[وجاء عام جديد]
آمال رغم الآلام
التحرير
الحمد لله مصرف الأيام والدهور ومقلب الليل والنهار، والصلاة والسلام على البشير النذير محمد بن عبد الله الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن الجديد من كل شيء محبَّب إلى القلوب ومبهِج للنفوس، تشتاق إليه وتأنس به، وذلك بعكس القديم الذي غالباً ما تعافه النفوس، وتبتعد عنه. وقد أقبل علينا عامنا الجديد بزهوته وجماله الذي يذكرنا بمناسبة من أهم وأعظم المناسبات التي مرت بها الأمة الإسلامية؛
إن العام الهجري لم يكتسب قيمته إلا من خلال الحدث الفذ الذي ارتبط به، ألا وهو هجر الديار والأوطان والأهل والخلان، قُربة إلى الله ـ تعالى ـ وتقديم حبه وحب دينه ورسوله على حب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارات والمساكن، {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: ٢٤] ، لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة عملاً إيجابياً وإعداداً للمواجهة التي لا بد منها بين الحق وأهله وبين الباطل وأحزابه، ولم تكن عملاً انسحابياً يُؤْثِر الفرار على المواجهة؛ إبقاءً على المهج وضناً بالأرواح أن تزهق في سبيل الله، والأموال أن تنفق في نصرة دينه وإعلاء كلمته.
كانت الهجرة الميمونة حداً فاصلاً واضحاً بين مرحلتين متمايزتين من مراحل الدعوة الإسلامية: مرحلة كف الأيدي والصبر على الأذى رغبة في هداية الناس وجمع أكبر عدد من الأنصار لرسالة الإسلام، ثم مرحلة الدفاع عن النفس ورد العدوان والمعاملة بالمثل، والدعوة إلى الله بالجهاد في سبيله تعالى. وكان في هذا تعليمٌ وتدريبٌ للأمة على أهمية مراعاة الواقع وظروفه على أرض الحدث، بعيداً عن الأفكار النظرية التي لا تمتلك رصيداً من الواقع أو التجربة يؤهلها لقيادة المواجهة مع الجاهلية التي تتعدد صورها وتتباين ألوانها على مدى التاريخ.
ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله ـ تعالى ـ في مكة المكرمة: يصبر على الأذى من قومه، ويحتمل منهم الصد والإعراض، لم يصبه من جراء ذلك كلل أو ملل، ولم يدفعه ذلك إلى سياسة حرق المراحل، أو القفز إلى نهاية الطريق من غير المرور على محطاته المتتابعة. وقد كان في هذا دليل على أهمية حنكة القائد وخبرته، وعدم يأسه وقنوطه من تحقق المطلوب، رغم الظلام الدامس الذي يغلف الأجواء. وكان في هذا أيضاً دعوة إلى الأمل المشرق بانبلاج الصبح بعد عتمة الليل، والثقة في وعد الله ـ تعالى ـ بالنصر والتمكين وإن طال الزمن، وهذا يدفع المؤمن ويشحذ همته ويحمله على العمل الدائب، كما أن فيه ما يُشعِر بأنَّ تأخر النصر قد يكون لحكمة تربية النفوس وتثبيت دعائم الإيمان وليس فقط نتيجة للتقصير وعدم بذل الجهد المطلوب؛ فإن الله ـ تعالى ـ ينصر عباده الذين صَدَقوه ولا يخذلهم ولا يسلمهم لأعدائهم، وأنهم لو تعرضوا لأمور طارئة تخرج عن قدراتهم؛ فإن الله ـ تعالى ـ يجعل لهم منها مخرجاً، فإذا أُتي المسلمون فلن يؤتَوْا إلا من قِبَل أنفسهم؛ والتاريخ كله شاهد على ذلك، فالله صادق في وعده ولا يخلف الميعاد كما قال ـ تعالى ـ: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٥٢] ، وقال ـ تعالى ـ مقرراً قاعدة عامة تنطبق على كل أحد في كل وقت وفي كل مكان: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: ٢] فكل من كان متقياً لله ـ عز وجل ـ فإن الله قد وعده بالمخرج من الضيق الذي هو فيه، وهذا ما يجعل الصف المجاهد في سبيل الله يحذر المعصية أشد الحذر؛ فمعصية الله أشد على الجيش المجاهد في سبيله من أسلحة عدوه وإن كانت أسلحة قوية متطورة.
إن الهجرة لم تكن حدثاً اضطرارياً لجأ إليه المسلمون تخلصاً من ظرف طارئ، بل كانت حدثاً قد خُطِّط له ودُبِّر بعناية تامة كاملة، سواء في أرض الحدث نفسه مكة المكرمة أم في الأرض المستقبِلة له المدينة النبوية؛ فلم يهاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة إلا بعد أن استقر الإيمان في نفوس طائفة ليست بالقليلة من عظماء أهل المدينة النبوية وقادتهم، وقد كانوا بايعوه من قبلُ على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، وإذا كان التخطيط والتدبير قد ظهرت دلائله في أرض المهجر؛ فإن الدلائل كانت أشد ظهوراً في أرض الحدث نفسه مما ينفي أن تكون الهجرة قد حدثت اضطراراً من غير روية أو تدبير.
كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مفعمة بالعظات والعبر؛ فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو في مكة إلى طاعة ربه حتى ضيَّق أهلها عليه واتفقوا على قتله ليتخلصوا منه، بعد أن أخفقت كل محاولاتهم من الإغراء أو التخويف والإيذاء، في إثنائه عن تبليغ الرسالة التي ائتمنه الله ـ عز وجل ـ عليها. ورغم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو إلى ربه ولا يدعو إلى نفسه، ورغم أن الله ـ تعالى ـ قد أخبره بما مكر به الذين كفروا وأَذِنَ له في الهجرة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يهاجر إلا بعد أن أعد العدة وأحكم الخطة لذلك أيما إحكام، فذهب إلى أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليُعْلِمه بأمر الهجرة في ساعة لم يكن يذهب إليه في مثلها حتى لا يفطن له أحد، وقال له: «أَخْرِجْ مَنْ عندَك» حتى يحافظ على سرية الأمر، ثم استأجر رجلاً خِرِّيتاً أي ماهراً بالطرق ليكون دليله في الهجرة، وذهب في أول أمره في طريق اليمن جنوباً ولم يذهب مباشرة في طريق المدينة شمالاً، حتى يموِّه على المشركين ويغطي عنهم وجهته، واختبأ في غار ثور ثلاثة أيام حتى يهدأ الرَّصد ولم يواصل الرحلة، وكان يرسل من يأتيه بأخبار أهل مكة حتى يعرف خطتهم ليتصرف وهو على علم بما يدبرون، ولم يقل: إن الله معي - وهو معه حقاً - فلا عليَّ أن آخذ بالأسباب؛ مما يبين أن العاملين لنصرة هذا الدين ينبغي عليهم الأخذ بالأسباب المعينة لهم، وإلا كانوا مقصرين، ومن كان مقصراً فلا يلومن إلا نفسه، وقد بين الله ـ تعالى ـ أن رحمته قريب من المحسنين، فقال ـ عز من قائل ـ: {إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: ٥٦] فمن كان مقصراً فيما وجب عليه لم يكن من المحسنين.
وعندما أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتجهز لهذا السَّفَر البعيد عرض عليه أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن يعطيه دابة من عنده كان قد أعدها لمثل هذا اليوم، فأبى الرسول -صلى الله عليه وسلم- أخذها إلا بالثمن. تقول عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: «لقَلَّ يومٌ كان يأتي على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا يأتي فيه بيتَ أبي بكر أحَدَ طرفي النهار؛ فلما أُذن له في الخروج إلى المدينة لم يرعنا إلا وقد أتانا ظهراً، فخُبِّر به أبو بكر، فقال: ما جاءنا النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الساعة إلا لأمر حدث؛ فلما دخل عليه قال لأبي بكر: أَخْرِجْ مَنْ عندَك! قال: يا رسول الله! إنما هما ابنتاي ـ يعني: عائشة وأسماء ـ قال: أشعرت أنه قد أُذن لي في الخروج؟ قال: الصحبةَ يا رسول الله! قال: الصحبة! قال يا رسول الله: إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج فخذ إحداهما، قال: قد أخذتها بالثمن» (١) ، وفي هذا ما يرشد إلى أن الداعي إلى الله يتحمل النفقات المادية التي تحتاج إليها دعوته ولا يحمِّل الآخرين حتى وإن بذلوها بطيب نفس، ما دام قادراً على ذلك حتى يتحصل له الأجر الكامل.
والعاملون لدين الله ـ تعالى ـ يأتيهم من فضل الله وكراماته لهم وقت الشدة ما يخرجهم به من الورطات التي لا يملكون لها دفعاً، لكن بعد أن يكونوا قد أخذوا بالأسباب المتاحة لهم حتى لا يكونوا مقصرين، وقد حدث هذا في قصة الهجرة؛ فمع كل هذه الاحتياطات التي أخذ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن المشركين قد تمكنوا في نهاية الأمر من خلال حملة الاستنفار غير المسبوقة في البحث والتحري إلى أن يصلوا إلى مكان الغار الذي يختبئ فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ولو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لرآهما، وهنا يصرف الله ـ تعالى ـ أبصار المشركين عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، ويسجل القرآن هذا المشهد الفريد ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسرِّي عن أبي بكر ما أهمه، فيقول الله ـ تعالى ـ: {إلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: ٤٠] ، وبعدما عجزت قريش وأحست بعدم قدرتها على الوصول إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه جعلت لمن يدل عليهما أو يقبض عليهما جائزة كبيرة، فأخذ الناس يبحثون في كل واد وناحية، إلى أن تمكن أحد فرسان قريش من معرفة طريق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن الله ـ تعالى ـ منعه منه قبل أن يلحق به، ويَعِدُه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن رد الرَّصَد عنهم بجائزة فوق جائزة المشركين، يَعِده وهو في هذه الحالة بسِواري كسرى ملك الفرس الذي كان يمثل ملك إحدى القوتين العظميين في ذلك الزمان. وهذا درس تربوي عظيم من دروس الهجرة، فلا يكفي للمجاهد في سبيل الله سلامة المعتقد وحسن النية، والرغبة في نصر دين الإسلام، بل لا بد من الأخذ بالأسباب التي خلقها الله تعالى؛ فما خلقها الله وجعلها موصلة لمسبباتها إلا لكي يعمل بها الناس ويستفيدوا منها، وفي هذا درس آخر وهو بيان حقيقة التوكل؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان سيد المتوكلين. فالتوكل لا يعني إهمال الأسباب أو تركها، بل يأخذ المسلم بكل الأسباب الممكنة ويتوكل على الله؛ لأن الأسباب قد لا تنتج مسبباتها، فيحتاج المسلم إلى التوكل على الله في كل حين.
لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في سبيل الله فتحاً عظيماً ونصراً كبيراً، على شح النفس التي تميل دائماً للارتباط بالأرض وعدم مغادرتها والتشبث بها، فكانت الهجرة إعلاء لقيم الدين على قيم التعلق بالأرض؛ فإن ذلك قد يوقع المسلم فيما يعرِّضه لسخط الله تعالى؛ فقد تمسك قوم من المسلمين الأوائل بالأوطان حتى منعتهم من الهجرة في سبيل الله، وقد اضطرتهم قيادات المشركين للخروج في الجيش المشرك ليكثِّروا أعداد المشركين في أعين المسلمين من غير أن يباشروا القتال حقيقة؛ فهم بذلك أقل ممن يعمل في الخطوط الخلفية أو الشؤون الإدارية بكثير، بل لا نسبة بينهم؛ ومع ذلك أنزل الله ـ تعالى ـ فيهم قوله: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: ٩٧] .
وقد ضمن الله ـ تبارك وتعالى ـ لمن خرج من بيته مهاجراً إلى الله بدينه أن يوسع عليه، وأن أجره لا يضيع حتى لو حال الموت بينه وبين الهجرة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء: ١٠٠]
كما كانت أيضاً نصراً على الأعداء؛ حيث تمكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بهذه الهجرة الموفقة أن يكسر الطوق الذي صنعه المشركون حول الدعوة، فتمكن من مقابلة الوفود من غير مضايقات ودعوتهم إلى الله ـ تعالى ـ وهذا مصداق قوله ـ تعالى ـ: {يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: ١٠٠] ، وتمكنت الدعوة في مدة قصيرة أن تحقق من الفتوحات والانتصارات والاستجابة والانتشار ما لم يتحقق لها في مدة طويلة، حتى عمَّ الإسلام جزيرة العرب في ما لا يزيد عن عشر سنوات.
لقد ربَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيل المهاجرين الأُوَل على العطاء غير المحدود؛ فلما أُذِن لهم بالهجرة لم يتخلف عن ذلك أحد ممن آثر الله ورسوله والدار الآخرة، فلم يتعلق أحد منهم بأهل أو أموال أو ديار، وقد سجل القرآن الكريم هذا المشهد العظيم، فقال ـ تعالى ـ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: ٨] ، والهجرة في سبيل الله شريعة مُحْكَمَة غير منسوخة، بل هي قائمة ما دام هناك من المسلمين من يُحارَب في دينه، فيخرج المسلم إلى حيث يمكنه أن يعبد الله. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (١) وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو» (٢) وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ستكون هجرة بعد هجرة؛ فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ... » (٣) .
وقد بلغ من مكانة الهجرة وموقعها في الدين أن الله ـ تعالى ـ قد قطع ولاية التناصر بين المؤمنين وبين من آمن ولم يهاجر، فقال ـ تعالى ـ: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: ٧٢] .
إن حدث الهجرة يمثل مَعْلَماً بارزاً من معالم صناعة الأمة التي تستعلي بإيمانها على كل الروابط التي من شأنها أن تكبل انطلاقة الأمة الكبرى نحو السمو والكمال، ولا أحسب أن محاولة إعادة بناء الأمة لتحقق في عالم الواقع ما أنيط بها من المهام الجسام، يمكن أن تتم إلا عبر بناء الجيل المؤمن المتخلق بأخلاق المهاجر إلى الله ورسوله؛ فهل حان الوقت لبروز هذا الجيل القرآني وتبوُّؤ مكان الصدارة؟ هذا أمل يداعبنا ونراه قام بإذن الله رغم الآلام؛ والله غالب على أمره.