للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

التنصير.. هل أصاب الهدف؟

(٢ - ٢)

[الإسلام والنصرانية نظرة استراتيجية]

د. محمد يحيى

عندما جاء الإسلام فإنه لم يهدم المسيحية ويناقضها وينقض كل ما جاءت به؛

لكنه لم يأت ليكملها أو ليؤكد على أوضاعها العقائدية الموجودة عندئذ، بل أتى

ليصحح تلك العقائد تصحيحاً جوهرياً حاسماً، ويلفت النظر إلى تحريف كتابها

المقدس في عمل لم يقتنع به أصحابها إلا في العصر الحديث وفي السنوات الأخيرة

على يد فصيل من دارسيهم شككوا في تلك العقائد وفي ذلك الكتاب. ومن هنا كانت

علاقة الإسلام بالنصرانية علاقة مركبة لا تنكر وجود عيسى عليه السلام ولا عذرية

والدته ولا معجزاته أو المعجزات التي أجراها الله له، ولا تعاليم ولا قيماً، ولكنها

تنكر تأليهه والغلو في تقديسه، وتنكر ما تسرب إلى ذلك الدين من عقائد وثنية

مشركة واضحة ومعها مذاهب فلسفية غامضة.

فالعلاقة المركبة هذه تحتمل اللقاء والصراع وأحدهما أو كلاهما، وتاريخ

العلاقة معروف، وإن كتب في معظمه في العصر الحديث من جانب من يتعاطفون

مع النصرانية أو يكرهون الإسلام.

كان الصدام أو الالتقاء الأول في الجزيرة العربية نفسها وإن لم يكن صداماً

بالمعنى المعروف، ثم تطور إلى الفتوحات الإسلامية في مواجهة الدولة البيزنطية

المسيحية في الشرق، وبعدها في مواجهة دويلات غربية نصرانية الطابع في

الأندلس وسائر أسبانيا وجنوب فرنسا وإيطاليا. ومن الجانب الآخر أتت الحروب

الصليبية التي ما زال بعض الناس وحتى ممن يحملون أسماءاً إسلامية يجتهدون في

نفي طابعها الديني الواضح عداءاً للإسلام وكراهية له. وبعد زوال الهجمة التي

كادت أن تمس قلب العالم الإسلامي نفسه جاءت الفتوح الإسلامية لشرق أوروبا

وجنوبها وحتى وسطها على يد الدولة العثمانية؛ ولكنها سرعان ما أخلت الطريق

منذ القرن السابع عشر الميلادي وحتى الآن للهجمة الصليبية الكبرى والثانية التي

تسمَّت باسم الحركة الاستعمارية استيطانية وإمبريالية، ثم بالاستعمار الجديد، ثم

بهيمنة العصر الأوروبي الأمريكي وسيطرة الغرب والنظام العالمي الجديد (والقديم)

وأخيراً العولمة.

وفي هذه الهجمة العاتية لم يكن السلاح العسكري وحده هو المستخدم، بل

اكتملت بأسلحة الفكر والمذاهب والعقائد والفلسفات المختلفة، وبعضها يعلن أنه

علماني لا ديني، وإن وجدت له جذور قوية في الفكر اليهودي النصراني مع جذور

في الأفكار والفلسفات الوثنية، وما زال العالم الإسلامي يجاهد ضد تلك الهجمة

الكبرى التي تتراوح أجنحتها من حركات التبشير الصارخ والجارف إلى اجتياح

شامل من جانب الأفكار العلمانية وبينهما السيطرة السياسية والاقتصادية وغسيل

المخ الإعلامي والطوفان اللاأخلاقي الإباحي.

وبصرف النظر عن تجربة التاريخ والعِبَر التي يمكن أن تستخلص منها؛ فإن

الصورة الراهنة تعكس في النظرة الأولى مزيجاً غريباً من التطورات قد يتصوره

بعضٌ تطوراً حاداً وتصعيداً لذلك المحتوى من اللقاء والصراع الذي قد يكون كامناً

في العلاقة الجوهرية بين الإسلام والمسيحية؛ فمن ناحية تعلو أصوات معظمها من

الجانب الكنسي النصراني وتجد استجابة من الجانب الإسلامي الرسمي الموجه

علمانياً تدعو للحوار والتعاون والتقارب في صيغ وأشكال وكيفيات غامضة مبهمة

المعالم. ومن الناحية الأخرى تعلو أصوات الصراع وأيضاً في جله من الجانب

النصراني كما تُشهَد أحداث متتالية من العنف الموسوم بالطائفي في قطاع جغرافي

عريض يمتد في إندونيسيا وحتى مصر، ومن الوسط الآسيوي والشرق الأوروبي

حتى الوسط والشرق والغرب الإفريقي ماراً بالشرق الأوسط. بل ومن البلد الغربي

الواحد نجد الاتجاهين نفسيهما متوافقين؛ فالسلطة ومعها الكنيسة تحذر من الإرهاب

والتطرف الإسلامي المزعوم وتدعو إلى محاربته، والكنيسة ومعها السلطة ترفع

لواء الحوار والتقارب والتعاون. لكن هذا المزيج السطحي من الكلام الإعلامي

المعسول والاشتباك الطائفي أو الديني الدامي المثقل يخفي وراءه تطورات

واتجاهات كبرى في علاقة وأوضاع الإسلام والنصرانية قلما يلتفت إليها الانتباه لا

سيما وهي على المستوى الاستراتيجي.

إن النصرانية في مجملها من شرقية أرثوذكسية وغربية كاثوليكية بروتستانتية

وعلى تنوع المذاهب والكنائس داخل هذين الجناحين الكبيرين تمر الآن بتطورات

وتحركات كبرى تغيب غالباً بل تأكيداً عن أذهان من يفتنون بدعوات الحوار البراقة

أو من يصبون جل اهتمامهم على الحوادث الطائفية. ومجمل هذه التطورات هو

نهضة كبرى أو بالأصح قوة متنامية للكنائس بأنواعها لا تصاحبها نهضة دينية

بمعنى تنامي الإيمان والعقيدة والالتزام لدى شعوب تلك البلدان، وهذه مفارقة كبرى

أخرى؛ فالكنائس الغربية مثلاً تكسب الاتباع المسجلين في البلاد التي تمارس

التنصير فيها لكنها تخسر شعوب بلادها نفسها، وهي تزداد قوة ونفوذاً أو تأثيراً أو

حضوراً في تلك البلاد المعرضة للتنصير لكنها تفقد قوتها لدى دوائر الفكر في

بلادها نفسها وإن أخذ هذا الاتجاه يضعف تدريجياً مع الضعف العام الذي اعترى

الفكر العلماني ولا سيما في روافده الفلسفية ومبادئه العامة، وبالمثل نجد أن الكنائس

الأرثوذكسية الكبرى في روسيا وشرق أوروبا تصعد بعد سقوط الشيوعية ودولها

إلى مرتبة القوة والسلطة وتحرك الأحداث والسياسات في تلك البلاد باتجاه التعصب

الديني القومي (وقد توحد الدين مع القومية في تلك البلاد في هدم واضح وصارخ

لأهم مبادئ الفكر العلماني ولكن تلك قصة أخرى) ضد الإسلام والمسلمين من

مواطنيهم في وسط آسيا وشرق وجنوب أوروبا، وليست أحداث البوسنة وكوسوفا

وبلغاريا واليونان والقوقاز والأبخاز وأذربيجان والشيشان ببعيدة، وهي

موصولة بالقمع العلماني الممارس ضد الإسلام بجوارها في تركيا وحتى تركمانستان

وغرب الصين مروراً بالطاجيكستان والأوزبكستان، ومعها تنهض الكنائس

الأرثوذكسية في مصر وإثيوبيا وإرتيريا، وتناهض الحكومات، وتفتعل

الصدامات، وتصل إلى مستوى من القوة والنفوذ لم يعهد من قبل. ولكن تبقى تلك

القوة غير مصحوبة بنهضة روحية إيمانية مماثلة على المستوى العقيدي، بل

تشعلها روح من التعصب الديني قومي وسياسي الطابع أكثر من كونه وليد الإيمان

الديني الروحي.

ويبدو هذا التطور الاستراتيجي معكوساً على الجانب الإسلامي؛ حيث

الصحوة الإيمانية الإسلامية العارمة في وجه عقود من الكبت والقمع العلماني

والتغريبي لا تصل أو لا يسمح لها أن تصل إلى مستوى الفعل الاجتماعي السياسي،

ولا نقول النفوذ والتأثير على توجه المجتمعات والدول. والحركات الإسلامية

وهي لا ترقى في تنظيمها وقواعدها المادية والبشرية إلى مستوى الكنائس بأي حال

تتعرض للضرب والقمع والاضطهاد بينما تلاحق مصادر الصحوة الفكرية

وشخصياتها ونشاطاتها في إطار مجموعة السياسات التي أصبحت تعرف باسم

استراتيجية تجفيف المنابع.

وهذا الانعكاس في التطور العام لدى كل من المسيحية والإسلام يولد وضعاً

غريباً؛ فالإسلام القوي الناهض بإيمانه وروحه والتزام جماهيره يبدو ضعيفاً إزاء

تحكم نخب وأقليات علمانية سياسية وفكرية في مقاليد الأمور في معظم أو أهم بلاد

الإسلام؛ بينما المسيحية بأجنحتها وهي ضعيفة في جانب الالتزام الجماهيري

والإيمان الشعبي في بلادها تبدو قوية للغاية، بل وجارفة من ناحية وصولها

والتصاقها بالقوى والقوة السياسية والإعلامية بل والاقتصادية داخل بلادها وخارجها

وفي إطار هذا الوضع المعكوس أو المتناقض تجري عملية التنصير الكبرى، بل

إننا نستطيع أن نفهم عملية التنصير الكبرى التي تقوم بها الكنائس الغربية بالأساس

(ويقابلها عند الجانب الأرثوذكسي النصراني الشرقي عملية الحرب المعلنة ضد

الإسلام والمسلمين بالسلاح) في ذلك الإطار بالتحديد. فهذه العملية الموجهة بشكل

متزايد إلى المسلمين هي تعبير وانعكاس عن القوة المتزايدة للكنائس ومعها تزايد

العدوانية والشراسة والرغبات التوسعية وهي كذلك محاولة واسعة للتعويض

والتغطية في وجه الضعف والخواء العقيدي الداخلي. وهي بالطبع كذلك طليعة

وأداة حركة التوسع والهيمنة الغربية الأوروبية الجامحة في ظل النظام العالمي

الجديد والعولمة بعد أن أخذت هذه الحركة أو ذلك النظام طابع الهوية المسيحية

اليهودية عنواناً وشعاراً لها في ظل عودة جارفة إلى الأصول والجذور الفكرية ولَّدها

إخفاق الفكر العلماني وأفوله في ينابيعه الفلسفية، وإن لم يكن ذلك في مظاهره

وتجلياته الثقافية المختلفة.

وحركة التنصير الكبرى في هذا التصور أو لنسمِّها حركة التوسع العدواني

والهجوم الذي يتخذ شكل التبشير عند بعض منهم، وشكل الصدام والعدوان

العسكري عند بعض آخر، وما بينهما من أشكال الغزو والتغلغل والتشكيل الثقافي

والإعلامي تعد المظهر الرئيس إن لم يكن الوحيد لتوجه المسيحية نحو الإسلام في

هذه الفترة وفي المستقبل المنظور. وهي توجه استراتيجي كما يعلنون بصراحة،

وهي كذلك حتى ولو لم يعلنوا؛ لأنها كما قلنا أو تصورنا تعبير وانعكاس بين

توجهات وتطورات عامة في قلب النصرانية العامة فوق أنها ترجمة دقيقة لاحتياج

مجتمعاتهم إلى هوية وقومية ورؤية جديدة تعوض إخفاق العلمانية بمذاهبها، وفوق

أنها صدى أو تعبير عن موقف العداء والرفض ثم الصراع مع الإسلام الذي تبنته

النصرانية تاريخياً.

وفي إطار هذا التوجه الاستراتيجي أو الهيكلي إن جاز استخدام ذلك المصطلح

الشائع من لغة الاقتصاد للنصرانية ينبغي النظر لمسألتي الحوار المزعوم

والاشتباكات الحادة وهما الملمحان الأظهر حقيقةً الآن على سطح العلاقة باعتبارهما

مندرجين في ذلك التوجه ونابعين منه؛ فالاشتباكات المتكررة هنا وهناك تعبير عن

حدة العداء وتحرك دوافع الكراهة واستباق للغزو الفعلي في حالات كما حدث في

تيمور الشرقية مثلاً مؤخراً. وهذه الاشتباكات هي مظاهر خارجية ساخنة وقد تكون

منفلتة للحركة التوسعية النصرانية التي نرمز لها عادة باسم التنصير. أما دعوات

الحوار المتكررة والتي تفرض بالقوة على بعض المؤسسات الإسلامية والشخصيات

ذات الطابع الرسمي والواقعة تحت سيطرة النخب العلمانية في بلادها فهي مفهومة

على أساس أنها خداع استراتيجي كما يقال في لغة العسكرية، أو استكشاف لأبعاد

وأعماق ونوايا وحجم ونوع «العدو» الإسلامي، أو محاولة للفت الأنظار بعيداً

عن التطورات الحقيقية والنوايا المضمرة، أو شل لأيدي المسلمين عن التحرك

الفعلي باتجاه مواجهة الحركة التنصيرية والهجمة الغربية العامة وشغلهم بأمور تافهة

وغامضة المعنى، وبالطبع فإن لعبة شعارات الحوار والتقارب وما أشبهها تروج لها

النخب العلمانية صاحبة النفوذ؛ لأنها في نهاية المطاف عميلة للغرب أو متواطئة

معه، ويهمها أن تقدم الإسلام على هيئة «قربان» لهذه العلاقة حتى تزداد حظوتها

لدى الأسياد الغربيين بقدر خدماتهم بتطويع الإسلام وتدجينه ثم ضربه ليتسع المجال

أمام الزحف الغربي.

وهكذا فإن الظواهر التي تطفو الآن على سطح العلاقة العامة بين الإسلام

والنصرانية والتي يظن أنها عابرة أو شاذة (في حالة الاشتباكات الطائفية الدامية

داخل بلاد المسلمين أو على خطوط التماس) أو يظن أنها تعبير عن عصر جديد

من السلام الأبدي والتعاون والتقارب الأزلي (كما في حالة دعوات الحوار) هي

في جوهرها وحقيقتها مجرد تعبير وترجمة لتوجه استراتيجي عام أصبح مسيطراً

في هذه الفترة على المسيحية عموماً بشكل أصيل، ويقابله كما قلنا توجه مضاد أو

انعكاس في الإسلام نحو الانكماش والتراجع والمواقع الدفاعية، وعدم نشر الدعوة

تحت وطأة الهجمات والدعاوى العلمانية المختلفة، ويتزعمه مسلمون ينتسب بعضهم

لمؤسسات إسلامية (للأسف) تدخل في عملية الحوار مع النصرانية الغربية بالذات

التي تستخدم الحوار ستاراً تمويهياً لحركة التوسع التنصيري؛ فهل لهذا التعقد

المتشابك والتوجهات الاستراتيجية المتضاربة والمختلفة جذرياً من يفهمه ويفكر

ويعمل على ضبطه لصالح الإسلام؟ هذا هو السؤال الذي يحكم المرحلة، وهو

سؤال أبعد بعض الناس على الجانب الإسلامي نفسه من الإجابة عليه بوقوعهم في

دائرة تكتيكات الحوار والتراجع التي فرضها الغرب أو النصرانية على الإسلام.


التنصير في باكستان:
سنة ١٩٩٢م كان خصبة جدًا للمنصرين في كراتشي؛ فقد تضاعف عدد
المتنصرين خلال هذه السنة، ففي شهر ديسمبر ١٩٩٢م وحده اعتنق أكثر من ٥٠
مسلمًا النصرانية في مدينة كراتشي، بينما عدد المتنصرين في المدينة خلال سنة
١٩٩٢نحو ٦٠٠ شخص، ومن أسباب هذه الزيادة أن الجهود التبشيرية بدأت تؤتي
الآن ثمارها بعد جهد طويل. إلا أن غالبية المتنصرين كانوا من الشيعة
والإسماعيلية، ولكن هناك نسبة لا بأس بها من أهل السنة الذين تنصروا
لأسباب مختلفة.
يقول أحد الأساقفة: حينما أذهب إلى باكستان لأدعو إلى المسيحية في
إرجائها بكل حرية لا يصيبني أذى من الحكومة أو الشعب.
[عن مجلة الإصلاح: العدد ٣٧٣]
- البيان -