للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

عولمة أم أمركة

نهاية التاريخ.. أم نهاية أمريكا؟ !

(الأخيرة)

بقلم: حسن قطامش

بعد استعراض التاريخ الأمريكي، والنشأة الأمريكية كقوة عظمى، وبعض

طرق الأمركة، أورد الكاتب سؤالاً: (لمن كل هذه القوة؟) ، بدأ الإجابة عليه في

الحلقات السابقة، وفي هذه الحلقة بقية الإجابة، وبقية طرق أمركة العالم.

... ... ... ... ... ... ... ... ... -البيان-

القوة الأمريكية.. ونهاية التاريخ: لعل هذه الوقفة تجيب على جزء مهم من

السؤال المطروح أولاً؛ فبعد الانهيار السوفييتي، واستفراد الولايات المتحدة بالعالم

نشرت أمريكا روح الإحباط لدى شعوب كثيرة، بأنّ التاريخ شارف على نهايته بهذا

الاستفراد، وأن الديمقراطية الغربية هي الوحيدة القابلة للحياة بعد انهيار الشيوعية،

وأن التاريخ قد توقف عند انتصار النظام الأمريكي الحالي؛ ولذلك كان ما يُسمى ... بـ (نظرية نهاية التاريخ) .

وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية وضع (جورج كينان) الديبلوماسي

والأستاذ الجامعي نظرية: (احتواء الشيوعية) وأكد أن القضاء على النازية وقتها

ليس نهاية المشكلة العالمية، وأن الشيوعية ستصبح الخطر الجديد، وأنها ستهدد

الغرب؛ ولا بد من احتوائها بتأسيس أحلاف عسكرية تحيط بالاتحاد السوفييتي،

ووضع خطط لمنع انتشار الشيوعية في الدول الغربية والعالم الثالث.

ويجيء الآن (د. صمويل هنتنجتون) أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد،

ومدير معهد الدراسات الاستراتيجية فيها، وكان قبل خمسة عشر عاماً في عهد إدارة

القس الأمريكي (جيمي كارتر) مسؤولاً عن (التخطيط في مجلس الأمن القومي) ،

يجيء ليضع نظرية: (صدام الحضارات) ويقول: (إن القضاء على الشيوعية ليس

نهاية المشاكل العالمية، وإن الإسلام هوالعدو رقم واحد الذي يمثل الخطر الحقيقي

على الحضارة الغربية) .

ولن نساير من ناقش هذه النظرية، وفنّد حقائقها، وأنها مجرد (نظرية) وأنها

مفتقرة إلى أبسط قواعد المنهج العلمي؛ فاحتواء الشيوعية كان مجرد نظرية.

ثم بماذا نفسر هذا الإلحاح المقيت على خطر الإرهاب والأصولية الإسلامية؟

ومما يؤيد ما نذهب إليه سؤال مجلة: (أتلانتك) للدكتور (بنجامين سوارتز) الخبير

في الاستراتيجية الأمريكية في معهد السياسة العالمية بنيويورك:

س: بعد حرب الخليج -لاحظ التحديد- أكثرت أمريكا من استعمال كلمة:

(الإرهاب) ، وقال البعض: إن الإرهاب حل محل الشيوعية؟

ج: هذا صحيح.. لكن شعار مكافحة الشيوعية خلال الخمسين سنة الماضية

كان (مجرد ستار) لسيطرة الشركات الأمريكية على العالم، وكان ذلك باستعمال

القوة العسكرية، وبمشاركة ومعرفة جنرالات البنتاجون؛ ولهذا أقول بأن (مكافحة

الإرهاب) ليس إلا شعاراً جديداً، ولا بد أن جنرالات الجيش الأمريكي سعداء جداً؛

لأنهم (وجدوا هدفاً جديداً) ولا بد أنهم يعرفون دورهم التاريخي.

ولعل هذا الموضوع يحتاج لأهميته إلى دراسة خاصة تبين الموقف الإسلامي

الحقيقي منه؛ إذ إن أغلب من تكلم حول هذه النظرية للأسف من القوميين

والعلمانيين!

الطريق الثاني للأمركة بالقوة: (انفراد القوة) : كان الطريق الثاني الذي

اتبعته أمريكا لفرض سيطرتها عن طريق القوة العسكرية هو الحد من انتشار

الأسلحة النووية والكيماوية وغيرها مما لا رغبة لأمريكا في امتلاكه لغير من ترغب

هي، وهذا الطريق مكمل للأول وهو ما نسميه: (انفراد القوة) فبعد السيطرة على

سوق السلاح العالمي، وبناء قوة عسكرية كبيرة، كان لا بد من إلجام الدول عن أن

تفكر في الوصول إلى هذا المستوى من القوة لئلا تهدد الأمن القومي الأمريكي.

وهذا الطريق يجعل من الملزم لأمريكا أن يكون لها عدو دائم تسوِّغ به

سياستها التوسعية ونفوذها العالمي؛ فتحالفات أمريكا مع الدول الصديقة لها، ليس

هناك ما يجعلها متماسكة أكثر إلا الإيهام الأمريكي بعدو مشترك يهدد مصالح الجميع؛ ولذا نجد الدول الغربية وغيرها من حلفاء أمريكا تسير في الركب وهي مقتنعة

بوجود هذا التهديد!

أما أمريكا فمطالبة بإيجاد ذلك العدو واصطناعه بما يضمن لها الانتفاع من تلك

التحالفات؛ وأكبر الانتفاع هو تمويل البرامج الوقائية والدفاعية لأمريكا؛ والعجيب

أن الدول الحليفة هي التي تطالب بدفع النفقات تطوعاً! !

تقول (مارجريت تاتشر) رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في تقديمها لكتاب

واينبرجر: (الحرب المقبلة) : إن الولايات المتحدة سوف تتعرض لتهديدات

بالصواريخ طويلة المدى في بداية القرن القادم لاحظ أيضاً التوقيت وإن الرد

المناسب لذلك هو بناء نظام دفاعي عالمي للصواريخ عابرة المحيطات تكون له

الأولوية المطلقة في الإنتاج، (وأن يقوم حلفاء أمريكا بدفع فاتورة بناء هذا النظام) ! !

ويفسر تلك الظاهرة السياسية وهي الانسياق في الركب الأمريكي مع الاقتناع

بعدو مشترك د. (أرون فرايد بيرغ) ، الأستاذ المساعد لمادة السياسة والشؤون

الدولية في جامعة برينستون في دراسة بعنوان: (مستقبل قوة أمريكا) فيقول: (إن

السبب وراء حرص الآخرين على الاهتمام بهواجس أمريكا والقبول بقيادتها: أن

هؤلاء في اللحظة الراهنة على الأقل لا يريدون الاضطلاع بهذه الأعباء، ولكن من

غير المحتمل أن يدوم هذا الوضع، فمن جهة فسوف يؤدي ذلك الوضع إلى دفع

أمريكا حلفاءها السابقين باتجاه الاضطلاع بقدر أكبر من المسؤوليات، ومن جهة

ثانية فمن شأن ما تبذله الولايات المتحدة بالإبقاء على هيمنتها عبر اجتراح صفقات

جديدة، وتحويل نسبة أكبر من ترتيب التكاليف الموجودة إلى الآخرين أن يتمخض

عن النتيجة ذاتها، وفي أوروبا وآسيا ستسير الولايات المتحدة وحلفاؤها القدامى في

طرق منفصلة! ! ففي غياب أي تهديد يبعد أي اتجاه نحو التوحيد يبدو بروز

سياسات أكثر استقلالاً على الصعيدين الديبلوماسي والعسكري أمراً محتوماً، كما

يبدو أن تطور سياسات اقتصادية أكثر احتمالاً. إن تفكك التحالفات بسرعة سيذهب

معه كثير من النفوذ الذي كانت الولايات المتحدة تستمده يوماً من واقع كونها زعيمة

التحالف) .

فللحفاظ على النفوذ، لا بد من تحالف، ولبقاء التحالف، لا بد من وجود عدو

يحاربه هذا التحالف، وأمريكا مطالبة باستمرار بإيجاد ذلك العدو!

من أعداء أمريكا.. وما قوتهم؟ هناك أعداء يستطيعون إحداث تدمير

بالولايات المتحدة من خلال استخدام أسلحة جديدة، كالصواريخ العابرة للمحيطات،

ورؤوس حرب بيولوجية وكيماوية ونووية، وهناك ٢٥ دولة لديها مثل هذه

الصواريخ، وهذا العدد سيزداد خلال العقد القادم، وفي تقرير وزارة الدفاع

الأمريكية فإنه بحلول عام ٢٠٠٠م سيكون هناك تسع دول نامية يمكنها تملك أسلحة

نووية، و٣٠ دولة يمكن أن يكون لديها أسلحة كيماوية، وثماني دول أخرى يمكن

أن تمتلك أسلحة بيولوجية، أما تقديرات وكالة المخابرات المركزية (سي. آي.

إيه) فتقول: إنه من المتوقع بنهاية هذا العقد (التسعينات) أن تدخل خمس دول

أخرى النادي النووي، ومرّ بنا أن كلاً من إيران والعراق وكوريا الشمالية أعداء

أمريكا الحاليين سيكون لديهم بحلول عام ٢٠٠٥م (١٢٠) طائرة هجومية طبقاً

لتقديرات البحرية الأمريكية.

تلك هي التقديرات الرسمية الأمريكية، أما التقديرات التحريضة فتأتي من

جانب صاحب الكتاب (الافتراضي) واينبرجر، وهي تختلف تماماً وتكذب التقارير

الرسمية، فيعتقد واينبرجر أن وكالة المخابرات الأمريكية تسيء التقدير، وهي

تقديرات يغلب عليها التفاؤل! ويضرب مثلاً بحالة العراق.. فقبل حرب الخليج

الثانية كانت تقديرات الـ (سي. آي. إيه) تفيد أن صدام حسين لا زال أمامه سبع

سنوات على الأقل ليتمكن من الوصول إلى تحقيق قدرات إنتاج أسلحة نووية، إلا

أنه اتضح لخبراء وكالة الطاقة النووية بعد الحرب، وعندما قاموا بفحص إمكانات

بغداد، أن العراق على وشك التوصل لإنتاج أسلحة نووية في خلال ثلاث سنوات

فقط، كما أن الأقمار الصناعية أخفقت في تحديد قدرات العراق على إنتاج أسلحة

نووية أو كيماوية؛ فعندما بدأت الحرب كان لدى المخططين الأمريكيين العسكريين

هدفان نوويان في القائمة لضربهما، ولكنّ مفتشي وكالة الطاقة النووية استطاعوا

بعد الحرب تحديد ستة عشر مصنعاً رئيساً كان يجب تدميرها! وعليه فليس هناك

معلومات كافية بما يجري في بقية أرجاء العالم!

ولم ينسَ الكاتب (وزير الدفاع السابق) أن يحرض على روسيا..) إنه في

الوقت الحاضر بالتحديد وليس بعد ثلاث إلى خمس سنوات، أو حتى عقد من

الزمن هناك روسيا التي تمتلك ٢٥ ألف رأس نووي تستطيع تدمير الولايات المتحدة

خلال فترة لا تتجاوز ظهر أي يوم) .

ولأجل التقارير الرسمية، والتحريضية، كان على أمريكا الحد من هذه

الأسلحة التي تؤرقها، فكان ما يسمى بـ (برنامج التعاون من أجل تخفيض الخطر)

في عام ١٩٩١م؛ حيث استطاعت الولايات المتحدة إزالة أكثر من ألفي رأس نووي، وثمانمئة قاذفة قنابل، ومنصة صواريخ في كل من روسيا وأوكرانيا وكازاخستان، وكان ذلك مقابل مساعدات مالية، وهو ما اعتبرته أمريكا إنجازاً ضخماً تفتخر به، فقد صرح وليام بيري قائلاً: إن منع الانتشار يعني شيئاً أكثر من مجرد تفكيك

ترسانة الحرب الباردة النووية، إنه يعني.. (قيادة المعركة) .

كما اتخذت الولايات المتحدة تدابير أخرى للحد من انتشار عدد من الأسلحة،

كاتفاقية خطر الانتشار النووي، والعمل على وضع معاهدة الحظر الشامل للتجارب

النووية موضع التنفيذ، والسعي إلى التصديق على الميثاق الدولي للأسلحة الكيماوية، والعمل على تعزيز ميثاق الأسلحة البيولوجية ونظم السيطرة على تكنولوجيا

الصواريخ، وأخذ المبادرة في سلسلة من التدابير الدولية للحد من تدفق السلع

والتقنيات التي يمكن استخدامها في إنتاج أسلحة الدمار الشامل، وفرض العقوبات

ضد الدول التي تنزع إلى اقتناء هذه الأسلحة.

كما أن هناك ما يسمى بـ (ديبلوماسية الإجبار) وهي مزيج من التدابير

الديبلوماسية والعسكرية، وهو ما استخدمته الولايات المتحدة في عام ١٩٩٤م من

أجل وقف البرنامج النووي لكوريا الشمالية. وتضمنت التهديدات من جانب أمريكا

ودول أخرى فرض عقوبات اقتصادية ما لم تتوقف كوريا الشمالية عن ذلك البرنامج، وتضمن كذلك الديبلوماسية من الوعود بتقديم مساعدات لإنتاج الطاقة (الكهربائية)

في حال وقف البرنامج النووي كما تستدعي هذه السياسة مضاعفة الوجود العسكري

الأمريكي بالمنطقة؛ إذ يوجد الآن (٤٥) ألف جندي أمريكي في كوريا الجنوبية.

كما اتبعت الولايات المتحدة السياسة نفسها مع جنوب إفريقيا حينما أرادت بيع

صفقة من الأسلحة لسوريا، فهددت بقطع المساعدات التي تبلغ قيمتها ١٢٠ مليون

دولار حال تنفيذ الصفقة؛ وذلك لأنها (تعرقل جهود السلام التي تبذلها الولايات

المتحدة في المنطقة) وتعمل على الإخلال بميزان القوى في المنطقة! !

ونختم هنا برأي وليام بيري حول هذه السياسة التي تسمى بـ (الدفاع الوقائي)

إذ يقول: ما من شك في أن الريادة الأمريكية هي التي تجعل الدفاع الوقائي ناجحاً

ومفيداً، سواء كان ذلك في روسيا أو أوروبا أو البلقان أو الأمريكتين أو آسيا

الشرقية والمحيط الهادي؛ إذ ليس هناك بلد آخر له ما لدى الولايات المتحدة من

موارد واردة، ومكانة تتيح لها الوصول إلى سائر أركان المعمورة.. وفي الوقت

نفسه (لا ينبغي لأحد أن يتوهم أن الدفاع الوقائي عمل من أعمال البر والإحسان..

إنما المسألة ببساطة أن الولايات المتحدة تبذل هذا الجهد الخارق والعمل الجاد اليوم، لكي تتقي غداً إراقة دماء أبنائها وإهدار ثرواتها) .

الطريق الثالث للأمركة بالقوة.. (أمركة عسكر العالم) : لم يبق لأمريكا

لأمركة العالم بالقوة غير هذا الطريق الأخير لإحكام حلقة السيطرة والزعامة؛ فكثير

من دول العالم خرجت حديثاً من تحت وطأة الاستعمار الأوروبي، سواء في إفريقيا

أو آسيا أو حتى دول أوروبا التي خرجت حديثاً من تحت الحكم الشيوعي، وهذه

الدول يمثل العسكر فيها نسبة كبيرة وهذه النسبة المرتفعة أدعى إلى نزوع هذه

الدول إلى سياسات إن لم تكن معادية فهي استقلالية، لكن الولايات المتحدة يصعب

عليها وجود دولة لا تدور في فلكها؛ فالدولة إن كانت تحكمها مجموعة مدنية، فلا

بد من المباركة الأمريكية حتى تحظى بالقبول والعضوية في المحافل الدولية، وهذه

الحكومات المدنية كذلك قد تجنح إلى سياسات تخالف التوجه الأمريكي، وأقرب

الطرق للفت الانتباه بأن هذه التوجهات غير مقبولة أمريكياً أن يأتي من الداخل عن

طريق المجموعات العسكرية المؤمركة، سريعة الاستجابة للأوامر الخاصة.

كما أن وجود العسكر المؤمرك أدعى لتمرير صفقات عسكرية أمريكية؛ إذ إن

السلاح الأمريكي وقتئذ هو الأكفأ والأقدر في القتال، كما أن وجود هذا الصنف من

العسكر أداة للتلويح للدول المجاورة المخالفة للسياسات الأمريكية، وخاصة إن كانت

هذه المجموعات في دولة كبيرة لها وزنها السياسي أو السكاني أو الاقتصادي

وتتوسط منطقة تعج بالمصالح الأمريكية.

ولقد دأبت الولايات المتحدة على استخدام نفوذها على المؤسسات المدنية

والعسكرية في الدول الحديثة الاستقلال، من خلال علاقات عمل منظمة مع

الشخصيات المهمة في تلك المؤسسات؛ ومما سهل هذه المهمة، تلك القناعة بأن

القوات المسلحة الأمريكية هي أفضل نموذج يحتذى به!

فلدى الولايات المتحدة البرنامج الدولي للتدريب والتعليم العسكري، وهو

برنامج مشترك لوزارتي الدفاع والخارجية يكفل لضباط من الاتحاد السوفييتي

وحلف وارسو سابقاً ومن دول أخرى، الالتحاق بالمؤسسات والمعاهد الأمريكية

لدراسة أسس العلاقات المدنية العسكرية، وهناك مراكز أخرى للتدريس في كل من

ألمانيا وآسيا.

كذلك من الوسائل في هذا المجال.. تكوين فرق مكونة من ضباط ومجندين

أمريكيين وموظفين مدنيين من وزارة الدفاع يوفدون إلى تلك البلدان لمساعدة

حكوماتها على بناء مؤسسات عسكرية محترفة عصرية، تحت قيادة مدنية، وقد

أقامت تلك الفرق آلاف الصِلات مع أكثر من عشرة بلدان مستقلة حديثاً.

ويحصل الأمريكان من خلال ذلك على الاطلاع المباشر على الخطط

والسياسات العسكرية لهذه الدول مما يجعل الصورة أكثر وضوحاً، ولا تبقى هناك

حاجة إلى أقمار صناعية أو أجهزة استخباراتية.

الأمركة بالدولرة: لم يكن في الإمكان أن تصبح الولايات المتحدة أقوى دولة

في العالم لو لم يكن لها اقتصاد قوي يلبي الاحتياجات الداخلية للدولة، وتستطيع من

خلاله السيطرة على الأسواق العالمية بإغراقها بالمنتج الأمريكي. وإن أي دولة لا

يمكن أن تتحكم في سيادتها وقراراتها ما لم تكن في غنى عن المساعدات والمنح

والقروض. وكما أوردت من قبل، فإن الحرب العالمية كانت من أعظم الفرص

التي استغلتها أمريكا، فكان انقسام العالم إلى معسكرين: رأسمالي، واشتراكي

حافزاً قوياً في جعل الدول الغربية ذات النظام الاقتصادي الحر تقبل الانضواء تحت

المظلة الأمريكية؛ وترتضي ذلك مع إدراكها لخطورة ما تحمله من الهيمنة

الأمريكية، فلقد خرجت الولايات المتحدة أقوى دولة اقتصادية، وأكبر دولة دائنة،

وأوربا بكاملها كانت مدمرة من آثار الحرب، وكانت المصانع الأمريكية والتي

كانت بمعزل تام عن الحرب ورشة كبيرة تقذف ببطونها إلى أوروبا، وحتى بعد

انتشار الحرب كانت أوروبا في حاجة إلى إعادة إعمار شامل، ولم يكن هناك من

يستطيع تلبية كل الاحتياجات هذه وقتها غير أمريكا، التي لم تتأخر عن تلبية

الدعوات، فهي فرصة لن تعوض لتحقيق مخططات الأمركة.

وفي عام ١٩٤٧م عقب الحرب أعلن هاريس ترومان: إذا لم تتحرك

الولايات المتحدة للزعامة ... تعرض السلام العالمي للخطر..، أما كريستوفر

فيشرح تلك الحقبة وما تداعى فيها من اختلاف وجهات النظر الأمريكية حول

السيطرة أو التنحي: (عند نهاية الحربين العالميتين كنا أمام طريقين: أن نعلن

الانتصار وننسحب، أو نسعى بقيادة الولايات المتحدة إلى بناء عالم أكثر أمناً

وسلاماً وحرية وازدهاراً لأمريكا وللناس في كل مكان، فبعد الحرب العالمية الأولى

وقع اختيار قادتنا على الطريق الأول، فدفعنا ثمناً مرعباً، وإن كلاً من هاري

ترومان وجورج مارشال وآرثر فاندبرنج مع الشعب الأمريكي تصرفوا بحكمة حين

اختاروا الطريق الثاني) كان هذا التوقيت فرصة لتغيير المفاهيم الاقتصادية العالمية، فبعد أن كان الذهب هو الأساس لقياس قيمة العملات بما هو حجم المودع منه في

البنوك مقابل ما يطرح في الأسواق من نقود، فقد حل الدولار العملة الرسمية

الأمريكية محل الذهب في ذلك، وأصبح عملة عالمية يجب التعامل بها دولياً، بل

إن سعر الذهب ذاته أصبح يحدد بالدولار، وأصبح الاحتياطي المالي للدول يقاس

بكمية الدولارت المخزنة في بنوكها المركزية!

وعلى الطريقة العسكرية كان لا بد من السيطرة على الأسواق العالمية

والاقتصاد العالمي كاستراتيجية مهمة، لبناء أمريكا وقوتها، وأمركة العالم، وهو ما

يمكن أن نجمله أيضاً في أساليب ثلاثة.

الأساليب الأمريكية لدولرة العالم:

١- السيطرة على الأسواق العالمية: نحن نريد العالم سوقاً ضخمة أو (سوبر

ماركت) فيه كل شيء، ونحن الذين نسيطر عليه! ! كان هذا من تصريحات أستاذ

السياسة الدولية بنجامين سوارتز، مختصراً به السياسة الأمريكية، ومبسطاً منهجاً، ومُجَلِّيه للناس دون مواربة ولا خجل، ويضيف: الاستراتيجية الاقتصادية

الأمريكية (منذ خمسين سنة) هي أننا نريد العالم كله سوقاً تحت سيطرتنا، ولا بأس

أن نأخذ من هذا، ونعطي هذا. وهذه السياسة تزيل العجب الذي قد يبدو من إنفاق

الولايات المتحدة المليارات لحماية اقتصاد ألمانيا واليابان! رغم طاقتهما الاقتصادية

والمالية، ولكن عدم رغبة واشنطن في أن تتولى الدولتان الدفاع الذاتي عن

مصالحهما الاقتصادية، كي لا تزداد قوتهما على الصعيد الدولي، ويصبحا منافسين

قويين لأمريكا.

٢- المساعدات الاقتصادية والقروض (المربوطة) : لماذا تقدم أمريكا

المساعدات الاقتصادية؟ ولماذا قدمت مساعدات لدول غرب أوروبا عقب الحرب

العالمية الثانية من خلال (مشروع مارشال) ؟ ولماذا أعلنت (مشروع دودج) بتقديم

مساعدات اقتصادية لليابان؟ تأتي الإجابة أيضاً من سوارتز: كنا نريد مساعدتهم

ليصبحوا جزءاً من سوق مفتوحة؛ لأننا كنا نخاف أن ينغلقوا على أنفسهم، أو

يصبحوا كتلة اقتصادية، بعد أن أخفقوا ككتلة عسكرية، ولتزدهر المصانع اليابانية

ولتنقل السفن البضائع اليابانية إلى العالم كله، ولكن يجب ألا ننسى أن اليابان

جزيرة صغيرة، وسنظل نملك اليد العليا ما دام أسطولنا البحري، هو الذي يحمي

سفن البضائع والسفن الأخرى التي تستورد البترول.

المصلحة.. سياسة واحدة، وفكر واحد يحكم الولايات المتحدة، وبمقارنة

بسيطة بين المساعدات المالية للكيان اليهودي البالغة ٣. ٢ مليار دولار سنوياً،

وبين ٤٧ بلداً إفريقياً يمثل سكانها ١٥% من سكان العالم، و٢٠% من كتلته

الأرضية، تقدم لها مساعدات سنوية قيمتها ٦٣٠ مليون دولاراً فقط.. فبقاء الكيان

اليهودي مصلحة استراتيجية لأمريكا، أما إفريقيا، فلا تمثل في الغالب إلا تأثيرات

هامشية على المصالح الأمريكية، على حد تعبير روبرت دول.

كذلك فإن المساعدات الأمريكية دائماً ما تكون (مربوطة) أي إن هذه

المساعدات المالية ليس للدول الممنوحة لها حتى التصرف فيها حسب احتياجاتها،

بل هي تأتي محددة؛ فالدولة الآخذة في حاجة إلى إقامة مشاريع صناعية أو تنموية، أو زراعية لكي تطعم شعبها، فتأتي المساعدة مشفوعة بقولهم: إنكم في حاجة إلى

تحديد النسل؛ لأن مشاكلكم كلها منبعها الزيادة السكانية الرهيبة التي تعيق برامج

التنمية، وتأكل الأخضر واليابس، ولا تبقي ولا تذر ولا تسمح بأي تحسن في

الحالة الاقتصادية، وهكذا فالمساعدات تمنح للدول التي تحتاج إليها حسب المصلحة، ... سواء كانت جلية بينة، أو خفية يمكن تأويلها على أنها ... صدقة جارية! !

أما الدول التي لا تحتاج إلى مساعدات أمريكا المالية، فلها أن تستغني كيف

شاءت، لكن دون تهديد مصالح أمريكا.

أما الدول التي بين هؤلاء وأولئك، وما زالت في طريق النهوض؛ فلها

الطريق الثالث وهو العقوبات الاقتصادية.

٣- العقوبات الاقتصادية: نجح الأمريكيون في أن ينشئوا منظمات عالمية

اقتصادية تحقق أهدافهم، وأن تكون الإدارة فيها أمريكية، أو ذات أغلبية أمريكية

(مؤمركة) يحق لها حسم الخلافات لصالح أمريكا، ووضعت هذه المنظمات العالمية

كصندوق النقد الدولي، أو البنك الدولي الأسس والضوابط للقروض والمعونات

والبرامج الاقتصادية الإصلاحية، وتم إعطاؤها الصفة الدولية حتى تخرج أمريكا

من دائرة اللوم، وأصبحت تقارير هذه المنظمات هي المعيار الرسمي الدولي

الحقيقي الملزم للجميع، والشذوذ عنه، شذوذ عن الشرعية الدولية يترتب عليه

عقوبات اقتصادية إضافة إلى عقوبات سياسية من منظمات مؤمركة أيضاً كمجلس

الأمن، والأمم المتحدة؛ وما معنى وجود كل هذه الدول في الأمم المتحدة أوغيرها

من المنظمات، وما الفائدة من تصويتها، إن كانت أمريكا تمتلك حق النقض (الفيتو) لأي قرار لا تراه مناسباً! ؟

ولم تكتف الولايات المتحدة بتلك العقوبات الدولية، بل تعدت ذلك إلى إصدار

عقوبات من جانب واحد؛ فهي تعتبر أنه لا فرق بين التدويل والأمركة، فالأمر

سواء.

وقد عبر (جيري جاسنيوكي) رئيس جمعية الصناعيين الوطنية بأمريكا عن

هذه العقوبات الفردية بقوله: ثمة فكرة تشبه ما يصدر عن شخص تنتابه نوبة

غضب وانفعال، مفادها أن على الأمريكيين أن يفعلوا أي شيء ولو أضر بهم، إن

ما نود أن نقوله اليوم: أن هذه العقوبات لا تفيد ولا تخدم غرضاً، فهي تُغيّر سلوك

الدول المستهدفة.

وقد أصدرت منظمة أمريكية رئيسية تقريراً أدرجت فيه ٦١ قانوناً ومرسوماً

أمريكياً صدرت بين عامي ٩٣ ٩٦م منحت فيه الحكومة الأمريكية سلطة فرض

عقوبات من جانب واحد خدمة (لأغراض سياسية) ، هذه الإجراءات تستهدف خمساً

وثلاثين دولة.. تضم ٢. ٣ مليار نسمة من مستهلكي السلع والخدمات الأمريكية،

أي ما يعادل ٤٢% من سكان العالم. وتتخذ أمريكا هذه الإجراءات وهي على قناعة

تامة بالقدرة على تنفيذها، وانصياع تلك الدول لها.

حجج العقوبات الاقتصادية: لا زالت أمريكا تتظاهر باحترام عقل الإنسان

وعواطفه، فليس من المعقول فرض عقوبات دون مسوغات أو أسباب تؤدي إليها!

! وقد تم تقسيم حجج العقوبات الاقتصادية إلى أربعة أقسام:

١- إعلاء شأن حقوق الإنسان والديمقراطية: وقد تم اتخاذ ٢٢ تدبيراً في ذلك

مع ثلاث وعشرين دولة، منها: البوسنة، بورما، أنجولا، بورندي، الصين،

كرواتيا، كوبا، نيجيريا، هايتي.

٢- مكافحة الإرهاب: وتم حتى الآن استصدار ١٤ قانوناً ومرسوماً تنفيذياً

بغية مكافحة الإرهاب، واستهدفت هذه القوانين عدة دول منها: كوبا، إيران،

العراق، ليبيا، نيكاراجوا، السودان، سوريا.

٣- الحيلولة دون انتشار التسلح النووي: واستهدفت الإجراءات الخاصة بهذا

البند كل من الصين وإيران وكوريا الشمالية، وباكستان.

٤- حقوق العمال ومحاربة المخدرات، وحماية البيئة والحيلولة دون العمل

بنظام الأشغال الشاقة في السجون: وقد تم فرض عقوبات في أغسطس ٩٥م على

عدة دول، منها الإمارات، وقطر، وهي سوق بلغت قيمة الصادرات الأمريكية

إليها عشرة بلايين دولار عام ٩٦م وتضمنت هذه العقوبات تعليق العمل بتقديم (هيئة

الاستثمارات الخاصة خارج الولايات المتحدة) ضمانات مقابل المخاطر الجديدة

للمستثمرين الأمريكيين في الدول العربية.

نماذج سريعة للعقوبات الاقتصادية: لن نتعرض للنموذج العراقي؛ فالحالة

العراقية لا تخفى على أحد، ويكفي أن أمريكا حتى الآن هي المعرقلة لإكمال

مشروع (النفط مقابل الغذاء) وذلك لأن العراق ليس على استعداد الآن لاستقبال

شركات أمريكية مرة أخرى، وما دامت أمريكا غير منتفعة، فلماذا يتم الاتفاق

بسهولة؟ !

وأيضاً لن نعرج على ليبيا، التي أثبتت الوثائق البريطانية أنها ليس لها دخل

في حادث تفجير الطائرة الأمريكية فوق لوكيربي؛ فأمريكا أصدق من بريطانيا ولا

شك، ولن نشفق على السودان فهي كما ترى أمريكا دولة إرهابية تستحق كل ما

يحدث لشعبها من حرب وجوع! !

نيجيريا والعقوبات الاختيارية: ذكرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز أن وارن

كريستوفر وزير الخارجية السابق منزعج جداً من جراء عدم تقدم العملية

الديمقراطية في نيجيريا [سكان نيجيريا ١٢٠ مليون، ٧٥% مسلمون] ولأجل هذا

الانزعاج فقد تم فرض عقوبات عدة على نيجيريا وهي ما يلي:

١- تجميد أصول نيجيريا في الولايات المتحدة.

٢- منع أي استثمارات جديدة هناك.

٣- قطع الروابط الرياضية بين البلدين.

٤- منع إصدار التأشيرات للنيجيريين.

٥- منع تصدير الأسلحة والخدمات العسكرية.

٦- معارضة أية قروض أو اعتمادات من قبل صندوق النقد الدولي.

٧- عدم الموافقة على المشروعات النيجيرية المقدمة للمؤسسات المالية الدولية.

لكن أمريكا لم تفرض أية عقوبات نفطية على نيجيريا؛ لأنها تشتري ٤٠%

من صادراتها النفطية وهو ما يمثل ٨% من واردات النفط الأمريكية.

روسيا البيضاء وعقوبات اختيارية أخرى: خفضت الولايات المتحدة علاقاتها

مع روسيا البيضاء بسبب ما وصفته بـ (تحول خطير في حقوق الإنسان) والذي

تمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير وتفتيش مكاتب الأحزاب السياسية

المختلفة، وأوضح مسؤولون أمريكيون أن هذا يعني أن أمريكا لن تكون مستعدة

لمناقشة أي قضايا مع روسيا البيضاء (سوى تلك التي تهم الولايات المتحدة بشكل

مباشر) .

ونسائل أمريكا عن حقوق الإنسان: ماذا عن حقوق البشر (الإرهابيين

الأصوليين) ، بحسب معاجمكم، المرتهنين في سجون الدول الصديقة بلا تهمة ولا

جريمة؟

ونختم بهذا الخبر التي أوردته وكالة رويتر الذي مفاده: أن منظمة العفو

الدولية حذرت الشرطة ومسؤولي السجون في شتى أنحاء العالم يوم ٤/٣/١٩٩٧م

من خطر استخدام أجهزة التعذيب والصدمات الكهربائية في العالم، وذكرت أن

الولايات المتحدة هي (أكبر منتج لأجهزة التعذيب الكهربائية في العالم) وأن فرنسا

تساهم في تطويرها.

[جريدة البيان الإماراتية، ع/٦١٠٤/٥/٣/١٩٩٧م] .

وبالمصلحة، والعسكرة، والدولرة.. تمت حلقات سياسة الأمركة، وإلى هنا

تبدو الصورة وردية جداً، متفائلة جداً، مناسبة جداً لاستمرار الحلم الأمريكي!

لكن السنن قد تقول خلاف ذلك، والعالم لن يقف متفرجاً كثيراً؛ فهناك

سياسات معادية لأمريكا، وهناك منافسة قوية لأمريكا في كل شيء، وهناك الأهم:

الدمار الأمريكي في كل شيء، والفشل الأمريكي في كل شيء، فإن كانت أمريكا

تدور حول مصلحتها؛ فهناك القوة العسكرية التي بدأت في التراجع، وهناك

الاقتصاد المشرف على الانهيار، وهناك التخلف التقني والتكنولوجي، وهناك

الدمار الاجتماعي بكافة مجالاته.

وبالجملة: فهناك نهاية لأمريكا.. وليس نهاية للتاريخ كما يزعمون-