المسلمون والعالم
العراق.. هل يشهد «ثورة عشرين» جديدة؟!
عارف المشهداني
[email protected]
لا يخفى على متتبعي الشأن العراقي أن ما يجري على الساحة العراقية اليوم
من عمليات عسكرية أوقعت خسائر موجعة بالقوات الأمريكية والبريطانية لا ينطلق
من فراغ أو من بقايا نظام صدام وفدائييه، كما يحاول أن يقنعنا الحاكم الأمريكي
للعراق بريمر وحاشيته، بل إن عوامل وأطرافاً عديدة دخلت ساحة الصراع ستجبر
بريمر على الاعتراف بها عاجلاً أم آجلاً.
فأغلب أو كل التشكيلات العسكرية التي ظهرت على الساحة أدانت وتبرأت
كما هو واضح في بياناتها من صدام حسين ونظامه وحزبه وما جره على البلاد
والعباد من خراب ودمار طيلة الـ ٣٥ سنة المنصرمة، وهذا ما يؤكد أن لا صلة
لـ «أغلب» العمليات العسكرية بصدام وفلوله. وأقول أغلب وليس كل؛ لأن
بعض العمليات تقوم بها فعلاً بقايا الأجهزة الأمنية والعسكرية للنظام السابق، خاصة
في منطقة الضلوعية شمال بغداد حيث سكن العديد من ضباط ومراتب أجهزة الأمن
الخاص بصدام؛ كونها مطاردة من قِبَل الشعب العراقي، الذي يطالب بالقصاص
منها على ما ارتكبته من جرائم بحقه، إضافة لمطاردة القوات الأمريكية لها؛ وهذا
ما يجعلها تقاتل بضراوة تشبثاً بالحياة!
على أن الغالبية العظمى من العمليات العسكرية تمت وتتم على أيدي مواطنين
عراقيين عاديين لا صلة لهم بصدام وحزبه لا من قريب ولا من بعيد، بل وسبق
لهم أسوة بباقي أفراد الشعب العراقي أن عانوا الأمرَّين منهما، ومنظمات تشكلت
حديثاً من منطلقات مختلفة نوجزها بما يلي:
١ - منظمات إسلامية ترفض الاحتلال من منطلق إسلامي شرعي، والمعلن
منها لحد الآن هي قوات الخندق للجهاد الإسلامي، وكتائب الفاروق، وسرايا
الجهاد، ومنظمة الطائفة المنصورة (سلفية كما أعلنت في بيانها) وقوات حزب
التحرير الإسلامي فرع العراق. والساحة العراقية حبلى بالمزيد! وكل التنظيمات
المذكورة أعلاه هي تنظيمات سنية. والملاحظ من بيانات هذه التنظيمات المعلنة
عبر وسائل الإعلام من فضائيات وإنترنت أن هدفها إيقاع أكبر قدر ممكن من
الخسائر في صفوف قوات الاحتلال، وأن العمليات العسكرية حسب رأيهم هي
السبيل الوحيد لإجبارها على مغادرة العراق بأسرع وقت. أما الحزب الإسلامي
العراقي (إخوان مسلمين) فقد أعلن غير مرة رفضه للاحتلال وأن مقاومته ستكون
سلمية من خلال الضغط السياسي الذي سيمارسه على سلطات الاحتلال للإسراع في
الانسحاب من العراق، لكنه أعلن أنه سيتعامل ولا يتعاون مع سلطات الاحتلال
كأمر واقع، ورفع شعار: لا نثور ولا نثير ولا نثار، ودخل مجلس الحكم الانتقالي
الذي شكله بريمر من خلال أمينه العام د. محسن عبد الحميد.
٢ - منظمات وطنية ترفض بحسها الوطني احتلال العراق من قِبَل القوات
الأمريكية والإنكليزية، وأبرزها سرايا المقاومة العراقية وجبهة الفدائيين العراقيين.
٣ - أبناء عشائر يرفضون صنوف الإذلال والمهانة التي تمارسها قوات
الاحتلال ضدهم وخاصة إجبارهم على الانبطاح أرضاً والدوس بالأحذية على
رؤوس من يخالف أوامرهم إمعاناً في الإذلال. والموت بالنسبة لهم أهون من هذا
الذل؛ لذا فإنهم يحاولون الثأر لكرامتهم من خلال اصطياد جنود الاحتلال لإشفاء
غليل صدورهم المملوءة حقداً عليهم!
٤ - ثأرات تقوم بها قطاعات عريضة من أبناء الشعب العراقي انتقاماً لما
يتعرضون له أو يتعرض له بعض أفراد عوائلهم من قتل أو سرقة أو اغتصاب أو
ترويع الأطفال، بل أصبح من الطبيعي أن تسمع روايات وقصصاً عديدة ومن أكثر
من مصدر عن حالات سرقة عديدة تمت على أيدي الجنود الأمريكان بعد تفتيش
بيوت وسيارات المواطنين العراقيين، وهذا ما حدا بالعراقيين إلى مناداة جنود
الاحتلال بـ (علي بابا) !!
٥ - ردات فعل للاستفزاز الذي تقوم به القوات المحتلة ضد الأهالي من
مداهمة البيوت وتفتيش النساء بما يمس بمشاعر ومعتقدات الشعب العراقي المسلم،
وسرقة حليهن، أو إدخال الكلاب البوليسية للبيوت بغرض التفتيش.
ويبدو جلياً أن الإحباط الممزوج بالمهانة والإذلال الذي يستشعره العراقيون
اليوم نتيجة عدم وجود كيان وسلطة وطنية لدولة تعد من مؤسسي الأمم المتحدة
وجامعة الدول العربية إلى الحد الذي يقوم فيه بريمر بتمثيل العراق في المنتدى
الاقتصادي الذي عقد بعمان مؤخراً، بالإضافة إلى الوضع المأساوي الذي يعيشونه
اليوم والمخاوف التي باتت تؤرقهم خشية تقسيم العراق إلى (كانتونات) طائفية
وعرقية وفقاً للمخطط الصهيوني، وقيام العديد من اليهود وعناصر الموساد بدخول
العراق وشراء عقارات وفنادق في بغداد، والنية المعلنة للشركات الإسرائيلية بغزو
السوق العراقية والمشاركة في مشاريع البناء كمقاول ثانوي وخاصة بعد الدعوة
(الكريمة) التي وجهها لهم نائب وزير المالية الأمريكي، أقول: إن هذا الإحباط
وغياب أي أمل برحيل سريع للقوات الأمريكية والبريطانية عن العراق قد شجع
الجميع وخاصة أبناء ما بدأت تطلق عليه القوات الأمريكية اسم المثلث السني
(محافظات بغداد والأنبار وصلاح الدين) على المقاومة والتي ما زالت تصر
القوات الأمريكية على تسميتها أعمال عنف أو إرهاب أو تخريب!
فالمظاهرات السلمية التي هي إحدى الممارسات الديمقراطية والتي جاءت
القوات الأمريكية لـ «تبشّر» بها في العراق تجابه بالرصاص الحي وعلى
الرأس مباشرة!! أما قطع الكهرباء وإغراق بغداد بظلام دامس فتلك سياسة أبدعت
فيها القوات الأمريكية وفاقت فيها صدام حسين نفسه الذي كان يمارس هذا الأسلوب
ضد الآلاف من أهالي المدن المعارضة: أما القوات الأمريكية فتطبقها اليوم ضد
أهالي بغداد ذات الستة ملايين نسمة!! بل بدأت ترفع شعار السلام مقابل الكهرباء
من خلال مكبرات الصوت أو بالكتابة على ظهور دباباتهم التي تسير في بغداد
مسببة المزيد من التشقق في شوارعها!! ولعل تردي الأوضاع من زيادة البطالة
التي وصلت حداً لم تبلغه من قبل (٩٠% من الشعب العراقي يعاني البطالة اليوم)
وانعدام الخدمات الأساسية من ماء صالح للشرب وكهرباء واتصالات هاتفية وانعدام
الأدوية، وتنصل الإدارة الأمريكية مما كانت تصرح به من إعادة إعمار العراق
وتشكيل حكومة وطنية، جعل التضجر يبلغ مداه حتى ممن جاؤوا على ظهور
الدبابات الأمريكية والبريطانية! ولا يخفى على أحد أن الولايات المتحدة جاءت إلى
العراق لتبقى، وهذا لم تؤكده تصريحات العديد من أعضاء الكونغرس الأمريكي
فحسب، وإنما ممارسات القوات الأمريكية على الساحة العراقية، فلا يعقل أن
تضحي أمريكا بأكثر من ٢٠٠ جندي بقليل منذ ٢٠ مارس ولحد الآن، وفق ما
أعلن والرقم مشكوك في صحته طبعاً، من أجل سواد عيون العراقيين وإسعادهم
ونشر الديمقراطية بين ربوعهم! وهذا ما أصبح واضحا لكل ذي بصيرة، وهو
الذي حدا بالعراقيين إلى تصعيد مقاومتهم وعدم انتظار نهاية السنة أو السنتين وهو
ما حددته الولايات المتحدة بادئ الأمر، وأصبح العراقيون موقنين أن بقاء
الأمريكان سيطول ولأجل غير مسمى!!
ومن يقرأ تأريخ العراق الحديث يجد أن الإرهاصات التي يعيشها العراقيون
اليوم شبيهة إلى حد كبير بإرهاصات ثورة العشرين (١٩٢٠م) التي قادها
العراقيون من مختلف المدن ضد الاحتلال الإنكليزي الذي احتل البصرة عام
١٩١٤م وبغداد عام ١٩١٧م والتي شهدت مدينة الفلوجة، نقطة انطلاقة المقاومة
اليوم، أحد أهم فصولها عندما أقدم الشيخ ضاري، أحد شيوخ الفلوجة، بقطع
رأس القائد الإنكليزي لجمن، وهو ما أحدث هزة في لندن وخرجت على إثر ذلك
مظاهرات شعبية عفوية في بغداد وهي تردد أهزوجة: ضاري هز لندن وابكاها (أي
وأبكاها) . وتلك الثورة الشعبية العارمة، رغم بساطة الأسلحة التي استخدمها
العراقيون آنذاك (الفالة: وهي عصا طويلة تنتهي بمشبك حديدي يستخدمها سكان
الأهوار لصيد السمك كما تستخدم لقلب القصب والتبن، والمكوار: وهو عصا
غليظة تنتهي بقير متصلب) التي أوقعت آلاف القتلى في صفوف الإنكليز
المدججين بمدافعهم (أو الطوب كما كان يسميه العراقيون آنذاك) ، لتكون أهزوجة
العراقيين الممزوجة بالتحدي والتي تناقلتها الألسن جيلاً بعد جيل: (الطوب أحسن
لو مكواري؟!) ، هي التي أجبرت الإنكليز على تخفيف قبضتهم على العراق من
خلال تنصيب فيصل الأول ابن الحسين بن علي ملكاً عليه عام ١٩٢١م، ومن
ثم رحيلهم عن العراق لينال استقلاله عام ١٩٣٢م.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الإدارة الأمريكية أخطأت جدا قراءة طبيعة الشعب
العراقي وتركيبته النفسية عندما تصورت أن كرههم لصدام ونظامه سيدفعهم إلى
الترحيب بالقوات الأمريكية واستقبالهم بالزهور كضيوف مكرمين!! وهذه القراءة
الخاطئة هي التي جعلتهم يصابون بالدهشة والذعر مع كل عملية عسكرية جديدة
تستهدف قواتهم، وهو ما تسبب في انهيار معنويات الجنود الأمريكان بشكل بات
يقلق عائلاتهم في الولايات المتحدة التي بدأت تطالب بعودتهم سالمين قبل أن يعودوا
محملين بالنعوش!!
رغم أن وسائل الإعلام الأمريكية تتجاهل عمداً ما يجري على أرض العراق
من عمليات عسكرية أو تقلل من أهميتها من خلال بث الخبر كخبر عاشر عادة ومن
دون صور للقتلى والجرحى الأمريكان ومدرعاتهم المدمرة تجنباً لإثارة الرأي العام!
ومع توالي تصريحات القادة الأمريكان، سياسيين وعسكريين، التي تتجاهل ردة
فعل الشعب العراقي بل وتصف تلك العمليات بأنها تخريب وإرهاب يقوم بها فلول
صدام (رغم علم الأمريكان قبل غيرهم والشعب العراقي بعامته بعدم صحة هذه
الدعوى؛ لأن فدائيي صدام وأعضاء حزب البعث لم يقاتلوا يوم كانت لهم سلطة
فهل يقاتلون الآن؟) من حقنا أن نتساءل: لِمَ يستكثر الأمريكيون والبريطانيون
على العراقيين أن يكونوا وطنيين ناشدي الحرية في بلدهم في الوقت الذي نقرأ في
كتب التأريخ أن تشرشل نفسه خطب عندما هدد الغزاة بلده بريطانيا بالاحتلال قائلاً:
سنقاتل على الشواطئ ولن نستسلم أبداً، وسنواصل القتال ضدهم مهما استطعنا
حتى نقذفهم خارج البلاد؟!
ويقيناً أنه إذا بقيت القوات الأمريكية تتصرف مع الشعب العراقي بالشكل
الاستفزازي الذي يحدث يومياً دون مراعاة لمعتقدات وأخلاق وعادات هذا الشعب،
ومماطلاتها المستمرة في السماح للعراقيين بتشكيل حكومة وطنية عراقية حقيقية
(وليست صورية تدار بالريموت كونترول من واشنطن كما هو حال الكثير من
الأنظمة العربية) فإن العمليات التي كانت تقتصر على المناطق السنية (العاصمة
بغداد بمختلف مدنها ومحافظة الأنبار بمدنها: الفلوجة والرمادي وهيت وراوة
والقائم، ومحافظة صلاح الدين بمدنها: سامراء وبلد وتكريت وبيجي، ومحافظة
نينوى ومركزها الموصل، ومحافظة ديالى ومركزها بعقوبة) ستمتد لتشمل مناطق
أخرى في الجنوب، وهذا ما حدث فعلاً كما في قضاء المجر الكبير في محافظة
ميسان وكذلك في النجف مؤخراً.
واتساع رقعة المقاومة ينذر أن حال الأمريكان اليوم لن يكون بأحسن من حال
سلفهم الإنكليز، وهو ما ستوضحه لنا الأيام القادمة الحبلى بالمفاجآت! وإن غداً
لناظره قريب!!