للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

أنصار الإسلام في تورابورا العراقية

(١ ـ ٢)

أحمد فهمي

في العاشر من أغسطس ١٩١٩م وقَّع الحلفاء الأوربيون معاهدة سيفرز

«sevres» مع الأتراك المنهزمين، وفرضت المعاهدة ضمن بنودها بنداً خاصاً

بإقامة دولة للأكراد «كردستان» .. لكن القرار أثار غضب الفرنسيين على نحو

مفاجئ، وأدى في نهاية الأمر إلى إلغائه كلية من المعاهدة.

ويأتي هذا التصرف العجيب من فرنسا متناسباً مع دولة عريقة في استعمارها

تعلم يقيناً أن الاستعمار مرحلتان: تبدأ المرحلة الثانية عندما تنسحب الجيوش

العسكرية، وتسمى مرحلة الاستعمار عن بُعد، هذه واحدة، والثانية، أن الفرنسيين

يدركون تماماً أن هذه المنطقة الاستراتيجية تفتقر للحفاظ على المصالح الغربية إلى

قوم يناضلون من أجل دولة، أكثر من افتقارها لدولة جديدة، لذا كان من

الضروري أن تنهض السياسة الأوروبية لترسيخ واقع سياسي من نوع خاص..

يحتوي على نقيضين يشكل تعارضهما وبقاؤهما معا مصدراً دائماً للتوتر

والاضطراب في المنطقة، هذان النقيضان هما رفض ومنع إقامة دولة كردية،

وتحفيز الأكراد على المطالبة بدولة كردية.

هذه السياسة الغربية المعقدة تجاه الأكراد، كان لا بد أن تثمر واقعاً عجيباً

يستعصي على الاستيعاب أو الفهم لأول وهلة؛ فالأكراد اليوم ومنذ أكثر من عشر

سنوات يعيشون وكأنهم دولة مستقلة، ولكنهم ليسوا كذلك؛ بل لا يتمتعون رسمياً

بمجرد الحكم الذاتي، ووفقاً للتسلسل المنطقي لمفردات السياسة والهيمنة الأميركية

المعلنة لا يوجد ما يمنعهم من تأييد وتدعيم دولة كردية في شمال العراق، ولكن

أميركا لم تفعل ذلك، ولن تفعله في الفترة القريبة على الأقل والله أعلم فالدور

الكردي في إثارة التوتر في المنطقة لم ينته بعد، ولا تزال هناك فصول معدة

للتداول على المسرح السياسي تحتاج إلى التواجد الكردي المأساوي أحياناً، والتهديد

الأميركي بدعم دولة كردية في العراق، له تأثير فعّال في سَوْق الأنظمة أكثر من

إقامتها بالفعل، وقد عبر رئيس الوزراء التركي بولنت أجاويد أكثر من مرة عن

تخوفه من أن تسمح أميركا للأكراد بدولة شمال العراق، وصرح أن حكومته تبدي

قلقها من التحركات الأميركية في المناطق الكردية، وقال أجاويد: «هناك دولة

أمر واقع قائمة في شمال العراق، ونحن لا يمكننا السماح لها بتجاوز ما هي عليه

حاليًا» .

ورغم أن الشعب الكردي يُظن به بعد هذه السنين الطوال استيعاب أبعاد لعبة

التوازنات الخبيثة هذه، إلا أن حزبيه العلمانيين لا يبدو أنهما يقودانه وفق

مقتضيات ما تراكم فهمه عبر الأجيال، وكل ما أفلحا في تحقيقه أن أفرزا صراعاً

كردياً كردياً شكل بدوره عائقاً سياسياً في طريق إقامة دولة موحدة، وحوَّلا القضية

الكردية إلى سلعة رخيصة يشتريها الجميع، لكن دون مقابل.

وبعد أن ألقى الأكراد رحالهم بين أيدي الأميركيين في السنوات الأخيرة، فإن

المحنة لم تنته، والخوف من صدام لم ينقض، وبعد تجنيد الحزبين الرئيسيين

العلمانيين لحساب المخابرات الأميركية، لم يعد هناك من يهتم بالمصلحة الكردية،

اللهم غير الأحزاب والحركات الإسلامية التي تعمل وسط إطار سميك من الترقب

والقيود، وقد نجحت السياسة الأميركية في تفتيت الشعب الكردي، وترسيخ مفاهيم

القبلية والحزبية بين أبنائه، بدرجة تعوق تكوين قرار كردي موحد، إلا في مواجهة

«إرهاب» الإسلاميين.

ومن المعروف أن الأميركيين لا ينفعون من يتحالف معهم إلا بالقدر اليسير،

وبالنسبة للأكراد فقد شجعهم الأميركيون بعد حرب الخليج مباشرة كي ينتفضوا على

صدام، ثم تركوه ينتقم منهم، بينما القوات الأميركية تطوق العراق من أطرافه،

وبعد انتهاء المذبحة، أرسلت الإدارة الأميركية مندوبيها ليتفرجوا على آثارها،

وأرسلت طائراتها لتلقي بالطعام على المشردين الناجين، ثم بعد ذلك كله يقول

فنسنت كانيسترارو رئيس سابق لمكافحة الإرهاب في وكالة الاستخبارات الأميركية:

«بالنسبة للأكراد لم نحصل على شيء مضمون من جهتهم حتى الآن، وهم

حذرون جداً بخصوص دعمهم للولايات المتحدة» .

ومن بين الركام الحزبي الكردي تبدو الحركات الإسلامية بتجردها المعروف،

وإخلاصها للقضية الكردية الأكثر قدرة على تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب

العلمانية.

ولكن بقدر ما يشكل التواجد الإسلامي مبعث أمل للأكراد، فإنه يمثل صوتاً

نشازاً بين الجوقة المنتشرة في المنطقة، يسعى المخرج الأميركي إلى إسكاته ...

ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن السياسة الأميركية ربما يكون من المفيد لها

أن تسمح بتنامٍ محدود لنوعية معينة من الخطر الإسلامي، كي تستغلها في وقت ما

كأحد ذرائع التدخل، وهذه الرؤية تنطبق بالضرورة على الحركات الجهادية،

والتي يُروَّج أنها على علاقة بتنظيم القاعدة الذي احتل مكانة العدو الأول للولايات

المتحدة، برغبة منه، ومن الإدارة الأميركية كذلك.

ووفقاً لهذا التصور فإن جماعة أنصار الإسلام الكردية، أصبحت تمثل هدفاً

أميركياً سواء بالسكوت عنها، أو التعامل معها، عسكرياً وسياسياً، عن طريق

حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الموالي لأميركا، وفي الآونة الأخيرة صار

الحديث عن أنصار الإسلام رائجاً إعلامياً، بغرض تسويقها كفرع عراقي للقاعدة

يتلقى دعماً مباشراً من العراق، ومن إيران، ومن بن لادن، ومن ... إلخ، ورغم

أن الجماعة محدودة العدد والانتشار الجغرافي، فإن تأثيرها في نطاق سيطرتها يبدو

مثيراً للانتباه، وللإعلام كذلك، من حيث محاولتها محاكاة النمط الطالباني الإسلامي

في أفغانستان مع الفارق ومن تبنيها الجهاد كوسيلة لتطبيق مبادئها، ومعاداة النمط

العلماني الغالب، والمتمثل في الحزبين الكرديين الرئيسيين: الديمقراطي

«البرزاني» ، والاتحاد الوطني «الطالباني» ، ومع توقع دخول مواقع

الجماعة وتجمعاتها ضمن الأهداف المحتملة للضربة الأميركية ضد العراق، فإن

تناول هذه الجماعة، يصبح أمراً لازماً؛ إذ أصبحت عنصراً أساسياً ضمن لعبة

التوازنات التي تديرها أميركا في العراق، والتي يشارك فيها أطراف كثيرون قسراً

واختياراً.

* من هم «أنصار الإسلام» ؟

في أوائل التسعينيات اندمجت الحركة الإسلامية الكردية مع حركة النهضة

لتكونا معا حركة الوحدة الإسلامية، ولكن مع مرور الوقت، بدأ الشقاق والخلاف

ينتشر في صفوف الحركة الجديدة، حتى حدث الانهيار في عام ٢٠٠١م؛ حيث

انقسمت الجماعة إلى عدة حركات أبرزها: الجماعة الإسلامية الكردستانية،

وجماعة جند الإسلام، وغيرهما، وأعلنت جند الإسلام عن نفسها في بداية سبتمبر

من نفس العام، وضمت في صفوفها الإسلاميين الذين ينادون بالجهاد ضد الكافرين،

وكان من بينهم من سبق له الجهاد في أفغانستان حتى وقت قريب، وتردد أن

بعضهم لا يزال يحتفظ بعلاقات قوية مع من بقي من المجاهدين في أفغانستان،

وكان قائد الجماعة هو أبو عبيد الله الشافعي، من أصل كردي، وكان ينتمي سابقاً

إلى حركة الوحدة الإسلامية في محافظة أربيل حتى عام ١٩٩٤م، حيث سافر إلى

أفغانستان، ويقول حازم اليوسفي ممثل الاتحاد الوطني الكردستاني في القاهرة إن

اسمه الحقيقي وريا هوليري، وأنه انضم إلى تنظيم القاعدة أثناء وجوده في

أفغانستان.

وسيطرت الجماعة على شريط القرى الممتد بين حلبجة والأخدود الجبلي

على الحدود مع إيران، وحسب بعض التقديرات فإن عددها تسع قرى من بينها

الطويلة وبيارة التي يتمركز فيها قائد الجماعة، ويسمي بعض الأهالي هذه المنطقة

الجبلية «تورا بورا العراق» ، وكانت في الأصل تابعة لنفوذ حركة الوحدة

الإسلامية، ولكن استولى عليها الاتحاد الوطني لما بدأ الضعف يدب في صفوفها،

قبل أن تعقد مهادنة صلح بين الطرفين بوساطة إيرانية.

وتدعي مصادر الاتحاد الوطني أن من بين أعضاء الجماعة هناك نحو ثمانين

من العرب الأفغان، من أصل مغربي وسوري وأردني وفلسطيني ومصري،

وهناك أيضاً ستون من أصل عراقي تلقوا تدريبات في أفغانستان، حسب ادعاء

مصادر الحزب العلماني، أما عددهم الإجمالي فمختلف فيه إلى حد كبير، ولكنه لا

يتجاوز عدة مئات، وربما يتجاوزون الأربعمائة.

وقد حاولت الجماعة أن تطبق الأحكام الإسلامية في المناطق التي تسيطر

عليها، حيث مورست الحسبة على نطاق واسع، فكانت تأمر بغلق المتاجر في

أوقات الصلاة، وتحرم الموسيقى وبيع الخمور، وتعمل على نشر المدارس الدينية،

وتدعو إلى التجهز للجهاد ضد الكفار، وتحث النساء على الالتزام بالحجاب

الشرعي.

ونشب قتال بين الجماعة والاتحاد الوطني الكردستاني الذي اعتبر الجماعة

تهديداً لمناطق سيطرته ونفوذه، وخاصة أن النمط الإسلامي في الحياة قابل للانتشار

بدون قتال عن طريق المحاكاة والتأثر بين القرى الكردية المتجاورة، وقد تكبد

الاتحاد الوطني في المعارك الحامية خسائر جسيمة في الأرواح، على الرغم من

كونه الأقوى عدة وعتاداً، وحسب بعض التقديرات فقد بلغت خسائر الوطني ١٠٨٦

قتيلاً وجريحاً خلال ٧٣ يوماً من القتال المستمر، مقابل ٤٧ قتيلاً وجريحاً في

صفوف جند الإسلام.

وفي شهر ديسمبر من العام ٢٠٠١م، حدث اندماج آخر بين جند الإسلام،

وجماعة التوحيد الإسلامية وجماعة ثالثة، وتغير اسمها إلى أنصار الإسلام،

وأصبح الملا كريكار من أبرز قادتها، وحاولت عقد هدنة وتصالح مع الاتحاد

الوطني، وحدثت لقاءات ووساطات، أسفرت عن وقف القتال، ولكن الأمور

تدهورت مرة أخرى بعد محاولة اغتيال برهم صالح رئيس وزراء الوطني؛ حيث

اتهم الأنصار بتدبيرها، واندلع القتال مجدداً بين الفريقين.

وحسب المصادر المتاحة فإن الملا كريكار اسمه الأصلي نجم الدين فرج،

ويحمل جنسية نرويجية؛ حيث طلب اللجوء إليها قبل سنوات، ويحمل الملا

كريكار كذلك رؤية إسلامية سلفية، ويرفض الديمقراطية، وقال في حديث صحفي

نادر: «الديمقراطية تستند إلى أربعة مبادئ مرفوضة في الإسلام؛ فبالنسبة

للإسلام: الديمقراطية من البداية إلى النهاية هي بدعة» ، ولا يعرف مكان إقامته

في الوقت الحالي، ويقول البعض إنه ربما يكون في النرويج، ولكن نفى

المسؤولون هناك ذلك، وكان كريكار التقى جلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني

أثناء محاولات وقف القتال بين الطرفين.

وبالعودة إلى لعبة التوازنات التي تديرها الإدارة الأميركية في المنطقة، يمكن

تحديد عدد من اللاعبين على الساحة الكردية، سنتناول علاقة كل منهم بجماعة

أنصار الإسلام، ويأتي في مقدمتهم الولايات المتحدة، اللاعب الأول، والأكراد،

والعراق، وإيران، والحركات الإسلامية الأخرى، وتنظيم القاعدة افتراضاً.

* أمريكا وأنصار الإسلام:

تتبع الإدارة الأميركية أسلوب إيجاد المسوغ في تمرير سياساتها في كثير من

دول العالم، وهذا الأسلوب المعقد يعطي نتائج أولية ظاهرية عكسية في كثير من

الأحيان، أو هكذا تبدو للبعض، ولأن كثيراً من الشعوب والجماعات تحمل إرثاً من

الكراهية للسياسة الأميركية، يحلو لها أن تفسر كل موقف عدائي ضد الولايات

المتحدة، على أنه عجز أميركي عن مواجهته، وهم بذلك يمثلون الطرف المقابل،

لمن يعتقدون أن أميركا بيدها مقاليد الأمور، وأنها تحقق أهدافها في إدارة العالم،

بنسبة انتخابات العالم الثالث ٩٩.٩%، والحقيقة أن الواقع بعيد عن هذا وذاك؛

فالإدارة الأميركية تضع كثيراً من الخطط والرؤى والسياسات، يُحبَط كثير منها،

وينجح بعضها، والذي نريد أن نقوله إن سياسة أميركا تجاه العراق مثال واضح

على استخدام هذا الأسلوب؛ فالمعطيات العسكرية والسياسية أثناء حرب الخليج

وبعدها، لم تكن تحول مطلقاً بين أميركا وعزل صدام عن الحكم، ولكنها لم تفعل.

لماذا؟ لأنها تحتاج إلى شخصية مركبة مثل صدام حسين، لكي يقدم تسويغات كافية

طيلة أكثر من عشر سنوات لتدخل أميركي مستمر في المنطقة، لم تكن تحلم به من

قبل.

وعلى الجانب الكردي، فإن الصراع بين صدام والأكراد كان لا بد له أن

يظل مستعراً، ولهذا ترك الأميركيون الأكراد يصطلون بنيران صدام بعد حرب

الخليج مباشرة، ولمَّا يفرحوا بانتفاضتهم بعد، وذلك لكي تبقى الجراح دوماً ساخنة

غير ملتئمة، تحتاج إلى تدخل الجرَّاح الأميركي، وهذا هو الأهم.

وبعد هجمات سبتمبر، وتحول تنظيم القاعدة ليحتل المركز الأول على قائمة

المسوغات الأميركية للتدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، لم يكن من الصعب

على العقلية الأميركية المخططة أن تصل بين صدَّام والقاعدة هكذا بجرة قلم لتنشئ

تحالفاً وهمياً بين الطرفين، متجاوزة بذلك عوائق وعقبات وجبالاً وهضاباً من

العقائد والأفكار والرؤى والتصورات والمناهج، وفي ظل عقلية الفسيفساء العربية

كان من الممكن تمرير هذه الحجة بلا عناء كبير، وبعد ذلك يصبح من السهل أن

توجد العلاقة بين صدام وجماعة أنصار الإسلام، ومن الأسهل أن يقال إن أنصار

الإسلام فرع جديد للقاعدة في العراق.

وفي الوقت الحالي يتبادل الاتحاد الوطني والمخابرات الأميركية تهيئة أنصار

الإسلام، لتكون مسوغاً كافياً، وجاهزاً، ضمن القائمة العراقية، وسيأتي ذلك

بالتفصيل عند الكلام عن العلاقة بين الجماعة والأحزاب الكردية، وقد صرح أكثر

من مسؤول أميركي حسب النيويورك تايمز بالقول إنه «من مصلحة الاتحاد

الوطني الكردستاني طرح هذه المسألة - جماعة الأنصار - لأنها قد تساعد في تقديم

الحجة لهجوم أميركي يقضي على الرئيس العراقي صدام حسين» ، وأمام

الكونجرس الأميركي وقف جورج تينت مدير المخابرات، ليقول إنه «رغم

الاختلاف الأيديولوجي بين العراق وتنظيم القاعدة، فإن كراهيتهما المشتركة

للولايات المتحدة تدعو للافتراض بإمكانية وجود تعاون تكتيكي بينهما» .. وقد

راجت في الفترة الأخيرة التصريحات التي أدلى بها عملاء مزعومون للمخابرات

العراقية، كانوا يقومون بمهام تنسيقية مع القاعدة والأنصار، وكذلك أعضاء

مزعومون في جماعة الأنصار، وذلك بعد اعتقالهم جميعاً من قبل سلطات الاتحاد

الوطني، وتصب هذه التصريحات في اتجاه تقديم وصف تفصيلي لعلاقة مفتعلة بين

الأطراف الثلاثة.

ونشرت مجلة نيويوركر تقريراً احتوى تفريغاً لكمٍّ كبير من هذه التصريحات

التي قال مراسل الصحيفة إنه تم الإدلاء بها بدون إكراه هكذا، وقد احتفى مسؤولون

أميركيون بهذا التقرير، وقال جيمس وولسي مدير المخابرات السابق إنه تقرير

«شديد الروعة» ، وقال: «ظلت سي آي إيه طوال السنوات الأخيرة غير

مكترثة كما يجب بالتحدي العراقي، وأعتقد أن ذلك معيب، ولو تعرضت للهزيمة

نتيجة للتقرير الأخير الذي نشرته المجلة، وحرره جيف غولدبيرغ، فلا بد من

توجيه التحية للسلطة الرابعة يعني الصحافة» ، وقال مسؤول آخر ذو خبرة في

الشأن العراقي: «هذا التقرير يعد هاماً للغاية كما يبدو، ومن المحتمل أن يبادر

صدام حسين بالسعي لزعزعة الأوضاع في المناطق الكردية باستخدام جماعة

جند الإسلام» .

ويعتبر المسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي بوش أن القاعدة أصبحت

مسوغاً عالمياً للتدخل، تحت مسمى الحرب على الإرهاب، ويسعى البنتاجون إلى

تمرير موافقة من الكونجرس على مشاركة سرية لقوات خاصة بمكافحة الإرهاب في

بلدان أجنبية، ويقولون إنه في بعض الأحيان سيكون من الضروري أن تجري

العمليات بدون إخبار الحكومات المحلية نفسها، بمواقع هذه القوات؛ لأن الحرب

ضد الإرهاب كما يقولون، صارت بلا حدود.

* صدام حليف الإسلاميين!!

يقول أحد كبار مسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري:

«إن تبدلاً واضحاً حدث في تفكير صدام حسين خلال الأعوام الخمسة الماضية،

من حيث تحول بغداد من العلمانية المتشددة، إلى دعم الإسلاميين» ، ويأتي

هذا الادعاء ضمن سيل من الإطلاقات التي تأتي بلا برهان، يرسلها العلمانيون

الأكراد في توصيف وتصنيف الجماعات الإسلامية الكردية، ومن أنشأها، ومن

يدعمها، ويقول هؤلاء أيضاً إن مخابرات صدام بارعة جداً في التغلغل بالجماعات

الصغيرة، ولذلك ليس من الصعب عليها أن تخترق جماعة مثل أنصار الإسلام،

تتكون من عدة مئات، ورغم أن هذا الادعاء ممكن من الناحية النظرية، إلا

أنه لا يمكن إطلاقه دون دليل، وقد اعترف الأميركيون أنفسهم في وقت ما أنهم لا

يجدون أي دليل على علاقة بين القاعدة وصدام حسين، وبينما تذكر الصحف

الأميركية أن مسؤولين كباراً في وزارة الدفاع جابوا العالم بحثاً عن أدلة على هذه

العلاقة فلم يجدوها؛ فإنهم أبدوا احتفاء كبيراً بتقرير صحفي كتبه مراسل لأحد

المجلات، واعتبروه فتحاً كبيراً، وأنه بمثابة الحلقة المفقودة؛ لأنه يتحدث عن

اعتراف أدلى به مجهولون يدَّعون الانتساب إلى جماعة الأنصار، وقالوا فيه إن

صدام يمولها، ويدربها.

وتدعي المصادر الكردية أن العلاقة بين القاعدة والعراق تعود إلى عام ١٩٨٩م

وأنها تطورت بعد حرب الخليج الثانية؛ حيث قام أيمن الظواهري بزيارة سرية

لبغداد، بعد عامين من الحرب، وأن هناك اتصالات تم رصدها مع أسامة بن لادن،

وادعى الاتحاد الوطني أنه اعتقل عميلين عراقيين كانا يقومان بمهام الوسيط بين

القاعدة والأنصار والمخابرات العراقية، وقد أدلى هذان العميلان عن طيب خاطر

بتفاصيل كثيرة عن طبيعة العلاقة، وحدداها، حتى وصل الأمر إلى القول إن قادة

الأنصار يتلقون رواتب ثابتة من المخابرات العراقية، وقالوا إن هناك شخصاً

مؤثراً جداً في الجماعة، هو أبو وائل، وهو في الأصل ضابط عراقي، وأنه قام

بدور كبير في التنسيق مع القاعدة في أفغانستان، ولكن مصيره أصبح مجهولاً بعد

الحرب الأميركية هناك.

وتتلخص العلاقة المزعومة بين صدام وجماعة أنصار الإسلام في تقديم الدعم

المالي والعسكري، والتدريب في مدارس المخابرات الخاصة، مقابل إثارة القلاقل

في مناطق الاتحاد الوطني، وتنفيذ بعض عمليات الاغتيال.

وفي الواقع تبدو الاتهامات بوجود هذه العلاقة هزيلة جداً:

فأولاً: الهوة سحيقة بين صدام حسين وتنظيم مثل القاعدة أو الأنصار؛

فمنطلق القاعدة والأنصار يرتكز على مفاهيم سلفية، لا يمكن بأي حال أن تتقارب

مع شخصية مثل صدام، والادعاء بتبدل إسلامي للرئيس العراقي غير صحيح،

ويكفي إثبات التضارب بين دعوى قدم العلاقة مع القاعدة عام ١٩٩٣م، وبين

إرجاع التبدل الإسلامي المزعوم لصدام إلى ما قبل خمس سنوات فقط.

وثانياً: وفقاً للاتهامات الموجهة للجماعة، فإنها تتلقى الدعم من القاعدة،

والعراق، وإيران، وبذلك تصبح الجماعة الوحيدة التي أجمعت عليها أغلب

الأطراف، وهو ما لم يحدث لغيرها أبداً، فهل يعقل ذلك؟

ثالثاً: رغم أن تبني الجماعة للنهج الجهادي يبرزها بقوة على الساحة، إلا

أنها تبقى في نهاية الأمر جماعة محدودة التأثير، والقدرات، على الأقل في الوقت

الحالي، استناداً إلى عدد أتباعها، مقارنة بجماعات أخرى والحزبين العلمانيين

الرئيسيين.

رابعاً: تحمل الجماعة، مثل أغلب الإسلاميين الأكراد، إرثاً من الذكريات

الدموية مع أجهزة صدام، ويكفي مأساة حلبجة التي حدثت لكونها في الأساس

خضعت لسيطرة الإسلاميين، ومن الصعب أن تغيب المذبحة في غياهب النسيان

من أجل تحالف وهمي وقتي مع الجزار الأكبر، ويعلم الإسلاميون يقيناً أنه في حال

تمكن صدام من السيطرة على مناطق الأكراد مرة أخرى، فسيكون دمهم أول ما

يراق بالسلاح العراقي.

خامساً: ليس من مصلحة صدام أبداً أن يحتفظ بعلاقة مع تنظيم القاعدة، أو

أي تنظيم آخر يشتبه في تبعيته للقاعدة، ولو كان هذا الادعاء صحيحاً، لما كان

الموقف الأميركي تجاه هذه القضية، بهذا الضعف.

وهذا النفي لعلاقة مدعاة مع صدام ليس دفاعاً عن جماعة الأنصار، ولكنه

دفع لهذه الدعوى التي ربما ينخدع بها من لا يجيد نظم الأمور في نصابها.