للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات تربوية

أيش ضرَّ أبا الحسنِ انصرافي؟

أكرم عصبان الحضرمي

إنَّ هذه النصيحة الغالية، والحكمة البالغة التي أطلقها الإمام الصَيْمَري [١]

عليه رحمة الله تأسفاً على فوات كثير من العلم والاستفادة من عَلَمٍ من أعلام

الحديث، لتمثل لنا سِراجاً نستنير به في ظلمات الهجر غير المنضبط الذي خيَّم في سماء صحوتنا، والذي يمثل عقبة في طريق العلم والاستفادة.

إنَّ مَنْ تفقه في هذه العبارة، وتأملها كل التأمل، انتفع بها غاية الانتفاع؛

لأنها تعالج لنا واقعاً من الانحراف في حياتنا التعليمية ومنهجاً معوجاً في التعامل مع

اجتهاد العلماء، وأخطائهم، وتتضح لنا خطورة هذا المسلك حين تأتي الثمار السيئة

من تفويت الخير الكثير في ترك جهود العلماء المشهود لهم بالعلم الراسخ والقدَمَ

الثابت.

من أجل هذا وغيره أضحت هذه المشكلة جديرة بالوقوف أمامها وصرف

النظر إليها، إنها مشكلة الازورار عن العلم (دروساً وكتباً وأشرطة ... ) بسبب

بعض الاجتهادات والأخطاء، فما هو خبر الصَيْمَري؟

لنستمع إليه يحدثنا عن خبره.

قال الخطيب: قال لي الصَيْمَري: (سمعتُ من الدارقطني [٢] أجزاءاً من

سننه، وانقطعتُ لكونه ليَّن أبا يوسف، وليتني لم أفعل، إيش ضرَّ أبا الحسن

انصرافي؟) [٣] .

تشخيص الظاهرة:

إنه يشخِّص الظاهرةَ (الانقطاع عن دروس الدارقطني) ولقد انتشرت هذه

الظاهرة في عصرنا وفشت، فكم من مجالسَ للعلماء تُهجَرُ، وكم من كتب تحرق،

وكم من أشرطة ترمى! بل وصل الأمر ذروته وبلغ السيل الزبى حين يُهْجَرُ مَنْ لَمْ

يَهْجُرْ تلك الأمور، وهذه لعمري قاصمةُ الظهر، فلم يقطعوا دروسَ الدارقطني

فحسبْ، بل قطعوا من لم ينقطع من دروسه، وهذه من فرائِد عصرِنا وهذا مخالف

لميزان الإنصاف: [قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا

لظالمون] [يوسف: ٧٩] .

أسباب الظاهرة:

إن سبب الانقطاع (لكونه ليَّن أبا يوسف) [٤] صاحب أبي حنيفة وأحد أئمة

الأحناف وأركان المذهب، فالصَيْمَري لم يتحملْ كلام الدارقطني فيه فترك مجلسه؛

وهذا نَعدُّه تعصباً منه رحمه الله وانتصاراً لإمامه.

داء التعصب:

فالتعصب إذن مَزَلةُ أقدام، ومَظنّة أفهام، وآفة من آفات العلم، (وهو انتحالُ

مجموعةٍ من الناسِ مذهباً أو انتخابُ آراء بحيثُ لا يبغون عنها حولاً ولا يريدون

بها بدلاً) .

إن الدارقطني أدَّاه اجتهادُه وهو إمامُ الحديث ورجاله إلى تليين أبي يوسف؛

فعلامَ يُترك الأخذ عن مجتهدٍ قد يكون رأيه هو الحق، ومذهبُه هو الصواب؟ ولكنه

التعصب الذي يَحْرِم صاحبَه التعلم! قال حُسَيْنَكُ بنُ علي: أول ما سألني ابنُ

خزيمة فقال: كتبت عن محمد بن جعفر الطبري؟ قلت: لا. قال: ولِمَ؟ قلت:

لأنه كان لا يَظْهرُ وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه [٥] . قال: (بئسَ ما

فعلت. ليتَكَ لم تكتبْ عن كلِّ ما كتبتَ عنهم، وسمعتَ من أبي جعفر) [٦] .

فالواجب على طالب العلم ألا يتحيَّزَ لمذهبٍ معينٍ، ولا لآراء خاصة، وإنَّما

ينتخب من الأقوال ما وافق الحق، ويجتنبُ ما خالفه.

التسرع في الحكم وعدم التثبت:

وتزداد الزاوية انفراجاً عند ترك التثبت، والتسرع في الحكم؛ فإن اجتهاد

الدارقطني يُنظرُ إليه، فقد سبقه إلى ذلك نفرٌ من علماءِ الجرح والتعديل منهم شيخ

المحدثين البخاري فقبلَ هجره يُتبَيَّنُ قوله، كما قال الحسنُ البصري رحمه الله:

(المؤمنُ وقَّاف حتى يتبين) [٧] .

فإن أصاب فنعمَّا هو، وإن أخطأ فالكمال عزيز، وإنما يمدحُ العالمُ بكثرة ما

له من الفضائل؛ فلا تدفنُ المحاسنُ لورطة ربما رجع عنها وقد يَغْفِرُ الله له

باستفراغه الوُسعَ في طلب الحق فيه، ولمن ثبت عنده ذلك الخطأ أن يجادل بالتي

هي أحسن، ويرشده إلى الحق مع حفظ الأخوة، وبقاء الاستفادة؛ فكم من علمٍ فاتَ

بسبب التسرع وعدم التثبت.

قال قيسُ بن الربيع: (قدم علينا قتادة الكوفة فأردنا أن نأتيه فقيل: إنه

يُبغِض علياً، ثم قيل: إنه أبعدُ الناس من هذا؛ فأخذْنا عن رجل عنه) [٨] .

كم فاتهم من الخير، وأي خسارة خسروا حين نزل سندهم فأخذوا العلم نازلاً

بعد إمكان أخذه عالياً، وانظر إلى السند والإحالة تجدها عن مجهول (قيل: إنه

يبغض علياً) . وقيل: (إنه أبعد من هذا) ، فأين تعاليم القرآن؟ [يا أيُّها الذين

آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأٍ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم

نادمين] [الحجرات: ٦] .

التعصب وسوء الظن:

وتزداد زاوية الانفراج للتعصب أكثر حين يُولِّدُ ظنوناً سيئةً ألا (وإن الظن

أكذب الحديث) [٩] ويؤدي إلى تتبع العثرات، وترصُّد الزلات، ويبدأ الخلاف في

فرعية صغيرة فيرقى إلى الاتهام في أصول الإسلام وقواعد الديانة. قال

الذهبي: (قرأت بخط الموفَّقِ قال: سمعنا درسه أي ابن عُصْرُون مع أخي أبي عمر وانقطعنا. فسمعت أخي يقول: دخلت عليه بعدُ، فقال: لِمَ انقطعتم عني؟ قلت: إن ناساً يقولون: إنك أشعري. فقال: (والله ما أنا بأشعري) [١٠] هذا معنى الحكاية.

وهذه الصورة من التعصب تظهر في عصرنا في أكمل مبانيها، وفي أوضح

معانيها؛ فمن تكلم بنصوصٍ في الحاكمية من وجوب الحكم بما أنزل الله، والتحذير

من القوانين الوضعية، والأحكام الدولية، يُهْجَرُ أولاً ويعدُّ خارجياً ثانياً، كما أن

مَن لم يرَ إقحامَ الأمةِ في ظلماتِ الخروج غير المنضبط بالضوابط الشرعية يعد

مُرْجئاً جَهْمياً.

إن الظنَّ السيئَ، والاتهام بالبدعة، والتسرع في ذلك، رُوِّع بها شيوخ [١١]

وظلم بها علماء وهُجِرَ بها دعاةٌ لا يرون مسوِّغات ذلك، كما قال الأول: (وأرى

العداوة لا أرى أسبابها) وكل ذلك بسبب أسانيد منقطعة (يقولون) ويرد ابن عصرون

هذه الفرية مؤكداً كلامه بالقسم: (والله ما أنا بأشعري) ، وكان حاله كحال

القائل [١٢] :

ولكني ظلمت فكدت أبكي ... من الظلم المبيَّن أو بكيت

الكذب وكيد الشيطان:

انظر كيف يُكذَبُ على العلماءِ بسندٍ مبهمٍ لا يُعرفُ قائله أجنيٌ أم إنسي؟ ومن

يدري؟ لعل الشيطان هو الذي نقله! وما ذلك ببعيد، فقد قال أبو عمر ابن عبد

البر: (روينا أن جارية لصفية أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحبُّ السبت وتصل اليهود، فبعث عمر يسألها فقالت: أما السبت فلم أحبه منذ أن أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً، فأنا أصلها، ثم قالت: يا جارية ما

حملك على ما صنعتِ؟ قالت: الشيطان. قالت: فاذهبي فأنت حرة) [١٣] .

ولكن إنْ مَرَّ كيدُ الشيطان على بعض العلماء فإنه لا يمرُّ على عمر رضي الله

عنه الذي كان الشيطان يَفْرَقُ منه. وهكذا نجدُ أن الشيطان قد نَصَب أحابيله وأقامَ

شِراكه ودبَّر مكائده حتى يصطاد العلماء وطلبة العلم فيها. فلا يُغْفَلُ عملهُ؛ إنه

دورُ: (ولكن بالتحريش بينهم) [١٤] .

مراعاة التخصصص:

والحاصل أن الدارقطني رحمه الله حين تكلم فيما تكلم لم يجاوز فنه، ولم يتعد

تخصصه، فقد كان إمام الجرحِ والتعديل، والحديث عن الرجال، فلا يعنَّفُ ولا

يُهْجَر. فإذا كان المخطئ في غير فنِّه يُرْفَقُ به، ويردُّ إلى الصواب فمن باب أوْلى

المتخصص. ومن هنا ردَّ العلماءُ على ابنِ طاهر حين قال: (وأقبحُ ما رأيتُ في

قولِ إمام الحرمين [١٥] في كتاب أصول الفقه: والعمدة في هذا الباب على حديث

معاذ) قال: (وهذه زلةٌ منه ولو كان عالماً بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة) .

قال الحافظ: (قلت: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبِّر

بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشدُّ مما نقله عنه، فإنه قال:

(والحديث مدون في الصحاح متفق على صحته لا يتطرق إليه التأويل) [١٦] .

فهذا في مَنْ لم يبلغ المرتبة العالية في هذا الفن (أما من بلغَ مرتبة الرسوخِ

والإفادةِ، وكان على جانب عظيم من العلم كالدارقطني، وانتحل مما انتحل عن

اجتهادٍ ونظرٍ فلا يُرتابُ في العناية بالأخذ عنه والتلقي منه) .

ثمرة فعل الصيمري:

لقد نعتَ ابنُ كثير الإمامَ الصَيْمَري بأنَّه كان عارفاً بحقوقِ العلماءِ، ومن حقِ

الدارقطني عليه أن لا يقطعه بل ينْصَحه ولذلك قال: ليتني لم أفعلْ! [١٧] . إنه لم

يَزدْ على تركِ مجلسه، فلم يتكلم فيه بل حفظ لسانه. وتُعَدُّ هذه في عصرنا منقبة

للهَاجِرِ ليقابل من يعنِّف على مخالفه ويفسِّقه ويبدِّعه، وأين هذا المسلك الذي سلكه

الصَيْمَري من مسلك زاهد الكوثري الحنفي الذي آذى العلماء الذين تكلموا في أبي

يوسف أمثال البخاري، والخطيب والعقيلي ونبز الأخير بأنه حشوي [١٨] . فهذا

يعتبر عقوقاً من الخَلَفِ بتركِ مسلك السلف!

ثم قال: (إيشٍ ضرَّ أبا الحسن انصرافي؟) لم يضرَّه شيئاً بل بقي إمامَ

عصره. إن انجفال طلبة العلم عن علماء السُّنَّة والدعاة إليها بسبب اجتهاد أو خطأ

يفوِّتُ عليهم وا أسفا علماً جماً، وخيراً كثيراً [ومّا يٍضٌلٍَونّ إلاَّ أّنفٍسّهٍم مّا

يّشًعٍرٍونّ] [آل عمران: ٦٩] . ولا يَبْعُدُ أن يكونَ ذلك عقوبةَ الظلم، وترك

الإنصاف؛ وما ضرَّهم لو صححوا الخطأ واعتذروا له؟ ورحم الله ابن

الوردي [١٩] حين قال:

والناسُ لم يصنِّفوا في العلمِ ... ما صنَّفوا إلا رجاءَ الأجرِ

لكنْ قديتُ جَسداً بلا حسدْ ... واللهُ عندَ قولِ كلِّ قائلِ

لكيْ يَصْيروا هَدَفاً للذمِّ ... والدَعَواتِ وجَميلِ الذكرِ

ولا يُضيعُ الله حقاً لأحدْ ... وذو الحجَا في نفسِه في شاغلِ

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...


(١) أبو عبد الله الحسين بن علي الصيمري، أحد أئمة الحنفية كان صدوقاً وافر العقل عارفاً بحقوق العلماء البداية والنهاية، ١٢/٥٧، السير، ١٧/٦١٥.
(٢) أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني صاحب السنن الحافظ المجوِّد، كان من بحور العلم وأحد أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، البداية والنهاية، ١١/٣٠٧، السير ١٦/٤٤٩.
(٣) سير أعلام النبلاء، ١٧/٦١٦.
(٤) أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة الإمام المجتهد، لم يختلف يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني في ثقته في النقل.
(٥) وقع بين محمد بن جرير وأبي بكر أمور وكانت الحنابلة حزب ابن أبي بكر فكثروا وشغبوا عليه السير، ١٤/٢٧٧، وقد صدق ابن عقيل حيث يقول: (رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز ولا أقول العوام بل العلماء، كانت أيدي الحنابلة مبسوطة، في أيام ابن يونس فكانوا يستطيلون على أصحاب الشافعي فلما جاءت أيام النظَّام استطال عليهم أصحاب الشافعي فتدبرت أمر الفريقين فإذا بهم لم تعمل فيهم آداب العلم) ، شرح الإقناع، ١٣٠٩.
(٦) سير أعلام النبلاء، ١٤/٢٦٢، طبقات السبكي، ٢/١٣٧.
(٧) الفتاوى لشيخ الإسلام، ١٠/٣٨٢.
(٨) سير أعلام النبلاء، ٥/٢٧٢.
(٩) جزء من حديث صحيح عند البخاري من حديث أبي هريرة.
(١٠) وقد تعقب السبكي الأشعري تلميذ الذهبي على شيخه هذه القصة بما لا طائل تحته؛ وهذا يعد تعصباً أيضاً وجرأة على شيخه انظر طبقات السبكي، ترجمة ابن عصرون، وحاشية السير، ٢١/١٢٩، سير أعلام النبلاء، ٢١/١٢٩.
(١١) ومن الصور المبكية أن الكيا الهراسي أشيع أنه باطني إسماعيلي فنمت له فتنة هائلة هو بريء منها، ولكن وقع الاشتباه على الناقل، فإن ابن الصباح باطني إسماعيلي كان يلقب الكيا ثم ظهر الأمر وفرجت الكربة، الطبقات الكبرى.
(١٢) سنان بن الفحل الطائي.
(١٣) السير، ٢/٢٣١.
(١٤) رواه مسلم، ح/٥٠٣٠.
(١٥) قال الذهبي: كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به لا متناً ولا سنداً ذكر في كتاب البرهان حديث معاذ في القياس فقال: هو مدون في الصحاح متفق على صحته، السير ١٨/٤٧١.
(١٦) السلسلة الضعيفة، ٢/٢٨.
(١٧) يقول تعالى: [ولا تنسوا الفضل بينكم} ] [البقرة: ٢٣٧] .
(١٨) حاشية مناقب أبي حنيفة وصاحبيه، ص ٧٢.
(١٩) ويقول الحريري: وإن تجد عيباً فسدَّ الخللا جلَّ الذي لا عيبَ فيه، وعلا.