غزة.

- الدكتور ماهر الحولي: كلية الشريعة الجامعة الإسلامية بغزة، وأحد مسؤولي الحركة الإسلامية بالقطاع

- الشيخ خالد حمدان: أحد قيادات الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني ومدرس بكلية الدعوة.

- الشيخ أحمد الحج: من قيادات حركة الإخوان المسلمين في فلسطين.

- الأستاذ صالح لطفي: باحث في مركز الدراسات المعاصرة، الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني.

وقبل استعراض محاور التحقيق نشير إلى بعض الملاحظات:

١ - هذه الرؤية ليست رؤية قادة أو علماء أو مفكرين أو ناشطين في العمل الإسلامي، بل هي رؤية جمعية تشمل هذه الشرائح كلها.

٢ - هذه الرؤية يمكن اعتبارها أحد التطبيقات العملية لقوله ـ تعالى ـ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: ١٦٥] ومن ثم تقتصر فقط على الشؤون الداخلية للحركات الإسلامية.

٣ - هذه دعوة إلى المهتمين بالقضايا المستقبلية للعمل الإسلامي لكي يثروا النقاش بمقالاتهم أو دراساتهم سعياً لتنمية الوعي المستقبلي لدى الإسلاميين.

_ أولاً: ما هو مستقبل التعاون والتنسيق بين الحركات الإسلامية في الأفكار أو المواقف أو المناهج؟

يقول الدكتور محمد أبو رحيم: إن «الحركات الإسلامية السنيّة الحديثة حركات يحكمها قاسم مشترك؛ فهي تدعو إلى الكتاب والسنة، وتحكيم الشريعة الإسلامية، وتتصدى للمذاهب الفكرية المعاصرة» ولذلك فإن الحديث عن التعاون بين هذه الجماعات يستند إلى أسس راسخة، ويعتبره الأستاذ علي البيانوني: «أمراً ملحّاً يرقى إلى مستوى الواجب الشرعي الذي لا يجوز التهاون فيه» . ويقول الأستاذ قاضي حسين إنه: «أمر يحتمه الإيمان والعقيدة، وتفرضه متطلبات العمل ومقتضيات الفقه السياسي» . ويؤكد الأستاذ البيانوني الضرورة الواقعية للتعاون بين الجماعات في مواجهة «التحدّيات التي تواجه الأمة الإسلامية على كافة الأصعدة» ولحماية «الصحوة الإسلامية المعاصرة ورعايتها وترشيدها، وحمايتها من التطرّف والانحراف، ولتبادل الخبرات والاستفادة من مختلف التجارب، ومواجهة الحملة العالمية المعادية للإسلام» .

ولكن يتفق كثير من الإسلاميين على أن ما هو واجب خلاف ما هو واقع؛ فقد «أصاب حركاتنا الإسلامية ما أصاب الأنظمة والحكومات المتشرذمة، وما أصاب كذلك الأحزاب والتنظيمات العلمانية والقومية» كما يقول الشيخ حامد البيتاوي، ولذلك يقول الدكتور أبو رحيم إن «هذا الأمل ـ التعاون ـ ممكن من الوجهة النظرية إلى حد ما؛ بيد أن الزحف به نحو التطبيق العملي على مستوى الحركات نفسها متعثر» ويذكر بعض الأسباب والأمثلة العملية: «غدت عبارة: نحن أولاً، شعاراً يروَّج له في الداخل بقوة، حتى وصل ببعضهم إظهار التعاطف مع الحركات الرديفة له على حياء في حال تعرضها للإجهاض، وبعضهم أظهر مساندته للباطل من غير خجل ولا حياء، بل إن بعضهم لا يسوِّغ عملية الإنقاذ ولو كانت تحت قدرته إلا للأتباع، وأما من لم يكن منهم فلا يلتفت إليه، ولا يجدون بأساً من قراءة الفاتحة على روحه، مع عدم جوازها شرعاً» .

ويشير الدكتور منير الغضبان إلى صور قليلة للتلاقي بين الجماعات منها «المظهر الذي يمكن أن يدل على فهم الأفكار والمواقف لا على التنسيق والتعاون وهو من خلال المجلات الإسلامية العامة (المجتمع ـ البيان ـ وغيرهما) أما التنسيق فقد يبدو على مستوى جزئي بين حركتين أو أكثر بحكم المجاورة والضرورة» ، وينبه الأستاذ كسال عبد السلام إلى معنى قريب بقوله إن: «بادرة التعاون تظهر بين الحركات في الأقطار المختلفة أكثر منها في القطر الواحد، لسببين: ربما التنافس وما يدخل في إطار الاختلاف المشروع (اختلاف التنوع) ، أو دافع الزعامة والتزعم» .

وإذا ما أخذنا الواقع الجزائري كمثال للواقع الإسلامي فسنجد أن «التنسيق أو التعاون الإرادي في العمل والمواقف بين فصائل الحركة الإسلامية في الجزائر يكاد ينعدم، إذا ما استثنينا التقاطع ـ غير الإرادي ـ الحاصل في النشاط الميداني المتعلق بقضايا الثوابت الحضارية للشعب الجزائري من دين ولغة وانتماء حضاري، أو ما تعلق بقضايا الأمة الأساسية، وأعني بها قضية الأمة المركزية (قضية فلسطين) و (قضية العراق) والتي لا يختلف عادة حولها اثنان» كما يؤكد النائب الإسلامي جهيد يونسي.

وفي محاولة لتحليل الأسباب المعوقة للتعاون بين الحركات الإسلامية في الأفكار والمواقف والمناهج. يقول النائب الإسلامي عبد الرزاق مقري: «أنسب فضاء للتنسيق والتعاون هو أولاً: الأفكار؛ باعتبار أن الحركات الإسلامية لها أهداف عامة واحدة، ولها غايات كبرى متفق عليها، وهي التمكين لدين الله تعالى عز وجل» ، ثم يضرب مثالاً بالواقع الجزائري مرة أخرى فيقول: «في الجزائر التوافق قائم بين فصائل الحركة الإسلامية فيما يخص قانون الأسرة، وحينما نتحدث عن ضرورة العمل من أجل حماية الثوابت الإسلامية وعدم علمنة الدستور الجزائري وعدم علمنة المجتمع الجزائري والوقوف ضد سياسات الإفساد، فإن الحركة الإسلامية كلها متفقة بخصوصها» . فما الذي يحدث الخلاف بصدده إذن؟ يضيف عبد الرزاق مقري: «الذي يبقى غير متوافق بينها في اعتقادي هي المناهج، مناهج التغيير؛ فالحركة الإسلامية متوزعة إلى مدارس مختلفة معلومة ومتنوعة» .

ويلخص الشيخ أبو زيد حمزة أسباب التفرق في جملة واحدة: «الجهل والابتداع في الدين والبغي» ، بينما يفصل الأستاذ قاضي حسين الأسباب إلى داخلية وخارجية، فيرجع الأخيرة إلى أساليب الاستعمار الذي «يضخ كل الإمكانيات المادية والسياسية لتأجيج أُوار الفتنة» أما الداخلية فيقول إن «بعض القيادات تنشأ لديها الشدة في مواقف تصل بعض الأحيان إلى العصبية» ثم يذكر مثالاً على ذلك: «فالقضية الأفغانية كانت محل إجماع لدى المسلمين جميعاً من حيث رفض الاحتلال، ولكنها كانت محل خلاف بين الحركات الإسلامية من حيث دعم الأحزاب الجهادية المختلفة، والحالة نفسها تكررت للأسف فى الجزائر وفي السودان» ، وهو ما عبر عنه الأستاذ البيانوني بأن هناك عقبات «تتعلق ببنية الحركات الإسلامية نفسها» .

وإذا كانت هذه هي صورة الحاضر؛ فكيف ينظر الإسلاميون إلى مستقبل التعاون بين الحركات الإسلامية؟ يقول الأدكتور منير الغضبان: «إذا أردنا ان ندرس المستقبل على ضوء الواقع فالأمل ضعيف؛ إذ إن مطارق المحنة التي تنزل ببعض الحركات الإسلامية أو الخوض في غمار التجربة السياسية في بعضها الآخر يجعل الحركة منكفئة على ذاتها، وقلَّما تستفيد من التجارب السابقة، ولا شك أن هذا من ضعف الوعي عند هذه الحركات» .

ويحاول الشيخ خالد حمدان أن يطرح مسوغاً واقعياً قوياً لتنسيق المواقف، فيلفت الانتباه إلى أن: «أعداء الإسلام في تعاملهم مع الحركة الإسلامية ما عادوا يميزون فيما بينها من خلال طروحاتها ومناهجها ومواقفها؛ فالكل عندهم سواء؛ فالذي لا يحارب في العلن يحارب في الخفاء، والذي لا يحارب في ساحات المعارك والجهاد، يحارب في ساحات الدعوة والعمل الخيري، بالتضييق أو الحصار أو الاعتقال» .

ويتفق أغلب المشاركين على أن هناك آفاقاً مستقبلية جيدة للتعاون بين الحركات الإسلامية، بل يؤكد الأستاذ قاضي حسين أنه بدأ يرى الآن: «تجانساً وتكاملاً بين الحركات بل بين معظم التيارات الإسلامية؛ لأن الخطر يهدد الجميع ويهدد الوجود» . ويقدم النائب عبد الرزاق مقري تفسيراً آخر للتفاؤل: «في الماضي كانت هناك مسلَّمات عند بعضهم لا يمكن نقاشها على الإطلاق، الواقع الآن صقل هذه التجربة، وأقنع الجميع بأن منهج الوسطية والاعتدال بإمكانه أن يصل إلى تحقيق الغايات الكبرى؛ ولذلك فرص التعاون أصبحت ممكنة جداً» ، ويقدم الدكتور أحمد أبو حلبية مثالاً واقعياً: «أعتقد أن كثيراً من هذه الجماعات تسير في هذا الاتجاه خاصة في فلسطين» .

ولكن بعض الإسلاميين يضع شروطاً لتحقق ذلك بالصورة المطلوبة، فيقول الشيخ أبو زيد حمزة:» إذا أردنا مستقبلاً للتعاون بين الجميع، فهذا يتطلب جملة أمور من أهمها: الرجوع إلى الكتاب والسنة على منهج سلف الأمة، والصدق في دعوى الوصول إلى التعاون والتنسيق؛ فلا ينبغي مثلاً رفع هذا الشعار دون معرفة أسباب التفرق والاختلاف والسعي إلى إزالتها؛ لأن الجمع كيفما أتفق يؤدي إلى مزيد تفرق وشتات» . ويلقي النائب يونسي بالكرة في ملعب الإسلاميين بالقول إن: «التعددية الإسلامية يمكن الاستفادة منها وتحويلها إلى قوة تكامل تدفع بالمشروع الإسلامي إلى الأمام» .

لكن في المقابل يرفض الباحث الإسلامي صالح لطفي هذا التفاؤل، ويقول:» إني غير متفائل من المستقبل في هذا الباب تحديداً؛ لأن ما يحصل في الأمة على وجه العموم ينعكس بشكل أو بآخر على جماعات العمل الإسلامي» كما يدعو من هذا المنطلق أهل المسؤولية في العمل الإسلامي إلى التساؤل: «إلى أي حد اجتهدت الحركة الإسلامية اجتهاداً فعلياً للتمكين للإسلام كدين لا كحركات؟» .

_ ثانياً: هل حدث تراجع في العمل الدعوي التربوي في السنوات الأخيرة؟ وما هي الأسباب إن وجدت؟

تباينت وجهات النظر في الإجابة على هذا السؤال إلى ثلاث اتجاهات: الأول: يمثل أغلبية الأشخاص والدول يؤيد حقيقة تراجع العمل الدعوي التربوي. والثاني يضم فلسطين وباكستان، ويؤكد على ازدهار العمل الدعوي التربوي، ويقول الدكتور أبو حلبية في ذلك: «انتفاضة الأقصى شجعت الجانب التربوي والدعوي أكثر، وزادت أعداد الناس المقتنعين بالفكر الإسلامي، والمساجد خير شاهد» . والثالث: ينتصف الطريق فلا هو ازدهار ولا تراجع، فيصفه الأستاذ أحمد الحج بأنه «لم يحدث تراجع وإنما تباطأ العمل» ويصفه الأستاذ صالح لطفي بأنها «حالات من المراجعات وليس التراجع» ، ويفض الأستاذ علي البيانوني هذا الاشتباك بالقول إنه: «لا يمكن التعميم في الإجابة على هذا السؤال؛ إذ إنّ مستوى العمل الدعويّ والتربويّ، ودرجة تقدّمه أو تراجعه، ليست واحدة في كلّ الأقطار، لكن من المؤكّد أنه تراجع في بعض الأقطار خلال العقدين الماضيين» .

ويقدم مؤيدو الاتجاهين الأول والثالث مجموعة من الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع أو التباطؤ أو المراجعات، بعضها داخلي يعود إلى الحركات الإسلامية نفسها، وبعضها الآخر ينسب إلى الظروف المحيطة، ويذكر الدكتور منير الغضبان من الأسباب الداخلية: «تحمل الحركة عبء العمل الدعوي والتربوي من جهة، وعبء العمل السياسي، وكلاهما أمران منفصلان لا يمكن الجمع بينهما إلا على حساب أحدهما» ولكن هذا السبب يعتبره النائب يونسي ظرفاً جبرياً أوجب على الحركة أن ترجح الجانب السياسي كاختيار إيجابي، فيقول إن: «التحول الحاصل في العالم وفي مجتمعاتنا فرض الاهتمام هذه الأيام بالبعد السياسي؛ فلم يكن بوسع الحركات الإسلامية أن تتأخر عن هذا الميدان، وإلا حكم عليها بالانطوائية والانعزالية والتخلي عن مواكبة التغيرات الجذرية» . ويقدم الدكتور الغضبان سبباً آخر للتراجع لدى الحركات الإسلامية وهو «انشغالها بنفسها في خلافات داخلية أو معارك فيما بينها من المحق ومَن المبطل؟ ومحاولة السيطرة على الساحة والتنازع يقود إلى التلاشي؛ ففي المنطق الرياضي تنابز القوى الإيجابية تكون المحصلة فيها صفراً؛ فكذلك في المنطق الإسلامي تكون المحصلة صفراً {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: ٤٦] ) .

ويضيف الأستاذ كسال سبباً آخر وهو «الالتفات إلى التأسيس والبناء الهيكلي - للحزب - كرهان أساسي لوجود هذه المظلة للعمل الإسلامي» .

أما الأسباب الظرفية التي أثرت على العمل التربوي فكثيرة، يذكر منها الأستاذ البيانوني: «تخوّف بعض الحكومات من العمل الإسلامي المنظّم، مما أدّى إلى تحوّل هذا العمل إلى السرّ، ومن المعروف أن العمل السرّيّ يكون محفوفاً بمخاطر التطرّف وردود الأفعال، وهو الأمر الذي يجعل العمل الدعويّ يعاني من تراجعٍ في بعض البلدان» . ويقول الأستاذ عبد الرزاق مقري مستشهداً بالواقع الجزائري إن: «الانحرافات الأمنية الكبيرة التي وقعت، والفتنة التي أتت على الأخضر واليابس في الجزائر، أدى ببعضهم إلى الوقوع في الحرج عند الظهور بالاسم الإسلامي والفكرة الإسلامية، وأدى إلى ردود أفعال للأطراف التي تخاف من الحركة الإسلامية، فجاءت ترسانة من القوانين والتشريعات التي تمنع الخطاب، وهذا أدى إلى فراغ كبير في المجال الدعوي» ويستشهد الأستاذ أحمد الحج بالواقع الفلسطيني، فيرجع التباطؤ في العمل الدعوي التربوي إلى: «الضغط العسكري الإسرائيلي ووقوف السلطة الفلسطينية ضد العمل الإسلامي؛ حيث اعتقل الكثير ممن يقومون بالعمل الدعوي، ومورس الكثير من الضغوط على الخطباء والدعاة أحياناً وتهديدهم في عيشهم أحياناً، بل والتحقيق معهم ومساءلتهم من قِبَل الأجهزة الأمنية المختلفة، كذلك الحصار ونقاط التفتيش» .

وينبه الباحث صالح لطفي من فلسطين إلى دور «الطابور الخامس من المثقفين المستغربين الذين استعملوا مجموعة من الآليات لا تملكها كلها او بعضها الحركات الإسلامية كالفضائيات والمجلات والمؤتمرات ووزارات الشباب والتربية والتعليم والثقافة والمرأة ودور الأزياء» .

فماذا عن المستقبل؟

يبدو كثير من المشاركين متفائلاً بمستقبل العمل الدعوي التربوي و «يوجد ـ ولله الحمد ـ خير كثير، وما زال كثير من الدعاة إلى الله يبذل جهده في الدعوة إلى الله وتربية الناس على الشريعة» كما يؤكد الشيخ أبو زيد حمزة، ويقول الأستاذ مقري: «في اعتقادي، فإنه في هذه السنوات القليلة الأخيرة بدأ نوع من الوعي الإسلامي الجديد ونحن نستبشر خيراً» .

وإلى الذين يستصعبون العمل الدعوي التربوي في ظل الهجمة الشرسة على الإسلام يؤكد الشيخ حمدان أن «الفرصة مواتية ومواتية جداً للعمل الدعوي والتربوي مع كل ما تتعرض له دعوة الإسلام من مكائد ومؤامرات لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل» .

ويقدم الدكتور سلامة توصية للحركات الإسلامية: «لا بد من صياغة مناهج جديدة تحفظ لنا مبادئنا وتتعامل مع الواقع وتستغل ما تقدمه التقنية الحديثة؛ لأن الأمور ليست كالسابق؛ فقد نستخدم المحاضرات والجلسات العلمية والفضائيات والإنترنت، كل هذه الأشياء قد تستخدم في العمل التربوي؛ فلماذا يتأخر المسلمون عن استخدام ما قد أباحه الله لنشر دعوتهم؟» .

ويقدم الدكتور منير الغضبان رؤية لفك الاشتباك بين العمل التربوي والسياسي، فيقول:» الحل الأنجع هو فك الارتباط بينهما: إما من خلال واجهة سياسية للحركة الإسلامية تعمل فيها النخبة فقط، وتعرف خط التعامل مع السلطة والمعارضة المحلية، ولا تشترك القواعد إلا عند عمليات الاقتراع؛ أو تدريب بعض الأفراد العاملين وتهيئتهم للفرز للعمل السياسي؛ بينما تتفرغ القيادات الدعوية والتربوية للعمل التربوي والدعوي، أو من خلال انفصال كامل بين الحزب السياسي والحركة الدعوية؛ حيث يكون الحزب السياسي في أهدافه ومنطلقاته يمثل تطلعات الحركة الدعوية من الجانب السياسي» .

_ ثالثاً: هل تراجع دور العلماء بين نخبة العمل الإسلامي وقياداته؟ لماذا؟ وهل يستمر ذلك مستقبلاً؟

من أبرز جوانب الخلل في مسيرة العمل الإسلامي في العقود الأخيرة هي تراجع دور العلماء، وهو ما أيده أغلب المشاركين في هذا التحقيق، وإن اختلفوا في بيان الآثار السلبية لهذه الظاهرة، والأسباب التي أدت إليها والخطوات العلاجية لها في المستقبل.

وفي مجال توصيف الظاهرة يركز الأستاذ البيانوني على أنه رغم توفر وسائل العلم والتعلم لا توجد نتيجة مرضية، فيقول: «نشهد اليوم وفرة في عدد العلماء وخرّيجي كليات الشريعة وأصول الدين ومعاهد العلم الشرعي، وكذلك في عدد الكتب والمؤلّفات التي يصدرها هؤلاء العلماء، وفي الحلقات العلمية التي تبثّها بعض المحطّات الفضائية، إلاّ أنني أعتقد أن دور العلماء في العمل الإسلاميّ المنظّم ما يزال محدوداً» بينما يركز الأستاذ قاضي حسين على جانب آخر من الظاهرة وهو انخفاض عدد العلماء الربانيين المؤهلين لقيادة الأمة، فيقول: «هناك كوكبة من العلماء الربانيين فى العالم الإسلامي لكن عددهم لا يتجاوز أصابع اليدين» .

ويحاول الباحث صالح لطفي التخفيف من هذه الصورة القاتمة، فيفرق بين المشاركة والقيادة: «الحركات الاسلامية تزخر بالعلماء الأفذاذ الذين وإن لم يتسنموا المناصب القيادية فهم أهل حكمة نافذة ورأي في الصفوف» . ولكن فرض الوقت المطلوب من العلماء الآن هو تسنم القيادة وليس مجرد المشاركة.

وكان اللافت أن أكثر المشاركين حديثاً عن الآثار السيئة لغيبة العلماء هم ممثلو الأحزاب السياسية في الجزائر؛ فقد أكدوا على تأثر العمل الإسلامي سلبياً بافتقاد العلماء، فيقول الأستاذ يونسي: «إن عدم اعتماد فصائل الحركة الإسلامية في عمومها على عمل العلماء العاملين افقدها في كثير من الأحيان الصواب في اختيار الوسائل الموصلة للأهداف المنشودة، كما فرض على كثير من الدعاة والنخب الإسلامية الاضطلاع بمهمات قد لا تتناسب وملكاتهم، مما جعل كثيراً من اجتهاداتهم الصادقة تجانب الصواب ومصلحة المشروع الإسلامي، وقد زجت في بعض الأحيان بأبناء الصحوة الإسلامية في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل» ويأخذ على الدعاة «قلة علمهم بمقتضيات الشرع وفنون الدعوة وفقه الموازنات» ويأخذ «على الحركة الإسلامية في الجزائر وفي غيرها أنها لا تعير كبير اهتمام لآراء العلماء» .

ويقول الدكتور أبو رحيم إن تراجع العلاقة بين العلماء وقيادات العمل الإسلامي أثَّر «على مستوى الانسجام والالتحام بين طبقات المجتمع المسلم وفقدان المرجعية الدافعة والداعمة لهذه الحركات» .

وعند النظر في أسباب تراجع دور العلماء، يقدم المشاركون رؤية متكاملة في هذا المجال تتناول تأثير الحكومات والضغوط الخارجية، وقدم المناهج والأساليب العلمية، والخلاف بين القيادة السياسية والعلمية، وتقصير العلماء.

ونستعرض هذه الأسباب بدءاً بالأستاذ قاضي حسين الذي يشير إلى تأثير: «الأجواء العلمية والتعليمية التي تسود العالم الإسلامي؛ فهي إما قديمة وبالية تدور حول معانٍ محدودة وتشدد عليها على حساب مقاصد الشريعة الحقيقية، وإما واقعة تحت تأثير الحكومات التي تميت في أهل العلم روح العلم والعقيدة وغيرتها» ويذكر سببا آخر وهو أن: «أمريكا في مخططاتها الرامية إلى السيطرة الكاملة على العالم الإسلامي تسعى إلى تغيير المناهج الدراسية، وتحاول أن تبرز طبقة من العلماء تسميهم علماء (الإسلام الحديث) ومن هنا تزداد ضرورة وجود العلماء الربانيين الخلّص» .

ويمثل الأستاذ مقري بالواقع الجزائري متهماً نظام الحكم الذي تولى في أعقاب الاستقلال حيث «كانت هناك مدارس للتعليم الأصلي الشرعية كونت نخبة من الرجال لهم إلمام واسع بالعلوم الشرعية، وكان بإمكان هذه التجربة لو بقيت أن تعطي ثماراً أكثر، لكن للأسف الشديد النظام الاشتراكي في ذلك الوقت ألغى التعليم الأصلي بحجة توحيد مناهج التعليم، مما أدى إلى نقص فادح وفظيع جداً في تنشئة الرموز والمرجعيات الشرعية» .

ويعيب الباحث صالح لطفي على أنظمة التعليم الشرعي خاصة في الدول التي تتبنى نهجاً علمانياً؛ حيث تجد عدداً كبيراً من «المنتسبين للدراسات الشرعية هم من متوسطي المستوى وأقل من ذلك بعكس الكليات العلمية كالطب والصيدلة والهندسيات» فكيف يمكن أن يظهر من مثل هؤلاء علماء ربانيون؟

أما الدكتور أبو رحيم فيتحدث صراحة عن جوانب تقصير يراها في العلماء، يذكر منها: «جنوح كثير من أهل العلم إلى المصطلحات الفضفاضة والمفاهيم المغلوطة المأخوذة عن أعداء الأمة وإنزالها على واقع بعض الحركات الإسلامية، وإضفاء ثلة من العلماء الشرعية على المذاهب الفكرية المعاصرة المسيطرة وتسويغ وجودهم مع ظهور عداء هذه المذاهب للإسلام والمسلمين، والانهزامية عند طائفة من العلماء ممن وقعوا تحت تأثير الرأي العام العالمي فأظهروا أنفسهم بالمظهر المقبول عند الغربيين وأهل الملل الأخرى، ثم عملوا على نشر ما يعرف بالتسامح الديني، وحوار الأديان» .

ويدافع الشيخ أبو زيد حمزة عن العلماء، ويعتبر أن الهجوم عليهم سبب لتقليص دورهم في العمل الإسلامي، فيقول: «لا يمكن الزعم بتراجع دورهم، ولكن لا يبعد أن يقف بعض الناس سداً منيعاً للاستفادة من علمهم، كأن يرموهم بالتخاذل أو نحو ذلك من التهم التي تحول دون الاستفادة منهم» .

وعلى صعيد العلاقة بين العلماء وقادة العمل السياسي يتحدث الدكتور منير الغضبان عن إشكالية قائمة «بين القيادات السياسية والدعوية والمرجعيات الشرعية والعلمية، وما لم تحل هذه الإشكالية فستنعكس آثارها على المسيرة الدعوية كاملة، العلماء يعتقدون أنهم المرجعية الأولى والأخيرة والآخرون جميعاً تلاميذ في مدرستهم يجب أن يسمعوا ويطيعوا لهم، والقيادات السياسية تجد نفسها أوْلى بالاجتهاد بالمواقف والرؤى التي لا تتعارض عموماً مع الإسلام وفقهه السياسي. لا بد من فك هذا الاشتباك» ، ويؤكد الأستاذ كسال على هذه الحقيقة بالقول إن أهم أسباب تراجع دور العلماء: «غلبة التوجه السياسي ثم غلبة الأنا السياسية لدى كثير من ممارسي العمل الإسلامي، ثم المعادلة الصعبة في الجمع بين السلطتين: الروحية، والسياسية» .

ويطرح المشاركون عدداً من التوصيات والاقتراحات لتفعيل دور العلماء في العمل الإسلامي في المرحلة القادمة، فيدعو الشيخ خالد حمدان إلى «بناء مرجعيات ومجامع علمية او هيئات ومؤسسات تعاونية وحوارية بين العلماء في القطر الواحد بشكل خاص أو على مستوى أوسع إن أمكن، والاستفادة من النموذج العراقي الرائد من خلال (هيئة علماء المسلمين) ودورها المتميز في أصعب وأحلك ظروف العراق» ، ويدعو الأستاذ البيانوني الحركات الإسلامية «أن تولي اهتماماً خاصاً في مناهجها وبرامجها لهذا الدور المطلوب من العلماء» .

ولحل إشكالية العلم والسياسة يقول الدكتور منير الغضبان: إن الحل ما ذكره «كتاب الله ـ عز وجل ـ في تجربة بني إسرائيل {إذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: ٢٤٦] ، ولم يكن القائد هو النبي، وتقدم صاحب الكفاءة والاختصاص ليتحمل مسؤوليته، ولم يكن هذا لينقص من قدر النبي الموحى إليه، لكن عندما تجتمع الكفاءة والعلم فلن يكون إشكال عند ذلك؛ حيث توفر ذلك في داوود عليه السلام {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة: ٢٥١] ، وحينئذ يكون التغيير {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البقرة: ٢٥١] ، وحين يقر القائد السياسي بضبط سيرته من العالم ويقر العالم بوضع الخطط من القائد يتم التغيير كذلك» .

_ رابعاً: هل يتوقع أن تحقق الحركات الإسلامية التي تمارس العمل السياسي نجاحاً في المرحلة المقبلة مقارنة بنتائج الفترة الماضية غير المشجعة؟ وما تأثير مستوى التمسك بالثوابت الإسلامية؟

العمل السياسي من كبريات القضايا التي شغلت الحركات الإسلامية سواء بالممارسة أو التنظير أو الاجتهاد في حكمه الشرعي، وبينما يعتبره بعضهم طوق النجاة وعليه المعول في التمكين للإسلام، يراه آخرون طوقاً حول الإسلام وقيداً للعمل الإسلامي، وخروجاً عن أحكام الشريعة، وحسب السؤال الموجه للمشاركين في هذا التحقيق؛ فإن نصف المشاركين تقريباً اعتبروا أن النتائج التي تحققت لجماعات العمل السياسي في الفترة الماضية مشجعة ومحفزة للاستمرار، بينما اعترف الباقون بأنها كانت مخيبة للآمال ومتوقعة على كل حال.

وأياً كانت النتائج السابقة فإن الأستاذ علي البيانوني يؤكد على أن العمل السياسي «هو جزء من اهتمامات الحركة الإسلامية، يفرضه الفهم المتكامل للإسلام، على أنه دينٌ يشمل جميع جوانب الحياة. كما تفرضه التحدّيات السياسية التي تواجه الأمة بشكلٍ عام» .

وبينما يعتبر الأستاذ قاضي حسين أن الحركات الإسلامية حققت نجاحات كبيرة في هذا المجال في الفترة الماضية، فإن الدكتور أبو رحيم يعرض رأياً مخالفاً فيقول إن: «ممارسة الحركات الإسلامية للعمل السياسي لا يخرج عن كونه بناء في الهواء، ونتائج الفترة الماضية من المشاركات شاهد على ذلك؛ لأن هذه الممارسة ما نبتت إلا في ظل أنظمة العلمنة والدمقرطة والعولمة وهيمنتها؛ فهي محكومة بالثوابت فيها، وأيّ تجاوز لها ولو على مستوى التأييد الشعبي فحكمه الاجتثاث والزج به في غياهب التاريخ؛ لأن من ثوابت هذه الأنظمة رفض الشريك صاحب القرار؛ فكيف اذا كان الشريك صاحب عقيدة ومنهج لا يقبل الشراكة؟. ويدعم الشيخ أبو زيد حمزة هذا الرأي، بل وينتقد أداء الحركات الإسلامية السياسية، فيقول إنه غاب عنها «منهاج النبوة في الدعوة إلى الله وعدم الفقه بالمراحل المنهجية الدعوية، ونسبة الإخفاق دائماً إلى غيرهم من خارجهم، مع غلبة القوة والعنف في الحكم على من خالفهم، وخضوعها للعواطف والانفعالات أكثر من خضوعها للحكمة والعقل، بل ربما افتقدت إلى قيادة علمية فقهية» .

ولكن الدكتور سلامة حتى على فرض أن الحركات السياسية حققت تراجعاً أو إخفاقاً فإنه يقول: «النتائج غير المشجعة في السابق كانت بسبب الهجمة الشرسة التي يديرها الأعداء ويوقعون فيما بين الحركات وأبناء جلدتها» .

ومن فلسطين أيضاً يعرض الباحث صالح لطفي رأياً معارضاً لممارسة العمل السياسي بصورته الراهنة لأسباب يراها واقعية ومنهجية، فيقول: «حيثما تم الانخراط بالعمل السياسي حدث نوع من الشرخ السياسي داخل الصف الإسلامي، أو كثرت الجيوب والقيل والقال على حساب التربوي والدعوي» ويرجع ذلك إلى أسباب منها: «عدم المراجعة الصادقة للمرحلة التي تم فيها خوض غمار العمل السياسي، فإن كانت ثمة ضرورة للانسحاب تم الانسحاب أو تغيير في أساليب العمل أو السياسات العامة، كما أن ثمة قصوراً في فهم الواقع السياسي للآخر وتحديداً الأنظمة التي تقبل بمشاركة الحركة الإسلامية في برلمانها؛ فهي تحدد سقف اللعبة السياسية وآلياتها وكيفية إدارتها ومعالم التأثير الصادرة عن هذه اللعبة، ولا تتورع هذه الدولة عن استعمال البطش إذا لاحظت أن الحركة تجاوزت الخطوط التي وضعت أصلاً» . ثم يقرر لطفي قاعدة هامة: «لا يمكن للحركة الإسلامية أن تغير من خلال هذا النظام الموضوع أصلاً لمنع هذه الحركة من تنزيل أمر الدين على الناس» .

ولكن النائب جهيد يونسي يؤكد على أن بعض الإخفاق في ممارسة العمل السياسي لا يسوغ التوقف عنه، ويقرر هو الآخر قاعدة للعمل الإسلامي: «إذا ما أراد أبناء الصحوة الإسلامية أن لا يعيشوا على أطراف مجتمعاتهم كخدم عند غيرهم لا يلتفت إليهم إلا عند الحاجة، فلا بد من ولوج ساحات المجتمعات السياسية والمدنية على السواء ما دام ذلك من أجل جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو التقليل منها» .

وبعيداً عن الخلاف في جدوى العمل السياسي من الناحية الشرعية كما عرضها الشيخ أبو زيد أو الواقعية كما عرضها آخرون، فإن بعض المشاركين قدموا لنا معايير يمكن بها الحكم على جدوى الممارسة السياسية واقعياً حسب ما يتحقق عنها من مصالح، فيقول الأستاذ البيانوني: «لا أقيس النجاح في هذا الميدان بوصول هذه الحركة أو تلك إلى الحكم، بمقدار ما أقيسه بمستوى الوعي السياسيّ عند الحركة، وبقدرتها على التعامل مع المستجدّات والمتغيّرات الدولية والإقليمية والمحلية، والتخلّي عن الخلافات البينية، وبناء الجبهة الداخلية القادرة على المواجهة والصمود» . ويعرض الأستاذ لطفي معياراً آخر فيقول: «علينا أن نحكم على التجارب بشكل منفصل، بمعنى أن دراسة التجربة السياسية السودانية ـ وهي تجربة تمكين ـ تختلف عن التجربة التركية وهي تمكين أيضاً؛ إلا أنها تختلف كلية عن الأولى، كما أن التجربة المصرية تختلف عن الأردنية وعن الكويتية؛ وهكذا فلكل خصوصيته التي يجب أن تدرس بعمق» .

ويبدي المشاركون تأكيدات على أهمية التمسك بالثوابت الإسلامية في ممارسة العمل السياسي، ويقول الأستاذ البيانوني إن: «التمسك بالثوابت الإسلامية لا شكّ من أهم عوامل نجاح العمل الإسلاميّ بشكلٍ عام، والعمل السياسي بشكلٍ خاص؛ لأنّ هذه الثوابت هي بمثابة البوصلة التي تحدّد المسار، وتكشف الزيف والضعف، وتنفي الخطأ، وتفرز الصواب» ، ويستخدم كسال عبد السلام هنا مصطلح «الأصالة والمعاصرة» .

ولكن يعرض الباحث صالح لطفي بُعداً آخر للتمسك بالثوابت يثمِّن الحركات الإسلامية التي تدفعها ثوابتها للتخلي عن العمل السياسي ولو مؤقتاً، فيقول: «هناك حركات إسلامية أخفقت أو راوحت مكانها بحكم تمسكها بثوابتها الإسلامية إلا أن هذا الإخفاق الظاهر والذي سببه الحرب الشرسة التي شنت على هذه الحركات في حقيقته أوجد في العقل الباطن للمجتمعات احتراماً كبيراً لهذه الحركات وهو ينتظر تلكم اللحظة التي يمكن لهذه الحركات أن تعاود التمكين المؤثر» .

_ فماذا عن مستقبل العمل السياسي:

الشيخ قاضي حسين يبدو مطمئناً وهو يقول إنه: «رغم التحديات الكبيرة توقعات الإنجازات فى المستقبل أكبر من توقعات الماضي» ، ولتحقيق النجاح في مسيرة العمل السياسي يؤكد الشيخ حمدان على طرح هام هو: «على الحركات الإسلامية مراجعة برامجها وأدائها في العمل السياسي؛ وإن أدى ذلك إلى الفصل بينه وبين العمل الدعوي إذا تطلب الأمر، أو طرحه من خلال عناوين وواجهات قريبة ومتعاطفة ضمن منظومة العمل الإسلامي العام» .

ويقدم الدكتور منير الغضبان عناصر أربعة للنجاح يعتبرها لازمة للعمل السياسي في الفترة المقبلة، وهي:

١ - فقه الواقع: بعيداً عن العاطفية والارتجال وردود الأفعال والأماني، الواقع بجميع عناصره الخصم الداخلي والعدو الخارجي.

٢ - فقه الإسلام: فنحن لسنا مجرد حزب سياسي تهمه السلطة؛ إنما نحن حركة إسلامية يهمها تطبيق الإسلام من خلال السلطة.

٣ - فقه تطبيق الإسلام على الواقع: من خلال الفقه السياسي أو السياسة الشرعية ضمن أطر التدرج والتيسير لا التعسير، وفقه الأولويات وفقه الموازنات.

٤ - التربية الروحية: التي تقتل الأنا في الإنسان وتجعله جندياً لله لا جندياً لذاته.

_ خامساً: هل يمكن أن تذكروا لنا في نقاط محددة أهم الدروس المستفادة من تجربتكم في العمل الإسلامي في الحقبة الماضية؟

قدم لنا نحو خمسة عشر من قادة وعلماء ومفكري وناشطي العمل الإسلامي في هذا التحقيق خلاصة الدروس التي استفادوها خلال تجربتهم الإسلامية في الفترة الماضية، وقد تكوَّن من ذلك كله كنز من الفوائد لا يقدر بثمن، ونذكر أبرز الفوائد منسوبة إلى قائليها:

الأستاذ علي البيانوني: ضرورة التواصل بين أجيال الدعاة، ضرورة تبنّي حاجات الجماهير المعاشية بمقدار تبنّي حاجاتهم الروحية والفكرية، نقد الذات وتقبل النصح ومحاولات الإصلاح بصدر رحب.

الشيخ أبو زيد حمزة: البدء بالأهم فى الدعوة إلى الله وهو توحيد الله، ومراعاة منهج الأنبياء فى الدعوة أمر لازم وثمراته طيبة.

الدكتور منير الغضبان: العاطفية والارتجال والبعد عن التخطيط هو مقتل الحركات الإسلامية، غياب المؤسسات الفاعلة والتي يتحرك القرار من خلالها تجعل الحركة الإسلامية ملكاً لأشخاص لا لمبادئ وقيم، مقتل الدعاة أو القادة في المهلكات المحددة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

الأستاذ قاضي حسين أحمد: ضرورة الالتزام بالجماعة مهما كانت الظروف ومهما كانت الخلافات فى الرأي، ضرورة تجديد الوسائل والطرق فى إيصال الدعوة وتحقيق الهدف، عدم الرد على الاتهامات التي قد تأتي من بعض المجموعات أو الأحزاب الإسلامية ثم المبادرة بمد يد التعاون إليها تأتي بالنتائج المطلوبة والمرجوة.

الأستاذ كسال عبد السلام: تجنُّب الجنوح إلى النزعة الذاتية ولو في مجال الطرح الفكري الصرف، تبني مبدأ سعة الصدر في التعامل داخل التنظيم وفي خارجه مع التنظيمات الأخرى.

الدكتور أحمد أبو حلبية: أهم درس هو أن من يخلص العمل لله سيجد ثمار هذا الإخلاص، ثم إن العمل الإسلامي يحتاج لصبر وثبات على الحق كما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: ٤٥] .

الشيخ خالد حمدان: أخطر ما يعاني منه العمل الإسلامي بروز الأمراض النفسية كالأحساد والأضغان في نفوس أبنائه ورموزه، على الحركات الإسلامية أن تسعى جادة جاهدة في الاستفادة من التجارب الإبداعية المعاصرة في صناعة «القيادات» و «الكوادر» التي تقدر على النهوض بالعمل الإسلامي ومتطلباته.

_ سادساً: ما هي أهم المعوقات والمبشرات في طريق العمل الإسلامي؟

المعوقات:

- الاستبداد الذي لا يسمح بالعمل للإسلام، فيحول دون قيام المسلمين بواجب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (الأستاذ علي البيانوني) .

- ما تسعى قوى الاستعمار إليه عن طريق حكومة برويز مشرف من فرض العلمانية والفساد وبحجة «الإسلام الحديث» ، وقيام الحكومة الباكستانية بفصل العناصر الإسلامية من المؤسسة العسكرية حتى يسهل استخدام هذه المؤسسة ضد الحركات الإسلامية إذا لزم الأمر، والخوف من تسلم الإسلاميين حكم هذه الدولة ذات القوة النووية (الأستاذ قاضي حسين) .

- الجهل وعدم تصور الإسلام تصوراً صحيحاً لدى من يقوم بالعمل الدعوي، وجود طوائف ضالة وفرق من أهل البدع لها أثرها الواضح، النفرة وعدم الانسجام بل والتناقض لدى بعض الدعاة، معوقات إدارية تتمثل في تولية غير الأكفاء أحياناً وفي ضعف التخطيط (الشيخ أبو زيد حمزة) .

- الذاتية خاصة فيما تعلق بتولي وتولية المناصب القيادية، وكذا الانكماش الفكري، ومنها مشكلة الانسجام التي تزداد وتكبر كلما قل الاعتماد على الطاقات الوافدة التي لم تتلق تكوينها في أحضان الحركة الإسلامية أو أهمل إخضاعها لذلك (كسال عبد السلام) .

- الصحوة الإسلامية الشعبية العامة أصبح سقف مطالبها أكثر مما تطيقه أو تدعو إليه الحركة الإسلامية، كما أن الحركة الإسلامية لم تحقق النجاح المأمول في مجالات التربية والقدوة وبناء الشخصية الإسلامية المتوازنة التي تستطيع أن تقود الجماهير بسمعتها ومصداقيتها، وأيضاً الحركة الإسلامية لم تقدم فكراً متقدماً أو بدائل علمية بإمكانها أن تواجه بها معضلة الحكم في العالم العربي والإسلامي، وتجعلها تنتقل من موقع الدعوة إلى موقع الدولة بكفاءة عالية (عبد الرزاق مقري) .

- من المعوقات في فلسطين: ملاحقة المجاهدين والدعاة وتكميم الأفواه، وعدم اخذ العلماء لدورهم الطبيعي، وقلة المؤسسات ومحاربة المؤسسات التي تعمل للإسلام، عدم وجود الطاقات المؤهلة بما يكفي حاجة الناس (د. ماهر الحولي) .

- داخل الخط الأخضر في فلسطين: الحركة الإسلامية تعيش كأقلية، والكيان الصهيوني لا يسمح بانتشار العمل الإسلامي وحملة الاعتقالات الأخيرة خير برهان، أساليب المخابرات «الإسرائيلية» في حرب الصحوة الإسلامية من نشر للفساد والزنا والمخدرات والشقاق بين الناس، والفضائيات وما تبثه من سموم وفواحش (الأستاذ صالح لطفي) .

المبشرات:

- ما وصلنا إليه من الاتحاد والوحدة بين الأحزاب الدينية الرئيسة في باكستان ونتيجة لذلك حققنا نتائج مطمئنة ومبشرة في المستقبل، وأيضاً وجود جيل من الشباب الملتزم فى جميع مجالات الحياة (الأستاذ قاضي حسين) .

- أنا مستبشر خيراً ومتفائل كثيراً في مسيرة العمل الإسلامي في فلسطين بفضل الله وتوفيقه، وبسبب هذه الصحوة الإسلامية وجهاد أبنائنا (الشيخ حامد البيتاوي) .

- قبول كثير من الناس في المجتمعات بطبقاته المتعددة لنهج أهل السنة والجماعة وظهور ذلك لدى الشباب خاصة في الجامعات، كثرة المساجد ودور العلم والدورات العلمية والأسابيع الدعوية (الشيخ أبو زيد حمزة) .

- المطلب الإسلامي أصبح مطلباً جماهيرياً عاماً ليس مرتبطاً بحزب أو تنظيم أو هيئة أو دولة مما دفع بالإسلام إلى الواجهة العالمية، ونشوء الوعي في الغرب نفسه بفساد المنظومة الليبرالية الجديدة حيث نشاهد النمو المتسارع للحركات المناهضة للعولمة مما يؤكد حقيقة أن للإسلام مستقبلاً زاهراً في الغرب (الأستاذ عبد الرزاق مقري) .

- الصحوة والتغيير في الشارع الفلسطيني؛ فمثلاً كان قديماً يوجد مسجد واحد في كل مخيم، اليوم المساجد بالعشرات، وانظر إلى نوعية المصلين فأغلبيتهم من الشباب رغم أن الشاب في السابق كان يعاب عليه إذا دخل المسجد وكان الأمر مقتصراً على الشيوخ، وفي مجتمعنا الفلسطيني كانت المرأة تشق الجيوب وتلطم الخدود عندما يستشهد ابنها أو قريبها؛ أما الآن فهي تزغرد، بل ترسل ابنها للشهادة (د. ماهر الحولي) .

- مسيرة العمل الإسلامي بفضل الله تأخذ بُعداً أفقياً متنامياً في واقع مجتمعنا «الأرض المحتلة عام ٤٨» لتغطي جميع شرائح المجتمع من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وعلى مستوى الشارع والمدرسة والجامعة (الشيخ خالد حمدان) .

ـ من فلسطين: زار المسجد الأقصى المبارك للصلاة عام ٢٠٠٣م أكثر من ٣٠٠ ألف مصل أي ٣٠% من السكان المسلمين في البلاد، وانتشار الكتاب الإسلامي سواء من خلال المعارض الاسلامية أو العامة، وانتشار المكتبات الإسلامية في طول البلاد وعرضها، وارتفاع وتيرة العمل الإسلامي في الجامعات والمعاهد الإسرائيلية بين صفوف الطلبة المسلمين، وازدياد الطلاب الجامعيين الآيبين إلى ربهم (الأستاذ صالح لطفي) .

- في سوريا الصحوة الإسلامية الآن تملأ الفجاج، عودة التيار القومي الذي كان يتنكر للإسلام إلى الاعتراف بالإسلام واعتباره أساساً للنصر (الدكتور منير الغضبان) .


(*) شارك في إجراء حوارات فلسطين، والجزائر، مراسلا المجلة: نائل نخلة، ويوسف شلي.