دراسات في الشريعة
من يرد الله به خيراً..
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
من السمات البارزة التي يتميز بها العمل الإسلامي المعاصر أنَّ معظم القيادات
الرئيسة إلا ما ندر تظهر عليهم آيات الصدق والإخلاص هكذا نحسبهم والله حسيبهم،
وهذا أمر عظيم جليل القدر، ولعله من أبرز أسباب التوفيق الذي نلمس آثاره هنا
وهناك، فنحمد الله على ذلك حمداً كثيراً.
لكن اللافت للنظر أنَّ حظَّ كثير من تلك القيادات في العلوم الشرعية ربما
يكون قليلاً، فتراهم يتحدثون في مسائل إسلامية خطيرة، ونوازل عصرية معقدة،
ويقودون أتباعهم إلى مفاوز متشابكة، ومبلغهم من العلم مجرد ثقافة إسلامية عامة،
ولم ترسخ أقدامهم في رياضه، ولم تتضلع صدورهم من بركته..!
بل إن المتخصصين في الدراسات الشرعية قد يجدون الإقصاء والتهميش
أحياناً؛ لأن لهم رؤية علمية مستقلة، تنطلق من محكمات الشرع، وتقدم المقاصد
والمصالح الشرعية على غيرها من المقاصد والمصالح المتوهمة، ولأنهم قد
يتحفظون في بعض المواقف والممارسات العملية بسبب مخالفتها للنصوص والقواعد
الشرعية، وقد يُوصَفون بالجمود، ويُلمزون بالجهل بالسياسة..!
هذه الظاهرة جديرة بالدرس والتحليل؛ لأن الانفصام بين العلم والدعوة
عواقبه خطرة جداً، وانعكاساته المتراكمة كثيرة، والحركة الدعوية إذا ازدرت
العلماء، وهجرت العلم الشرعي، أو اكتفت بمُلَحِه وزغله، وغلَّبت المناورات
السياسية؛ وقعت في شَرك الانحراف والتخبط، وما أكثر ما سمعنا أو رأينا من
المواقف المضطربة لبعض التجمعات الإسلامية التي تضرب بها في دروب الفتنة،
دون أن تلجمها بقواعد الشرع ونصوصه المحكمة.
قال الله تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي
وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ] (يوسف: ١٠٨) .
تأمل هذه الآية.. وستجد أن البصيرة ليست مهمة القادة فحسب، بل إنها
مهمة القادة ومهمة الأتباع على حد سواء، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرد اللهُ به خيراً يُفقِّه في الدين» [١] ، وهذا عام
في الأفراد والجماعات، ومقتضى ذلك أن مَنْ لم يُرد به خيراً ينزع منه الفقه في
الدين، فتراه يتيه في دروب الجهالة، ومفاوز الضلالة.
في كل نازلة تعصف بالأمة يزداد يقيني بأهمية الدور الريادي للعلماء
الربانيين، فهم أقدر من غيرهم على معرفة أدوائها، وأفقه في إدراك سبيل نجاتها،
وأبصر في رؤية مستقبلها وتطلعاتها.
إنَّ العلم الشرعي هو الأساس الذي يبني العقل، ويوسِّع المدارك، ويربي
الخُلُق، وما ظهرت الغثائية في بعض جموعنا الإسلامية، وانتشرت الهشاشة
الفكرية؛ إلا بعد أن هُجر العلم الشرعي، وأصبح عند بعضهم مجرد ترف كمالي،
يصرفهم عنه أدنى صارف من الصوارف!
(١) أخرجه: البخاري في كتاب العلم، (١/١٦٤) ، رقم (٧١) ، ومسلم في كتاب الزكاة، (٢/٧١٨) ، رقم (١٠٣٧) .