للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله]

(٢ ــ ٢)

محمد بن شاكر الشريف

في عدد ذي القعدة تناول الكاتب بعضاً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله، فذكر منها: مراعاة الظروف والأحوال المحيطة ببيئة الدعوة، ومراعاة المصالح والمفاسد، والحرص على هداية المدعوين. ويواصل الكاتب في هذا المقال ما بدأه في المقال المشار إليه.

- فمن سياسته -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله:

٤ - عدم التقيد بالأرض: فقد تضيق أرض الأوطان على رحابتها بالدعاة إلى الله بحيث يحاصَرون من كل جهة، فلا يتمكنون من الدعوة أو تبليغ الأمانة التي ائتمنهم الله ـ تعالى ـ على تبليغها لخلقه، وقد لا يقف الأمر عند حدود المنع والتضييق، بل يتعداه إلى أن يأتمر أهل الظلم والضلال بالدعاة ليقتلوهم أو يخرجوهم وينفوهم من ديارهم أو يحبسوهم رجاء فتنتهم وردهم إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها، وقد سجل القرآن الكريم هذه الأساليب كلها في محاربة المشركين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: ٣٠] الآية والإثبات هو الحبس والقيد والإخراج هو النفي والطرد والإبعاد، والقتل معروف وإذا لم تسمح لهم الأحوال باتباع تلك الأساليب لمنع الداعية من الدعوة إلى الله، أو لقوة الركن الذي يركن إليه من قبيلة أو عرف أو نظام، أو لعدم مواتاة الظروف لاتباع ذلك المنهج؛ فإنهم يعمدون إلى فتنة الداعية بالإغراء كي يحولوه عن طريقته، وقد سجل أيضاً القرآن الكريم هذا الأسلوب؛ حيث يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: ٧٣] الآية؛ فماذا يفعل الداعية إزاء هذا الوضع الحرج؟ هل يستسلم لذلك ويركن إلى بعض القواعد الفقهية ويتكئ عليها بغير ضوابطها الصحيحة كما يفعل ذلك بعض الناس الذين صعبت عليهم تكاليف الدعوة حتى يسوِّغ لنفسه مداهنتهم وترك مدافعتهم؟ إن للدعاة في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأسوة الحسنة في كل شأنهم: في العبادة، والدعوة، وفي السياسة وفي كل شيء.

لقد عانى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أشد المعاناة من إيذاء المشركين له في مكة المكرمة حتى قاطعوه هو وعشيرته وحاصروهم في الشعب حتى لم يجدوا ما يأكلونه، وضيقوا عليه كل التضييق، وحاصروه أشد المحاصرة حتى يحولوا بينه وبين لقاء الوفود ودعوتهم إلى الله؛ فماذا فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ كان -صلى الله عليه وسلم- يسعى إلى مقابلة الحجيج وعُمَّار بيت الله وزواره، وكان يجتهد في المحافظة على سرية هذه اللقاءات حتى لا يسعى المشركون في إفسادها، ولم يستسلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك، بل حاول في اتجاه آخر هو الخروج بالدعوة من الحصار الذي فرض عليها، فقام برحلته المشهورة إلى الطائف على رجليه والتي تبعد عن مكة قرابة ثمانين كيلو متراً كل ذلك في سبيل أن يكسر الطوق المضروب حول الدعوة، وهو ما يعني أن المسلم لا يجوز له أن يتضعضع أمام الواقع ويستسلم له ولا يبحث عن مخارج أخرى، بل عليه السعي والبحث، وكلما لاح له بارق أمل فعليه أن يسلك السبيل إليه مهما كان في ذلك من مشقة، ولما بلغ الطغيان بالمشركين مبلغاً عظيماً يفوق قدرة بعض المسلمين أذن لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهجرة إلى الحبشة، وبقي هو ومن يمكنه البقاء من المسلمين في مكة يواصلون مهمة الدعوة إلى الله إلى أن طفح الكيل بالكفار، ولم يعودوا قادرين على تحمل بقاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرهم، فعزموا على قتله، ووضعوا الخطة لذلك وشرعوا في تنفيذها، عندها لم يعد البقاء في مكة والحالة هذه يرجى منه تحقيق نفع للدعوة، وأصبح البقاء في هذه الحالة من قبيل الإلقاء باليد إلى التهلكة أو من قبيل تقديم حب الأوطان والديار على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، وكِلا الأمرين ممنوع في دين الله؛ فقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: ١٩٥] كما قال ـ تعالى ـ: {قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: ٢٤] ، وهذا يبين لنا جانباً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عدم التمسك بالأرض والتقيد بالوطن على حساب الدعوة، وإذا نظرنا نظرة إجمالية في ذلك فسنجد أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظل يدعو في مكة ثلاث عشرة سنة، ولم يترك مكة مع أول صدود أهلها أو مع تأخرهم وإبطائهم في الاستجابة، وهو ما يبين أن من السياسة الشرعية في الدعوة ألا يستعجل الداعية إيمان الناس واهتداءهم، بل عليه أن يبذل وأن يقدم ما دام هناك تقبل واستجابة ولو كان ذلك بطيئاً أو ضعيفاً؛ فإن الداعية لو كان كلما استعصت عليه محلة تركها، وذهب إلى غيرها لم يكد يستقر به المقام ولم يكد يحقق شيئاً، وسيظل ينتقل من مكان إلى مكان من غير فائدة أو جدوى؛ إذ غالبية الناس تظل فترة على المتابعة والتقليد لما وجدوا عليه آباءهم، ولا يتحولون عن ذلك إلا بعد جهد جهيد ومتابعة ومثابرة من الدعاة، ولذلك فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ظل مثابراً على المقام في مكة وهو يواصل الدعوة بكل ما أمكنه من سبيل، ولم يخرج منها إلا مكرهاً كما بين ذلك بقوله عن مكة حرسها الباري: «واللهِ إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» (١) .

ومن الأمور التي ينبغي التفطن لها أن تكوين الرجال في مثل تلك البيئة المخالفة للدعوة المشاقة لها رغم صعوبته ومشقته، لكنه يأتي في الغالب الأعم بعظماء الرجال؛ لأنه لا يصبر على تلك الأحوال أو لا يستجيب للدعوة في ذلك الحين إلا من رسخ الإيمان عنده حتى صار مثل الجبل في ثباته ورسوخه، ولك أن تقيس ذلك بما كان عليه إيمان المهاجرين الأولين وثباتهم في الدين، ويتبين هذا من أن النفاق لم يظهر فيمن استجاب للدين في مكة بعكس من استجاب للدين عند ظهوره وفشوه؛ فقد ظهر فيهم النفاق لأنه في مثل هذه الحالة يدخله الصادق الذي يرجو الله والدار الآخرة كما يدخله المنافق الذي يطمع في الحصول على المميزات، وأما عند الشدائد فلا يدخل إلا الصادقون، وقد نجحت تلك السياسة التي اتبعها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحفاظ على الدعوة وعلى الدعاة. أما الدعاة فلم يحمّلهم ما لا يطيقون، ولم يجعل ارتباطهم بالأرض والوطن مما يُحرص عليه إن أضر بدينهم، بل سمح لمن لا تسمح له أوضاعه القبلية بالحماية أو المنعة بالخروج إلى الهجرة أو الإسرار بالدين إلى حين الظهور والغلبة، وأما الحفاظ على الدعوة فبالمرابطة والتواجد وعدم إخلاء الساحة عند الشدة (ما لم تصل إلى حد القضاء على الدعاة وإفنائهم) ؛ فالفئة التي لم تستطع تحمل الأذى خرجت إبقاء وحفاظاً عليهم، والفئة القادرة على التحمل بقيت للقيام بالواجب، إلى أن وجد المسلمون أرضاً تقلهم (المدينة) وجماعة تؤويهم وتحميهم (الأنصار) فانتقلوا إليها بكليتهم؛ فالأرض كلها لله والمسلم يبذر بذرة في الأرض التي تقبلها حتى تؤتي أكلها: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: ٥٨] ، فإذا ضُيِّق على الدعاة في أوطانهم ولم يعد لهم إمكانية الدعوة لدين الله رغم توسلهم لذلك بمختلف السبل؛ فإن أرض الله واسعة {وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: ١٠٠] .

وبهذا يتبين أن الهجرة في سبيل الله عندما تسد السبل على الدعاة، وكذلك البقاء والقيام بالدعوة عندما يكون هناك أمل أو احتمال في الاستجابة كلاهما يتكامل في بيان معنى من معاني الجهاد والاجتهاد في تحقيق مرضاة الله؛ فليس المهاجر في سبيل الله الذي يترك وطنه ومسقط رأسه ليحافظ على دينه جناناً خوافاً خرج فاراً بنفسه تاركاً ما وجب عليه من الدعوة إلى الله، وليس من بقي بين القوم يدعوهم إلى الله متهوراً هجاماً على الأمور لا يقدرها حق قدرها، غير أن ترك الأوطان والهجرة منها ليس قدراً محتوماً في مسير الدعوات، وأنه ينبغي على كل داعية أن يهاجر من بلده كما هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره من الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وإنما هي سياسة جزئية يُلجأ إليها عند الحاجة، وإلا لو قُدِّر أن أهل البلدة استجابوا للدعوة لم يكن هناك ما يسوِّغ الخروج، بل الخروج في هذه الحالة يعد تفريطاً وتضييعاً للدعوة وإماتة لها، فلو أن أهل مكة آمنوا بالرسول لَمَّا دعاهم إلى الله من أول الأمر وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه لم يكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليهاجر ويخرج من مكة، ويدل على ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- الذي تقدم: «ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت» .

٥ - تقديم الأصول على الفروع: ومن السياسة في الدعوة إلى الله تقديم الأصول على الفروع؛ إذ الفرع الذي لا أصل له مقطوع مبتوت وإن طال به الزمن، وتقديم ما يلزم وجوده لصحة الأقوال والأفعال على الأقوال والأفعال نفسها، وهذا يتبادر لكثير من الناس أنه أمر منطقي لا ينبغي الاختلاف حوله أو العمل بغيره، لكن عند التطبيق نجد هذا الأمر مهملاً في كثير من الحالات، وقد أشار إلى هذه السياسة وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ ـ رضي الله عنه ـ عندما أرسله إلى اليمن داعياً، فقال له: «إنك تقدم على قوم أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله؛ فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تُرَدُّ على فقرائهم؛ فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوقَّ كرائم أموال الناس» (١) ، وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم: «فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم ... » الحديث؛ ففيه تقديم عبادة الله وتوحيده والإيمان برسوله -صلى الله عليه وسلم- على الصلاة والزكاة وسائر فروض الإسلام؛ إذ لا يصح شيء من أداء هذه الفرائض إلا بعد الإيمان، ومن هنا قدم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تعليمه لمعاذ في كيفية الدعوة أن يدعو أولاً إلى الأصل الذي تتوقف عليه صحة الأشياء قبل الأشياء نفسها؛ إذ لا فائدة منها إذا لم تعتمد على الأصل الذي يصححها، وفي هذا السياق تقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- عن القرآن: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد -صلى الله عليه وسلم- وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: ٤٦] ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده» (٢) . قال ابن حجر ـ رحمه الله ـ في شرح الحديث قَوْله: (نَزَلَ الحلال والحرام) أَشَارَتْ إِلَى الحِكْمَة الْإِلَهِيَّة فِي تَرْتِيب التَّنْزِيل، وَأَنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن الدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد، وَالتَّبْشِير لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُطِيع بِالْجَنَّةِ، وَلِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالنَّارِ؛ فَلَمَّا اِطْمَأَنَّتْ النُّفُوس عَلَى ذَلِكَ أُنْزِلَتْ الْأَحْكَام؛ وَلِهَذَا قَالَتْ: «وَلَوْ نَزَلَ أَوَّل شَيْء: لَا تَشْرَبُوا الْخَمْر لَقَالُوا: لَا نَدَعهُا» وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ النُّفُوس مِن النَّفْرَة عَنْ تَرْك الْمَأْلُوف» اهـ. فالالتزام بما جاء في الشرع عن الحلال والحرام والواجبات وغيرها يحتاج إلى قاعدة الإيمان؛ لذلك تأخر تشريع ذلك حتى استمكن الإيمان في القلوب، وهذه السياسة مما ينبغي على الدعاة مراعاتها في الدعوة إلى الله، فإنسان مثلاً يدعو غير الله ويستغيث به وهو في الوقت نفسه واقع في بعض البدع؛ فوجِّه همتك إلى نهيه عن الشرك واستغرق وقتك حتى يقلع عنه أو يتوب، ولا تصرف جهدك إلى نهيه عن البدع مع إقامته على الشرك؛ إذ ما الفائدة من تركه للبدعة وهو مقيم على الشرك؟ وإنسان تارك لبعض الواجبات لا تشغل نفسك بالحديث معه في بعض السنن، بل وجه همتك إلى الواجبات التي تركها؛ فإنه لو أطاعك واستمع لنصحك لكنت بذلك قد رحمته وسعيت في الخير له، وإذا تزاحم عليك أمران بحيث لم تتمكن من الجمع بين بهما فقدم الدعوة إلى ما يُعَدُّ أصلاً، ولا تشغل نفسك بالفرع، وإذا كان الأمران مما يعدان من الأصول فقدم أعلاهما منزلة، وإذا كانا في المنزلة سواء أو قريباً من السواء فقدم ما لا يحتمل التأخير ويضيع بخروج الوقت عما لا يضيع بالوقت أو كان وقته موسعاً، وإذا كانا في ضيق الوقت وسعته سواء فقدم المتفق على حكمه بين أهل العلم عما اختلفوا فيه؛ وهذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان يخطب المسلمين وبينما هو على تلك الحالة إذ جاءه رجل فقال: «يا رسول الله! رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه. قال: فأقبل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (٣) ، فلما أخبر الرجل بأنه لا يدري ما دينه كان أوْلى ما يشتغل به الرسول -صلى الله عليه وسلم- هو تعليم الرجل دينه، ولذلك ترك الخطبة وأقبل عليه يعلمه ولم يؤخر ذلك حتى ينتهي من الخطبة. قال النووي في شرح الحديث: «وَفِيهِ الْمُبَادَرَة إِلَى جَوَاب الْمُسْتَفْتِي وَتَقْدِيم أَهَمّ الْأُمُور فَأَهَمّهَا، وَلَعَلَّهُ كَانَ سَأَلَ عَن الإيمان وَقَوَاعِده الْمُهِمَّة. وَقَدْ اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ يَسْأَل عَن الإيمان وَكَيْفِيَّة الدُّخُول فِي الإسْلام وَجَبَ إِجَابَته وَتَعْلِيمه عَلَى الْفَوْر» اهـ.

وهكذا لا بد من مثل هذه الموازنات عندما لا يمكن تحقيق الجميع مرة واحدة، ولا يعني تأخير الحديث عن شيء أو السكوت عنه إباحة له؛ وإنما لأن هذا هو المتاح أو المقدور عليه أو الذي يقود إلى ما بعده، وقد يظن بعض الناس أن من الحكمة أو الحنكة أو السياسة وحسن التصرف واللباقة موافقة القوم على بعض ما عندهم من الباطل وعدم مواجهتهم بما يكرهون لإزالة الوحشة ولجعل الناس تُقبل على الدعوة وتقبل ما فيها، ثم يقولون: وبعد أن يرسخ الإيمان في قلوبهم يمكن نهيهم عما سبق موافقتهم عليه من الأخطاء، وهذا يعد من السياسة بمقتضى النظر العقلي الذي يتعارض مع النصوص الشرعية، ثم إنه قد يؤدي في النهاية وبمرور الزمن إلى ترسيخ تلك الأخطاء، وقد لا يجد الدعاة الفرصة المناسبة بعد ذلك لتصحيح تلك الأخطاء، فتظل عالقة بدعوتهم عند الناس، وهنا لا بد من التفريق بين السكوت عن النهي عن الشيء، أو السكوت عن الأمر به وبين الموافقة عليه وإقراره؛ فإن السكوت مما يمكن تحمله إذا لم تكن ظروف الدعوة تسمح بالجهر، أما الإقرار والموافقة على الباطل أو الخطأ فليس هناك ما يسوغه من أدلة الشريعة، بل الأدلة كلها على خلاف ذلك.

٦ - العناية بالأسباب مع عدم الاعتماد عليها: الداعية إلى الله يقوم بتلك المهمة انطلاقاً من التزامه بما شرع الله وحباً لهداية الناس إلى الخير، فتدفعه شفقته ورحمته إلى بذل الجهد في ذلك لكنه مع ذلك قد تعترضه بعض العوائق التي تحول بينه وبين مراده أو قد تضعف من همته في متابعة ذلك، وقد تكون بعض هذه العوائق مما يمكن التغلب عليها أو التقليل من تأثيرها عن طريق اتخاذ بعض السبل والوسائل التي تعين على ذلك، لكن هناك من الناس من يظن أنه ما دام يدعو إلى الله ابتغاء وجهه فإنه لا يحتاج إلى الأسباب وأن الله ناصر دعوته، وكأن هذا الشخص يرى أنه يجب على الله ـ تعالى ـ نصره بمجرد الدعوة إليه ولو مع ترك الأسباب، وهذا تصور غير صحيح ومما يبين عدم صحة إهمال الأسباب سياسة الرسول في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ فمن ذلك كانت دعوة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أولها سرية؛ فقد ظل يدعو إلى الله في سرية ثلاث سنوات (ما يقابل ١٣% من سني الدعوة) حتى لا يعرضها في أول أمرها إلى مواجهات حادة مع المشركين لا يستطيع تحملها كثير من الناس وفي ذلك أخذ بالأسباب وعدم إهمالها، وعندما كان يطوف على الناس في المواسم ويطلب النصرة ويقول: «من يؤويني، من ينصرني حتى أبلِّغ رسالة ربي» (١) ، فكان يبحث عن الناصر؛ وهذا من الأخذ بالأسباب ولم يقل إني أدعو إلى ربي على بصيرة، ولا عليَّ إذا لم آخذ بالأسباب أو أبحث عن النصير.

إن ترك تحصيل الأسباب المقدور عليها التي خلقها الله ـ تعالى ـ يعد تقصيراً يلام عليه العبد بحسب ما عنده من التقصير. وعند النظر في سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذ بداية الدعوة وحتى وفاته -صلى الله عليه وسلم- نجد أن العناية بالأسباب والأخذ بها وعدم التفريط فيها كان ديدناً له -صلى الله عليه وسلم-؛ فعندما جاءه الأنصار يبايعونه عند العقبة أخذ عليهم: «وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم» (٢) ، ومن ذلك أيضاً عندما عزم على الهجرة مع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ استأجر دليلاً خِرِّيتاً (أي ماهراً عارفاً بالطُرُق) يقود بهم ويدلهم على الطرق التي يستطيعون بها الخروج من غير أن يلحق بهم المشركون، والأمثلة على ذلك كثيرة. لكن العناية بالأسباب والأخذ بها لا يعني التوكل عليها أو الاعتماد؛ فإن التوكل والاعتماد إنما يكون على خالق الأسباب الذي جعل الأسباب أسباباً، وهو ـ سبحانه ـ قادر على أن يمنع الأسباب من أن تنتج نتائجها إذا شاء ذلك، وفي قصة الهجرة المتقدمة وعلى الرغم من الأسباب التي أخذ بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا أن الكفار من تتبعهم للأثر ومن متابعة الرصد أوشكوا على التوصل إلى مكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه؛ وهنا يظهر عون الله خالق الأسباب ومسبباتها ودفاعه عن المؤمنين؛ إذ يمنع الكفار من التوصل إلى الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه ـ رضي الله عنه ـ وتفصيل القصة معروف. وكما في قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ عندما أراد قومه أن يحرقوه فأبطل الله السبب، ومنع النار من الإحراق: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: ٦٩] . وهذا موسى ـ عليه السلام ـ عندما أراد فرعون وجنوده أن يقتلوه هو ومن آمن معه، ولما لم تكن به قدرة على مواجهته أخذ بالأسباب المقدورة له وهي الخروج بمن آمن معه من مملكة فرعون، ولما تبعه فرعون وجنوده ولم تعد لموسى ـ عليه السلام ـ حيلة في ذلك ألغى الله الأسباب، وجعله يُعْبُرُ هو ومن آمن معه البحر بالآية التي جعلها له: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: ٦٣] .

فالأخذ بالأسباب كان مَعْلَماً بارزاً من سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله تعالى. ومع الأخذ بالأسباب وإحكامها وعدم التقصير فيها فلا بد من التوكل على الله والاعتماد عليه والاستعانة به واللجوء إليه؛ فإن الأسباب لا تفعل من تلقاء نفسها، وإنما بجعل الله لها تلك الخاصية؛ وهذا رسولنا الكريم في غزوة بدر بعدما أعد العدة ونظم الجيش لجأ إلى الله يدعوه ويكثر من الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر من كثرة دعائه، وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يقص علينا ما كان من خبر ذلك الموقف فيقول: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض؛ فما زال يهتف بربه مادّاً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك..» (١) الحديث. فإعداد العدة وأخذ الأهبة والتوسل بالأسباب لا يمنع من الدعاء واللجوء إلى الله مسبب الأسباب، وكذلك اللجوءُ إلى الله ودعاؤه، واعتقاد أن النصر من عنده، وأنه الخالق لكل شيء، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا يمنع من الاجتهاد في الأخذ بالأسباب وإعداد العدد المناسبة لكل أمر يراد الدخول فيه، بل هما أمران يتكاملان في فهم المسلم وتصوره.

٧ - الاستفادة من أوضاع المجتمع: قد يحدث أن تكون هناك أوضاع في المجتمع يمكن الاستفادة منها في نفع الدعوة وحماية الدعاة؛ فلا يجوز للدعاة إهمال ذلك وعدم الانتفاع على أساس أن تلك أوضاع في مجتمع جاهلي أو معادٍ للإسلام فلا ينبغي العمل بها أو الاستفادة منها؛ وذلك لأن النظر ينصبُّ على طبيعة الوضع ومدى موافقته للشرع، ولا ينظر إليه من جهته الجغرافية أي البقعة التي يكون فيها؛ إذ الحكم على الشيء يعتمد على ما يحمله من أفكار وتصورات، وليس على المكان الذي يوجد فيه.

وبالنظر إلى سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك نجده قد استفاد هو وجمع من أصحابه من تلك الأوضاع؛ فقد كانت مكة المكرمة ـ بل والجزيرة العربية كلها ـ ينتشر فيها النظام القبلي، وفي هذا النظام فإن القبيلة تحمي أفرادها؛ فقد تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعض من أصحابه بذلك، وظلوا في حماية قبائلهم، فلم يتمكن المشركون من الوصول إليهم وإيذائهم الإيذاء الشديد، وكان من الأمور المتعارف عليها مسألة الجوار وهو أن من نزل في جوار أحد فإنه يحميه من أن يصل إليه أحد بسوء، فكان بعض المسلمين الذين لا يجدون قبيلة تحميهم ينزلون في جوار بعض كبراء المشركين فيحمونهم، وليس في هذا مخالفة شرعية؛ إذ كل ما فيه أن يتمتع المسلم بالحماية وشعوره بالأمان في التزامه بالإسلام وهذا حقه، وكونه نزل في جوار أحد المشركين فليس في ذلك ما يعاب عليه؛ لأنه لم يفعل ما يخالف الشرع؛ فعندما ذهب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف يدعو أهلها وردوا عليه بردهم القبيح لم يدخل مكة حينما رجع من هناك إلا في جوار المطعم بن عدي، وكذلك عثمان بن مظعون عندما رجع من هجرة الحبشة الأولى لم يدخل مكة إلا في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لما أراد الهجرة إلى الحبشة مما يلاقي من إيذاء قريش لقيه ابن الدغنة، وعرف مقصده، فعرض عليه الرجوع ودخل معه مكة وقد أجاره. فإذا كان الداعية إلى الله ـ تعالى ـ مضيَّقاً عليه، وكان في المجتمع الذي يدعو فيه أوضاع أو تنظيمات يمكن الاستفادة منها في الدعوة أو تدفع عنه شراً من غير أن يرتكب في سبيل ذلك شيئاً نهت عنه الشريعة؛ فعليه أن يستفيد من ذلك. ورغم أن الأوضاع الجاهلية الأصل فيها البعد عن الشريعة فلا يلزم من ذلك أن يكون رصيد الفطرة عندهم صفراً بحيث لا يكون في أمورهم ما يُقبل شرعاً، وهذه قريش رغم ظلمها وطغيانها مع المسلمين إلا أنهم عقدوا فيما بينهم عقداً لنصرة المظلوم (وكان ذلك قبل البعثة) وهو ما عرف بحلف الفضول قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت» (٢) ، وقد تتواجد اليوم في بعض المجتمعات بعض التنظيمات أو المؤسسات التي تحاول القيام بشيء شبيه بما كان في حلف الفضول؛ فلا عيب على الداعية إذا حاول الاستفادة من ذلك، أما إذا ترتب على ذلك مساس بالدين فعلى الداعية أن يكون أبعد شيء من ذلك؛ ففي قصة أبي بكر المتقدمة لما جهر بالصلاة وقراءة القرآن في مسجد فنائه وخيَّره ابن الدغنة بين عدم الجهر والاستعلان بالصلاة وبين أن يرد عليه جواره، اختار أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الاستعلان بالصلاة والجهر بقراءة القرآن، ورد على ابن الدغنة جواره، وقال: «أرضى بجوار الله» (٣) .

٨ - عدم المداهنة في الحق: كثيراً ما يتعرض أصحاب الدعوات إلى محن وشدائد حتى يخيل لبعض الناس أن من السياسة الحكيمة تجاوز تلك المحن أو الشدائد ولو بالتصريح ببعض الكلمات والجمل التي يكون في ظاهرها مخرج من تلك الشدائد وإن لم يكن ذلك الظاهر مراداً لهم، لكن الناظر في سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله ـ تعالى ـ لا يجد لذلك التصور سنداً، بل يجد سياسته على العكس من ذلك؛ فقد نزل عليه قول الله ـ تعالى ـ يحذره من المداهنة في الدين، ويقول له: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: ٩] فأهل العداوة للدين يريدون من أصحاب الدعوة أن يداهنوهم وهم على استعداد لمكافأتهم على ذلك بمداهنة الدعاة أيضاً من باب المقابلة بالمثل؛ فقد عرض الكفار على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعبدوا الله سنة في مقابل أن يعبد آلهتهم سنة، فأنزل الله ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: ١ - ٢] ليقطع الطريق على ذلك التصور بصورة حاسمة، وقد فهم ذلك المعنى جيداً جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعمل به في أشد المواقف حلكة؛ فقد هاجر هو وجماعة من المسلمين إلى الحبشة عند ملكها النجاشي وكان نصرانياً، وقد أرسلت قريش في أثرهم عمرو بن العاص ليردهم من عند النجاشي، وحاول عمرو أن يقدم المسوِّغ الذي يجعل النجاشي يسلم له جعفراً ومن معه، فقال له: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً؛ وذلك أن النصارى ترى عيسى ـ عليه السلام ـ إلها أو ابن إله؛ بينما المسيح في العقيدة الإسلامية هو بشر رسول من عند الله ـ تعالى ـ مثل إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم؛ فلما مثل جعفر بين يدي النجاشي، وسألهم عما يقولون في عيسى ـ عليه السلام ـ لم يداهن ولم يحاول أن يتلفظ بألفاظ أو كلمات توافق في ظاهرها اعتقاد النصارى، بل أجمع على الصدق وعدم المداهنة في الدين، وقال: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول العذراء. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: واللهِ ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، ولو حاول جعفر ـ رضي الله عنه ـ أن يداهن لانقلب الأمر عليه وعلى أصحابه؛ ذلك أن اعتقاد النجاشي في عيسى كان اعتقاداً صحيحاً؛ فعند الشدائد والأهوال قد يميل الداعية إلى المداهنة، ويتلفظ بألفاظ فيها نوع من الترضية لأهل الضلال، وإن كان هو يقصد بها في نفسه معاني صحيحة، لكن ليست العبرة بما في نفسه هو، وإنما بما يفهم الناس من كلامه؛ فلو كان الناس لا يفهمون من ذلك إلا ما يؤيد أهل الضلالة لم تكن تورية الداعية قد حققت إلا تأييد الباطل، وهذا بخلاف ما إذا كان يورِّي على الأعداء في الحرب أو القتال كما فعل محمد بن مسلمة ـ رضي الله تعالى عنه ـ عندما كان يخطط لقتل رجل من اليهود المحاربين، وقال له عن رسول الله ـ وهو يوري ـ: «هذا الرجل قد عَنَّانا» وبخلاف ما يقوله الأسير عندما يقع في أيدي الأعداء وكذلك الذي يُكرَه على كلمة الكفر؛ فإن هذا ونحوه ممن قال الله فيهم: {إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل: ١٠٦] .

غير أن هناك من الأمور التي قد يظنها الناس مداهنة وهي ليست من ذلك في شيء، وإنما هي كلمات حقيقية لا كذب فيها يقولها الداعية يستميل بها النفوس ويؤلف بها القلوب؛ فهذا جعفر ـ رضي الله تعالى عنه ـ يقول للنجاشي بعدما ذكر ما كانوا يلاقونه من المشركين في مكة: «فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك!» .

تلك كانت بعض الوقفات القصيرة مع سياسة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة إلى الله أما تفاصيل تلك السياسة فهي السيرة النبوية بكاملها على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولعلنا نرجع إليها في مناسبة أخرى على نحو أشمل وأكثر تفصيلاً.