للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[الحق والباطل]

لا يستطيع كاتب يكتب في شأن من شؤون المسلمين أن يتجاوز المحنة التي

يعاني منها المسلمون في البوسنة والهرسك، هذه المحنة التي أقضت مضاجع

المخلصين الذين يتحرقون ألماً لما يجري هناك، فبذلوا ما في وسعهم من العون

المادي والمعنوي، ولكن أنىّ لهذه الجهود المتواضعة أن ترد عادية الصرب

الصليبيين، أو ترد مكر الغربيين الذين سكتوا عن الجرائم المروعة التي تمارس

ليل نهار على مسلمي البوسنة، وهم يرونها في وسائل إعلامهم، ولكن بما أن

الضحايا مسلمون فالخطب يسير!

تفتحت عبقرية الصرب العنصرية، وظهر الحقد الدفين المتراكم منذ أن

انتصر العثمانيون عليهم في معركة «كوسوفو» وحكموا هذه البلاد. وظهرت

أوربا على حقيقتها في تعاملها مع المسائل التي تمس المسلمين، وهي السياسة نفسها

التي كانت تسلكها مع ما يسمى بـ (المسألة الشرقية) وعادت المسألة الدينية واضحة

جلية عند اليونان والرومان والروس الذين يساعدون الصرب سراً وعلناً، بالأسلحة

وغير الأسلحة، وما ذلك إلا لاتحادهم في المذهب الأرثوذكسي. وتفتحت شهية

الغرب على إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي وبمزيد من التفتيت، ولم يكفهم ما

فعلوه بعد الحربين العالميتين من تقسيم وتقطيع، وسيكون التفتيت في هذه الأيام

على أساس العرق أو التعصب الطائفي، فكانت فكرة المحميات في العراق،

ويتكلمون الآن عن جنوب السودان، ووضعت الصومال تحت حماية الأمم المتحدة، والمخطط ينفذ وليس من قوة تعترضه، والغرب الذي يشجع هذه العصبيات

يسعى هو إلى الوحدة بشتى صورها وأشكالها.

أنىّ للمسلمين في هذه الأيام مقاومة هذا التوحش الصربي وهذا المكر الأوربي

وهم مقهورون في ديارهم وأوطانهم، يعانون الخسف والهوان من أبناء جلدتهم

وممن يتكلمون بلغتهم، وهل يستطيع المسلم في تونس أو الجزائر تقديم العون

لأخيه في البوسنة وهو يعاني ما يعاني من ظلم تندك له الجبال، والإخوة في

أفغانستان لم يستقر لهم قرار، ودخل بعضهم في دهاليز السياسة والحسابات الدنيوية

والتحالفات المشبوهة مع (البرشميين) و (الخلقيين) و (الباطنية وفروخهم

الإسماعيليين) . ونخشى إذا استمر بهم هذا الحال من التفرق أن يذهب الأمر من

أيديهم - لا سمح الله-.

هذه الأوضاع المؤلمة التي تمنع المسلمين من مساعدة إخوان لهم في البوسنة

تفرض علينا سؤالاً ملحاً - وإن لم يكن جديداً -: إذا كان المسلمون على الحق

وغيرهم على الباطل، فما الذي دهاهم وأوصلهم إلى هذه الحال، حتى أصبحوا

طعمة لكل طامع ونهبة لكل ناهب، تتناوشهم المصائب من كل مكان، وتتعاورهم

المشاكل من كل جانب، هل فعلوا كل الأسباب الواجبة شرعاً ولكنهم لم يوفقوا؛ أم

أنهم مقصرون بل ومستهترون في الأخذ بهذه الأسباب، ولذلك لم تأت النتائج

المطلوبة؟ ! إن من سنن الله في الخلق أن للباطل جولة وللحق جولات، ولا يسلط

الله أعداءه على أوليائه [ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء:

١٤١] ، وإذا تصارع الحق والباطل فالغلبة للأول قال تعالى: [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ

الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]

[الرعد: ١٧] ، وقال أيضاً: [أَمْ نَجْعَلُ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ

فِي الأَرْضِ] [ص: ٢٨] ، وقال: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ

زَاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] [الأنبياء: ١٨] .

إن تسلط أوربا على العالم الإسلامي هذه الفترة الطويلة دليل على أن هذه

الأمة لم تأخذ بأسباب القوة والعزة والاستقلال، وقد أكثر القرآن الكريم من الحديث

عن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول في الذين يظلمون وفي الذين يعدلون، وأن

العاقبة للتقوى، ولا يوجد كتاب في الدنيا تكلم عن السنن الاجتماعية مثلما تكلم

القرآن، ومع ذلك تجد المسلمين أقل الناس أخذاً بهذه السنن، بل وربما وصل الأمر

ببعضهم أنه إذا تكلم بهذا الموضوع وحاول إبرازه رُمي بالبعد عن الدين، وأنه

يتكلم في أشياء ليست من الإسلام أو أنه يقلد أفكار الآخرين.

هكذا وصل بنا الحال إلى أننا لا نستفيد من حكمة القرآن وإرشاده في صراعنا

مع الأمم الكافرة وفي تنظيم حياتنا الاجتماعية، ونفهم آيات البعد عن الدنيا فهماً

خاطئاً أخذناه عن الزهد الأعجمي الذي دخل علينا مبكراً فكان له الأثر السيئ في

عدم إذكاء جذوة الصراع مع الباطل، وأنه لابد من الاستعداد الدائم والتمكن في

الأرض حتى لا يروج سوق الباطل ويفسد في الأرض.

إن أحق من يفقه هذه السنة الربانية ويأخذ بها هم الدعاة والعلماء، الذين

يصعب الآن جمعهم على مائدة الحوار والتعاون أمام الباطل المنتفش [فَلَوْلا كَانَ

مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا

مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ] [هود: ١١٦] .