للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

أفغانستان بعد الحكومة المؤقتة

خلفيات ونتائج

كمال حبيب

بعد محادثات استمرت ثمانية أيام في بون بألمانيا وقعت أربع فصائل أفغانية

اتفاقية تشكيل الإدارة المؤقتة الجديدة التي ستتولى مهام حكم أفغانستان لفترة انتقالية

هي مدة ستة أشهر تبدأ اعتباراً من ٢٢ ديسمبر الماضي.

حضر توقيع اتفاق تشكيل الحكومة الجديدة رئيس الحكومة الألمانية «

جيرهارد شرودر» ووزير خارجيته «يوشكا فيشر» .. وقد تم الاتفاق من الناحية

الشكلية تحت رعاية الأمم المتحدة بغرض «إعادة بناء النظام السياسي في

أفغانستان بعد مرحلة طالبان» .. وذلك لملء الفراغ السياسي والأمني الكبير الذي

تركه انسحاب جيش طالبان من المدن الأفغانية أمام القصف الأمريكي الوحشي ثم

التحصن بالجبال استعداداً لشن حرب عصابات تعتمد الكر والفر لمواجهة الاحتلال

الأمريكي والغربي لأفغانستان.

الإدارة المؤقتة الجديدة تضم ٢٩ عضواً يمثلهم رئيس الوزراء «الإدارة»

وخمسة نواب له و٢٣ وزيراً ونائباً للوزراء.. ويترأس الإدارة الجديدة «حامد

كرزاي» وهو زعيم قبيلة أفغانية تتمركز في جنوب أفغانستان اسمها «بوبوك

أي» ويجيد الإنجليزية بطلاقة، وسارع مدفوعاً للعودة إلى البلاد باستدعاء أمريكي

مع بدء القصف الأمريكي الهمجي لأفغانستان يوم ١٦ أكتوبر الماضي. وسوف

نلاحظ أن كثيراً من أعضاء الإدارة الأفغانية الجديدة قد عادوا إليها بعد بدء

القصف الأمريكي لبلادهم. أي أنهم عادوا إلى أفغانستان تحت حماية القصف

الوحشي الأمريكي لمواطنيهم البسطاء والضعفاء والذي لم يتوقف حتى الآن رغم

أن المدة التي تعرضت فيها أفغانستان لهذا القصف زادت على ثلاثة أشهر

كاملة.

كرزاي الجديد كان مساعداً سابقاً لوزير خارجية حكومة المجاهدين أوائل

التسعينيات؛ لكنه غادر أفغانستان بعد وصول طالبان إلى السلطة عام ١٩٩٦م..

ويمثل «كرزاي» نموذجاً للصيغة الجديدة التي تريدها أمريكا للرجل الأفغاني الذي

يرتدي البزة الأوروبية ويأخذ في اعتباره قواعد «الإتيكيت الغربية» .. ويتمتع

بحس براجماتي يجعله يستسيغ تدمير بلاده واحتلالها إذا كان ذلك سيدخلها عالم

الحداثة الغربي الذي سيجلب لها على الأقل التخلص من وصمة الإحساس بعقدة

النقض تجاه العالم المتقدم.

هذه الحكومة الأفغانية المؤقتة الجديدة هي التي وافقت ولا تزال على استمرار

القصف الأمريكي الوحشي للمدنيين الأفغان ولا تزال تؤيد هذا القصف باعتباره

ضرورة تفرضها الحرب الأمريكية على طالبان والقاعدة ومتابعة تصريحات الملك

العجوز ظاهر شاه وحامد كرزاي تؤكد ذلك كما أن هذه الحكومة (الإدارة) الجديدة

تتفهم جيداً حدودها أي أنها تمنح الشرعية للوحشية الأمريكية من أجل تحقيق أهدافها

فقط؛ ولذا فهي حكومة جاءت بهندسة أمريكية أممية أوروبية من أجل بناء

أفغانستان جديدة على النمط والمقاس الغربي. لهذا حين طالبت هذه الحكومة بوقف

القصف الأمريكي للمدنيين بعد قصف قرية «نبازا كلاي» في ٢٩ من الشهر

الماضي (ديسمبر) والذي أدى لقتل ١٢٠ مدنياً في منازلهم وجرح عشرة آخرين

(لاحظ أن القتلى أكثر عشرة أضعاف من الجرحى عكس ما يحدث عادة في

الحروب؛ إذ إن الجرحى يكونون هم عشرة أضعاف القتلى) .. لم تستجب

أمريكا لوقف القصف ولم تدخر الإدارة الجديدة وسعاً في إعلان الخضوع بل

والدفاع عن المسوغات الأمريكية لاستمرار القصف.

خلفيات هندسة الحكومة الجديدة:

الأمم المتحدة برعاية الأخضر الإبراهيمي وتحت الرعاية الأمريكية إذ إن

الأمم المتحدة ليست إلا مخلب قط لتنفيذ المخططات الأمريكية تحت ستار شرعيتها

الزائفة فهي التي هندست الحكومة الجديدة بقصد عدة أهداف هي:

١- أن تكون الحكومة ألعوبة بيد أمريكا والغرب تعطي شرعية الترتيبات

الدولية لإعادة هندسة أفغانستان وفق المصالح والمخططات الغربية. وعلى سبيل

المثال فإن الحكومة الانتقالية الجديدة هي التي أرسلت في طلب القوة الدولية لما

يطلق عليه حفظ السلام في أفغانستان والتي وصلت طلائعها فعلاً إلى هناك من

ضباط بريطانيين وأستراليين وهولنديين وغيرهم.

٢- الحكومة الجديدة هي مجرد حلقة لخطوات أخرى قادمة تسعى للانتهاء

بأفغانستان لتكون مجتمعاً ديمقراطياً وفق المنظور الغربي؛ فبعد انقضاء ستة

الأشهر المحددة لهذه الحكومة سيجري انعقاد مجلس الأعيان الأفغاني الذي يعرف

باسم «لويا جيركا» والذي يضم رؤساء القبائل والذي سيختار بدوره حكومة

انتقالية لمدة عامين بعدها تجري انتخابات في البلاد ويتم وضع دستور لها على

النمط الغربي والأمريكي.

٣- الحكومة الجديدة هي مكافأة أمريكية أممية لتحالف الشمال المجرم الذي قام

وكيلاً عن أمريكا والغرب بتنفيذ مذابح وحشية ضد المجاهدين من الأفغان والعرب،

وهو الذي قام بملء الفراغ السياسي والأمني بعد طالبان على الأرض؛ حيث كان

درعاً للقوات الأمريكية التي خافت من النزول على الأرض في المدن الأفغانية..

ومن ثم لم يكن ممكناً لأمريكا أن تطأ أقدامها أرض أفغانستان إلا في ظل هذه

الحكومة الجديدة. وتواكب تشكيل هذه الحكومة في قلعة «بيتر سبرج» خارج

بون مع القصف الأمريكي من الجو والسيطرة الميدانية من تحالف الشمال..

وبالطبع فإن تحالف الشمال الذي يضم بشكل أساس الطاجيك والأوزبك هو الذي قام

بمواجهة طالبان على الأرض من الشمال «مزار الشريف وقندوز» وفي «

كابول» ، في «تورا بورا وقندهار» . وهو الذي استولى على المدن بعد ذلك..

ولم يكن ممكناً له أن يحقق هذه السيطرة دون المساندة الأمريكية الغربية. وللأسف

فإن الجمعية الإسلامية التي يرأسها (برهان الدين رباني) كانت مؤسسة للطاجيك

والأوزبك كأعراق بصرف النظر عن مذاهبهم وعقائدهم، وعامة الأعضاء الجدد

في الحكومة ينتمون لهذه الجمعية الإسلامية.

٤- الحكومة الجديدة راعت التوازن العرقي من ناحية شكلية لكنها في الواقع

هُندِست وفق صيغة سياسية محددة بدليل أن الطاجيك هم المسيطرون على الإدارة

الجديدة؛ فمنهم وزارة الدفاع والداخلية والخارجية وأكثر من نصف الوزارات. ولم

تراع الحكومة التعبير عن الأغلبية العرقية في البلاد وهم البشتون الذين يزيد عددهم

عن ٤٥% من مجمل سكان البلاد التي يزيد تعدادها عن عشرين مليوناً. وحدثت

خلافات هائلة بين الحاضرين في مؤتمر بون، وكانت هناك قائمة تضم ١٥٠ اسماً

جرى تخفيضهم لثلاثين، واستخدمت في ذلك وسائل الضغط والإغراء. وبشكل

عام فإن الحكومة الجديدة هي في تقديرنا تعبير عن لحظة مؤقتة في تاريخ أفغانستان

مرتبطة بالوجود الأمريكي والغربي، وليست بأي حال تعبيراً عن الشعب الأفغاني؛

ولذا تحدثت بعض التقارير الغربية عن عدم شرعية الإدارة من ناحية القبول

الشعبي. وهذه الحكومة مرتبطة بالترتيبات الراهنة في أفغانستان؛ لكن لو تغيرت

هذه الترتيبات فإن الحكومة ستؤول إلى الزوال.

٥- الدور الأمريكي واضح لكن من وراء ستار؛ حيث كان الوجود الأمريكي

خارج ردهات المؤتمر لكنه كان قوياً من جانب C. I. A.. وعقد بوش

اجتماعين مع مجلس الأمن القومي لمناقشة ترتيبات الحكومة الجديدة وقال: «إننا

نريد حكومة ائتلافية ذات قاعدة عريضة، وبناء اقتصاد قوي، وتوفير قوة أمنية

لحفظ السلام» وحذر من أن الفراغ السياسي والأمني يعني أن الحملة العسكرية لم

تسفر عن شيء «. وأشار بوش» إلى أنه لا يريد حكومة مركزية قوية في

أفغانستان وإنما حكومة تعبر عن التوازن العرقي والمذهبي.

٦- المثير للدهشة أنه بالتوازي مع «مؤتمر بون» اجتمعت شخصيات

نسائية أفغانية بارزة في العاصمة البلجيكية في مؤتمر قمة لبحث مستقبل أفغانستان.

نظم المؤتمر جمعيات نسوية أوروبية وأمريكية بدعوى الدفاع عن حقوق الإنسان

من أجل إسماع صوت المرأة الأفغانية للمؤتمر في بون. هدف المؤتمر هو تمثيل

المرأة الأفغانية، وقالت مسؤولة الشؤون الاجتماعية في الاتحاد الأوروبي «آثاديا

منتوبولو» : «إن النساء الأفغانيات يشكلن أكثر من نصف عدد سكان أفغانستان؛

لذا سيكون من الحماقة محاولة بناء البلاد دون تمثيل حقيقي للمرأة» . وفي أمريكا

عقد مؤتمر بعنوان: «نساء مؤيدة لنساء أفغانستان من أجل تأمين مستقبلهن» .

وقال «آري فلاشر» المتحدث باسم البيت الأبيض: «إن الرئيس مسرور بدور

المرأة في أفغانستان، لكن لا يزال هناك المزيد مما يجب عمله» . بينما قالت لورا

بوش: «إن محنة النساء والأطفال في أفغانستان هي قسوة إنسانية متعمدة يقوم بها

الذين يسعون للترهيب والسيطرة، وما كانت تفعله طالبان هو فصل عنصري

جنسي» . واجتمعت مع ١١ امرأة أفغانية وقالت: «إن حقوق الإنسان هي جزء

واضح جداً من الحكومة الجديدة، وبالطبع حقوق الإنسان تتضمن حقوق النساء

والأطفال» . بينما قال نائب المبعوث الدولي إلى أفغانستان: «السلطة المؤقتة

ستعمل على ضمان حرية التعبير وحقوق المرأة» ، وضمت الحكومة المؤقتة فعلاً

امرأتين إحداهما من الهزارة الشيعة واسمها «سيما سمر» وهي نائبة رئيس

الحكومة ووزيرة شؤون المرأة. والثانية هي «سهيلة صديقي» علمانية طبيبة،

واحتلت موقع وزيرة للصحة. أي أن الترتيبات الغربية تهدف إلى تفكيك أفغانستان

عبر فرض خروج المرأة إلى العمل وفي الوقت نفسه اختلاطها بالرجال وخلعها

للججاب وانخراطها في الأطروحة الحداثية الغربية لتكون وفقاً للنمط الغربي..

نتائج تنصيب الحكومة الجديدة:

سيظل التاريخ الأفغاني يذكر لأعضاء هذه الحكومة أنهم خونة وعملاء

بامتياز.. وسوف نلحظ أن الحكومة تضم الوجوه القديمة المستهلكة التي أثبتت

عجزها في السابق، أو التي انخرطت في أعمال وحشية بددت الأمن في البلاد

مثل المجرم «عبد الرشيد دوستم» وهو شيوعي سابق قاتل إلى جوار السوفييت ضد

المجاهدين، وأيضاً محمد فهيم، ويونس قانوني، رئيس الوفد إلى بون، وعبد

الله عبد الله، وهؤلاء هم المسؤولون عن مجزرة جانجي، ومسؤولون عن قتل

آلاف المدنيين الأفغان التي تشير بعض التقديرات أنهم بلغوا خمسة آلاف، وتشير

تقديرات أخرى أنهم بلغوا عشرة آلاف.. ومن ثم فهي حكومة عميلة لا مستقبل لها

وهي التي مكنت لكل الخطط الأمريكية التي جري تنفيذها إلى الآن.. وتتعامل أمريكا

معها بغطرسة؛ لأنها تعرف أنها مجرد أداة لا تعبر عن حقيقة الشعب، وهي

تبصم بكل تبعية على كل ما تريده أمريكا وتسعى لفرض العولمة الثقافية على

مواطنيها عبر فرض الملابس الغربية للرجال، وحلق اللحى، وفرض السفور

على المرأة، والسعي لخروجها إلى العمل المختلط، وتغريب مناهج التعليم

والتربية.

وهي القنطرة التي سيجري عبورها لتنفيذ الخطوات القادمة في البلاد.. ولن

تحقق أي استقرار أو تقدم اقتصادي في البلاد؛ لأنها حكومة عميلة جاءت تحت

أسنة رماح الأعداء.

إن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تقوم على ما تطلق عليه «إعادة بناء

الأمم» .. أو بمعنى آخر إعادة هندستها وفق ما تقتضيه المصالح الغربية وليس

وفق مصالح هذه البلاد أو شعوبها. وهي تحاول أن تنقل إلى أفغانستان الخبرة

التي جرى تطبيقها من قبل في البوسنة وكوسوفا وألبانيا، بل لا يستبعد في

الحالة الأفغانية تطبيقات تيمور الشرقية في أندونيسيا؛ أي فرض التجزئة

والتقسيم.

نسأل الله أن يلطف بالشعب الأفغاني , وأن يجمع كلمته على أيدي أبنائه

المخلصين؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.