في دائرة الضوء
[نهاية الاستشراق القديم وبداية عهد جديد]
محمد حامد الأحمري
هناك من يحبون استدبار الحوادث إذا استقبلتهم، فيقررون الغياب عن الزمان
والناس والأفكار مرعوبين من الجديد، ليعيشوا في زمن معروف، ومع أقوام
معروفين، وأفكار معروفة، وهم إن عادوا إلى تلك المدارس والأشخاص وجاؤوا
بجديد فلا تثريب عليهم، ولكن اللوم على أولئك الذين يعيدون الهجرة إلى الماضي
القريب ويريدون أن نذهب معهم مرة أخرى إلى عوالم معروفة لنا ولهم، مدروسة،
مكرورة، مملولة، ثم هم لا يبدعون في رؤيتهم جديداً، ولا يمتعون عقولنا وأذواقنا
بشيء، يزعمون أن جهدهم الجهد وقولهم الفصل وإن كان قد دُرِسَ حتى دَرس.
إن تكن طالت عليك المقدمة، فقد أودعتها جزءاً من القضية؛ لأن جمعاً من
قومنا لفتوا الانتباه هذه الأيام إلى العودة لأعمال الحركة الاستشراقية فيما قبل قرن
يزيد أو ينقص قليلاً، ويعيدون الحديث عن الأسماء نفسها، والكتب ذاتها،
ويختصرون أو يشرحون كلام المعقّبين على الحركة تلك، ويقولون ما قاله عمر
فروخ أو الخالدي أو العقاد أو الجندي، بل وللأسف ليس لبعض هؤلاء المتحدثين
اليوم اطلاع الناقدين السابقين، ولا يملكون الوسائل اللازمة لدراسة الاستشراق،
وأولها لغاته ومناهجه.
وتكتب كتب، وتعقد دراسات، وتقام ندوات ... بلا جديد، ويشتغل طلاب
الجامعات العربية الإسلامية في اجترار الماضي بلا زيادة.
ولم لا يسأل هؤلاء المستغرقون في الأبحاث القديمة.. لم لا يسألون أو
يهتمون بحركة الاستشراق الجارية الآن، هل هناك استشراق اليوم؟ ! ما هو؟
وماذا فيه؟ ما قديمه وما جديده؟ ومن هم رواده؟ وماذا يريدون؟ ! .
وهذه هي المحاولة أو المغامرة العسيرة على عقول ومعارف كُتّابنا، بعضهم
ليسوا كتاباً ولا باحثين.. إنهم قُراء قديم بلا مواهب، أفلا يكتفون بأن يكونوا قراءً
وكفى! ، ونعْم العمل، أمّا أن يقنعونا أنهم عرفوا ما كتب قبل خمسين عاماً أو تزيد، عرفوا الاستشراق ودرسوه، فهذا لا جديد فيه، ولا يستحق أن يقنعونا به أو
يقولوا لنا إن بعض قومنا قديماً تأثروا بالاستشراق أو لم يتأثروا ويعيدوا علينا
الاعتراضات نفسها والسياقات القديمة عينها.
كان الأولى بنا أن ندرس ظاهرة الاستشراق المعاصر، ونحددها في
مستجداتها، وندرس أعمالها مباشرة، وأعمالها اليوم بخاصة دون إغراق في قديمها
وألا نخشى من التحول إلى دراسة ما جد عندهم كما درسوا هم ما جد عندنا.
الجديد في الاستشراق:
والذي طرأ على تلك المدرسة في العقود الأخيرة تطور مهم، فإن ما يسمى
استشراقاً أو مدرسة استشراقية ذات اهتمام علمي ثقافي في غالبه، وسياسي
اجتماعي في بعض جوانبه كما عهدناه، قد انتهت كثير من تلك الجوانب ولم تعد
أولوية في الاستشراق الحديث، بل تحول اليوم إلى عمل سياسي اجتماعي
متخصص يهتم بمراقبة ودراسة الأوضاع السياسية والأشخاص والأحزاب والأفكار
السياسية والعوامل الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية دراسة وافية، ووضع حلول
لها! ! .
فقد قرر المستشرقون منذ قرابة عشرين عاماً أنّ العمل العلمي الثقافي في بلاد
المسلمين وتراثهم ليس بذي جدوى ولا أهمية، بل هو ضياعٌ للوقت والجهد، فليس
لدى العرب والمسلمين أفكار ولا كتب ولا آداب تستحق الدراسة والجهد، والقليل
الذي يحتاجون له نقلوه إلى لغاتهم وبخاصة الإنجليزية كتاريخ الطبري، ومقدمة ابن
خلدون، ورسالة الشافعي وأعمال المتصوفة! والفلاسفة والشعراء الكبار.. ونحوها، والكتاب المعاصرون العرب ليس لديهم ما يستحق القراءة، وإذا حدث فسوف
يكون عمله مترجماً بلغة غربية في زمن قياسي، والمؤلف العربي يحرص على
ترجمة أعماله إلى لغات غير العربية، وهذا يسهل عمل من يتابع أفكارنا منهم،
وهم يترجمون ما يحتاجونه حتى بعض الأشرطة السمعية، فلماذا يضيعون وقتاً
طويلاً في دراسة الكتب الإسلامية القديمة مع معاناة مشكلة اللغة العربية؟ .
لذا: اتجهوا اتجاهاً سياسياً عارماً، وقطعوا الاهتمام أو أغلبهم بالقضايا
العلمية والفكرية إلا بمقدار ما تحقق أثراً سياسياً مباشراً.
واليوم: شخص مثل برنارو لويس اليهودي المؤرخ الشهير الذي كتب عن
الشرق الأوسط، والحشاشين، والأتراك، وترجم عن العربية مقتطفات تاريخية
وأعمالاً عديدة ذات طابع علمي، ولّى وجهه منذ زمن نحو السياسة، وأشرف على
معهد الدراسات اليهودية في جامعة (برنستون) ، ثم تفرغ للكتابة السياسية، ويكتب
عن: العرب والإسلام، واللغة السياسية في الإسلام، والإسلام والغرب، وصياغة
المشرق الإسلامي الجديد، ويعمل لإعداد جيل من السياسيين اليهود الأمريكيين
ليُخترق العالم العربي بشكل أكبر، ويقدم محاضرات سياسية واستشارات في الهدف
نفسه متخذاً من قضية أمته وقومه اليهود قضيته، ورمى بالتاريخ إلى الوراء، ولا
قيمة للتاريخ عنده إلا دوره في الحاضر والمستقبل وهذه أهم مهمة للتاريخ حقاً،
وهو من أصحاب النظرية المركزية اليهودية في غرب آسيا، حيث يرى أن على
إسرائيل أن تحكم منطقة وسط وغرب آسيا، من الجمهوريات الإسلامية إلى
النصف الشرقي من البحر الأبيض المتوسط، وأن على الغرب أن يترك هذه
المنطقة لها وحدها؛ فإسرائيل هي القادرة عقلياً وسياسياً ومالياً وعسكرياً على القيام
بذلك في إدارة يسندها تحالف أمريكي مباشر ويربط هذا باستراليا كما شرح في مقال
له شهير عن مستقبل المنطقة، ونشره في مجلة الشؤون الخارجية.
ومثل آخر هو: جون إسبوزيتو، يتجه لدراسة الإسلام المعاصر والحركات
الإسلامية المعاصرة، ويقيم علاقات مباشرة مع الإسلاميين وجمعياتهم وزعاماتهم
ليدرسها عن قرب، ويقدم الكتب من أمثال التهديد الإسلامي، أسطورة أو حقيقة،
وبدأت أعداد كبيرة من الشباب تهتم بهذه الموضوعات. ويقدم هؤلاء الاستشارات
والتوجيهات للحكومات الغربية كما كان يفعل السابقون في زمانهم.
ولعل أعمالاً سابقة كعمل مالك بن نبي وحديثه عن المستشرقين من معاصريه، أو عملاً كعمل السباعي عن مستشرقي زمانه ومقابلاته لهم: كانت أعمالاً حية
مواكبة للحركة في وقتها، مؤثرة في قرائها آنذاك ولم تزل، ولكنها لا تصلح لتكون
مادة دراسة الحركة في زماننا هذا ولا القادم لأنها أصبحت في معظم مادتها تاريخاً
فكرياً لا فكراً معاصراً جارياً.
اليوم يطلب الأساتذة في الجامعات الغربية أن تكون الأبحاث في الجامعات عن
الحركة الإسلامية المعاصرة! ، عن الأفكار الجديدة والمؤثرة على الشباب في العالم
الإسلامي وتطلعاته، ولعل من اطلع على كتاب انتقام الله الذي ترجم بعنوان يوم الله
للكاتب الفرنسي جيل كيبل وكتابه النبي والفرعون يلاحظ مدى المتابعة للوعي
الإسلامي في بلادنا، والكتب التي يقرؤها الشباب المسلم، والأشرطة التي
يستمعونها، عن الرجال المؤثرين فيهم، المواقف التي تستفز الشباب المسلم! ! ،
وكيف يمكن أن يواجه ويُغوى عن هدفه ويُشغل بمعارك هامشية جانبية تؤكد غياب
الأمة عن دورها وعن قضاياها وتغرق فيما يتمنى لها عدوها، وللأسف يقع بعض
المسلمين عن قناعة أو جهل في شباك الإغواء أو النقاش البيزنطي الذي غدا مثلاً،
ليس لأنه في ذاته خطأ فقط، وإنما لأنه أيضاً زمنياً خطأ أكبر، كان ملهاة عن
الجيوش الغازية على الأبواب، كان مشغلة عن المعركة، ونحن نختار أحياناً إحياء
الطريقة البيزنطية نفسها ولكن لا نسميها جدلاً بيزنطياً أو جدلاً لا فائدة منه مع أننا
منهيون عنه، ولأنه هو البديل عن العمل: فقد نضفي على جدلنا هالات من
الأهمية والخطورة والمنهجية، فتكسب نقاشاتنا أهميتها من الألقاب التي نلقيها عليها، وليس من حقيقتها ولا من مكانتها في الدين أو السياسة أو المجتمع أو التاريخ،
وهذه مضيعة للوقت والجهد، وسبب في صرف اهتماماتنا عن معرفة حال المسلمين
الذين هم بأشد الحاجة إلى الالتفات لمصائبهم ولأعدائهم المحدقين بهم، ولتصحيح
أفهامهم وأفكارهم وعقائدهم، فهم لا يدرسون حياة الشعوب المجاورة لهم، ودورها
في حياتهم، ولا يدرسون الإسلام بالطريقة التي بعثت الحياة في قلوب السابقين من
الأمة، إذ كان الإسلام لأتباعه: طريق عزة وكرامة للفرد وللأمة، واستقلالاً عن
ضغط الأعداء، وعدالة في الداخل، ووحدة في التوجه، وتكاملاً في التخصصات،
وحيوية غامرة، وتطلعاً لمعالي الأمور وذروة سنامها.
التفكير عند سلف الأمة ليس إغراقاً في تاريخ كسرى وقيصر ولا في جاهلية
العرب وأقوالهم، وليس تمحكاً وتحكيكاً وافتعالاً للخلاف الداخلي بين المسلمين
أشخاصاً وأفكاراً، وكتب الملل والنِحَل لم تكن همّ المسلمين وهدفهم، بل كان عملهم
دعوة الناس وهدايتهم، عملهم هداية من ترون من أعماق الصين إلى نهاية الغرب،
وليس لكلام زال وزال تأثيره ماضياً كان أو معاصراً، بل معرفة بالدين، ثم معرفة
بالحال الحالّة بأنفسهم وعدوهم وكيف يواجهونها، وبذل الطاقة والجهد لهذا، لا
لعلاج مشكلة ماضية، ولا لتوهم أو افتراض مشكلة في داخل الأمة.. ثم البحث
عن حل مفترض كذلك. هذه السلبية في الهروب من مواجهة الحياة والعدو طريق
العاجزين ومنحى الجاهلين، لأن كل شيء منها سهل ممكن النقاش مدروس سابقاً،
أو هو طعن للأمة من الخلف لا يكلف سوى استثارة وإيهام بشبهة أو ترويع مروع،
فيجن خوفاً وهلعاً ويضحي بأهل داره خوفاً من عدو متخيل من الداخل، وإذا كان
قد ولى أولئك أو تركوا ما كان يسمى استشراقاً في عمومه واختصوا بعمل محدد
عمل سياسي مجرد، فإن مواقعهم الآن احتلها مجموعة من العرب الذين نشؤوا عرباً
في بلاد عربية بغض النظر عن أصلهم، ولكونهم غرباء في المجتمع العربي، لن
يجدوا موقعاً سياسياً يتناسب مع معرفتهم بالعرب، فقد قاموا بالعمل التشويهي نفسه، بل أسوأ بكثير مما كان يعمله المستشرقون؛ فها قد رأينا مستشرقين أمثال عزيز
العظمة وأركون، وهؤلاء المستشرقون العرب توفرت لهم إمكانات لم تتوفر للطبقة
الاستشراقية الغربية المعاصرة؛ فمهارتهم في العربية التي كانت تقف عائقاً لكثير
من الغربيين لم تعد اليوم عند هؤلاء مشكلة، ثم: أزمة عقدتهم الفكرية والسياسية
حيث لا يجدون من يحترم كتاباتهم في العالم الغربي تزيد من حقدهم على الإسلام
والمسلمين والسخط على الأمة وتشويه تاريخها واحتقار تفكيرها وقراءته بعين
غربية حاقدة، وثم: عقدة كونهم مستغربين على هامش الغرب يزيدهم محاولة
إثبات أنهم غربيون أكثر من الغرب، فتجعلهم عقدة النقص هذه أشد ضرراً على
المسلمين من المستشرقين الغربيين.
والأولى بنا أن نعلم أن الاستشراق ليس تاريخاً ماضياً، ولكنه أيضاً سياسة
قائمة يومية متجددة.. نجد أنفسنا وثقافتنا فيها من خلال لغاتها مباشرة، وأعمالها
ومؤتمراتها وأبحاثها وقرارات الحكومات المبنية عليها.
ونحن لو اتجهنا نحو هذه المدرسة بهذه القناعة، أو على الأقل واجهناها
بهدف معرفتها ومتابعتها عن قرب متابعة مؤلفاتها ومقالاتها ودراساتها وتقاريرها،
لوجدنا في الحاضر ما يغني عن كثير مما قيل في الماضي، ولساعدنا ذلك على فهم
العالم الذي نعيش فيه، ولساهمت هذه الدراسة الواعية والمراقَبة الجادة في تطوير
العقول والعلوم والأفهام وإنضاج مجتمعنا سياسياً، وإنضاج أساتذة الجامعات لدينا
والشباب المسلم ليخرج واعياً لعصره، فاهماً لصديقه وعدوه، يعرف كيف يتعامل
مع مفكري عصره وعالَمهم، لأن تدريس الاستشراق بالطريقة الفكرية التاريخية
الموجودة الآن قد تساهم في عمل تغفيلي غير مقصود، ولكنه يساعد في عملية
تركيز الجهل بالحاضر والإغراق في الماضي، وإقرار الخروج عن مسار العمل
والفكر المعاصر، والعودة إلى عهد المِلَل والفرق الهالكة، يجعله يناقشهم وكأنهم
فرقة إسلامية انتهت منذ العصر العباسي، ولا يتعامل معهم كبشر وفكر يعمل
ويعيش معه في نفس الزمن، يناقشه ويكيد له ويحاربه ويصالحه ويخادعه في نفس
الوقت.
لا بأس من دراسة تمهيدية للاستشراق مثل دراسة محمود حمدي زقزوق
الجيدة، أو دراسة قاسم السامرائي تكون البداية منها، ثم بعد ذلك تكون المتابعة لما
يحدث الآن.
طريقة المواجهة:
وهل يمكن أن تقوم محاولة جادة لاختراق وعي الحاضر الغربي والصورة
الموجودة للإسلام والمجتمعات الإسلامية هناك؟ ، وهل يمكن أن تعطي أعمالنا
وكتبنا تصوراً عنا نحدده نحن ولا يُحَدد لنا وحسب ما نريد؟ ، على فهمنا: فليسوا
كلهم حاقدين، وليسوا كلهم صليبيين مغرضين، بل منهم من يريد الحقيقة كما أن
منهم من أسلم في الماضي، ولكن.. هل نملك القدرة أيضاً على صرف النظر عن
التفكير من خلال التهم والدفاع عن ذاتنا! بطرق مباشرة أو غير مباشرة؟ .
وإذا كان المقصود الهداية هداية مجتمعاتهم فهل بإمكاننا غزو المكتبة الغربية
بكتب جديدة مترجمة أو مؤلفة يقرؤها هؤلاء المستشرقون ويقرؤها المجتمع الغربي
عموماً؟ ، وسوف تعين هذه الكتب بالدرجة الأولى هذه الجماهير المسلمة التي
تعيش وتفكر من خلال مكتبة غربية حاقدة ومضادة، ونحن نملك بعض! المعرفة
الجيدة في الإسلام، فلم لا نحولها إلى عمل جاد في اللغات الأخرى، يحيي صورة
الإسلام الحقيقي، وينشر الوعي به، ويقلل من تيار الهجوم العنيف ضده وضد
أهله؟ ونتخلص من عقدة ماذا قالوا عنا قبل قرن أو قرنين؟ ! ولنجعلهم يسمعوا لنا الآن، ثم: ألا نقوم بدراسة جادة للفكر الغربي مباشرة بلا وسائط ونجعله مادة
دراسة؟ ، لم لا نفكر في قلب الموضوع وتغيير الاتجاه؟ ، لماذا نحن خائفون فزعون من دراسة ما عندهم وبخاصة النخبة منا؟ ، لم لا نتحدث عما لديهم عن خرافات وأكاذيب.. وإيجابيات قد تكون مفيدة؟ وبخاصة أن الإغراق في الاستشراق لا يقدم فائدة، فهؤلاء المستشرقون غالباً نكرات في بلادهم وفي ثقافتهم، ميزتهم كتابة تقارير عنا.. وماذا تصنع تجاه كاتب التقارير؟ ! ، هل تصرف جهدك لكتابة تقرير عنه، أم تنصرف لعملك وهمك؟ وإذا فهمت ماذا كتب عنك، فهذا كل الذي تريد حتى تعرف ما هو موقع قدمك في عمل دائم جاد ومؤثر ومهم. فمعرفة الاستشراق أداة وليست غاية.
إن علماء الإسلام عبر القرون درسوا التوراة والإنجيل وعقائد الفرق الأخرى، وحاجّوا علماءهم، بل أسلم بعضهم بعد نقاشات ودراسات ومجادلات أدت بأن
يؤلف بعضهم الذين أسلموا كتباً في نقد ديانة قومهم، لماذا ألجأنا الخوف والضعف
الفكري إلى الانكماش وضرب أسوار الحديد حتى على القادرين! !
دراسة الاستشراق بالطريقة الموجودة طريقة عقيمة لا فائدة منها، فنحن في
حاجة إلى متابعة جادة للجديد ومواجهته بموقف من جنسه، وهذه الدراسة غير
مسموح بها في أكثر مناطق العالم الإسلامي، فأين الدولة التي تسمح لجامعاتها
بدراسة السياسة والمجتمع الغربي، ثم بناء سياسة ذلك البلد الإسلامي مع الآخر بناءً
على معرفة علمية وسياسية صادرة عن جامعة عربية أو مركز للدراسات
المستقبلية؟ ! ، وما دام هذا الأسلوب العلمي غير مسموح به في بلاد العالم الإسلامي فقد يكون الحل هو دراسة فكر الغرب ودياناته ونقدها بلغتنا، وهذا هو الرد العملي الموازي للاستشراق؛ إن كتاب الدكتور حسن حنفي عن الاستغراب والذي هدف إلى نقل المواجهة إلى ساحتهم قد يكون مثالاً لجانب من جوانب المعرفة بالفلسفة الغربية، ولكنه لم يَخْلُ من شطحات فلسفية وتلمذة لمدارسهم، وليس عندنا إلى الآن أعمال نقدية للفكر الغربي مشابهة لما يخرج عندهم ينقد أفكارهم، أما ضياع الجهد في اتهام المستشرقين وتلاميذهم وإثبات انحرافهم وخداعهم فحسب فلا فائدة منه، إن علينا أن نتخلص من عقدة الخوف من فكرهم ومن ثقافتهم، وأن نواجه ثقافتهم بتنمية ثقافة جادة لنا، وناقدة لخصومنا، وننقل ميدان النقاش إلى هناك، ونتخلى عن عقدة النقص حين نضع دائماً ديننا وأمتنا مادة للنقاش والاتهامات، ولا يعني هذا أن نكتب هجاءً سطحياً لهم كما فعل كثير من المستشرقين تجاهنا، بل ليكن عملنا علمياً، مفيداً لنا ولهم، ومنقذاً لهم من الضلال..، وكل هذا لا يعني عدم معرفة الاستشراق، بل نريد المعرفة التي تسوق وتدفع إلى مواجهة ثقافة بثقافة وعلم بعلم.