للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منتدى القراء

[طلب العلم بين السلف والخلف]

بقلم: طارق محمد العمودي

من المسلّمات المعروفة: أنّ علماءنا الجهابذة (رحمة الله عليهم) لم يطلبوا

العلم براحة النفس والجسد، ولم تكن مجالسهم شكلية تضيع في القيل والقال، بل

ذاقوا أنواع المعاناة والمشقة والصبر، الأمر الذي تعجز الأسطر عن وصفه،

وضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما لا تجده في علماء أمة من الأمم السابقة؛ حيث

كانت مجالسهم ذات هيبة لما يتلى ويذكر فيها من الآيات والأحاديث، تتنزل عليها

الرحمات وتحفها الملائكة.

ولذلك: هجروا في سبيل طلب العلم النوم، والراحة، والدعة، وسائر

اللذات، قال أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي: (لا ينال هذا

العلم إلا من عطّل دُكانه، وخرّب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله إليه

فلم يشهد جنازته) [١] .

وقال الإمام بدر الدين بن جماعة معلقاً: (وهذا كله، وإن كانت فيه مبالغة،

فالمقصود به أنه لا بد فيه من جمع القلب، واجتماع الفكر ... ) [٢] وذلك في

طلب العلم والحرص عليه.

وقال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً، فقال له: يا أبا

عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين؟ يعني: ومعك المحبرة

تحملها؟ ! فقال: (مع المحبرة إلى المقبرة) [٣] .

وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: (كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا

أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا

أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى ... الموت) [٤] .

وقال الحافظ ابن كثير عن أمير المؤمنين في الحديث (الإمام البخاري) :

(وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه، فيوقد السراج ويكتب الفائدة

تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى وأخرى، حتى كان يتعدد منه

ذلك قريباً من عشرين مرة) [٥] .

وهذا الحافظ محمد بن فتوح الحميدي الأندلسي: كان ينسخ بالليل في الحر،

فكان يجلس في إجّانة ماء وهي إناء يغسل فيه الثياب يتبرد به [٦] .

وكانت هممهم العالية في طلب العلم تعينهم على الصبر على الفقر وشظف

العيش ومرارته، قال الإمام الشافعي (رحمه الله) : (لا يطلب أحد العلم ... بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه ببذل النفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح) [٧] .

وهذا ابن القاسم يقول عن شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس: (أفضى

بمالك طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه) [٨] .

وذكر عمرُ بن حفص الإمامَ البخاري، فقال: إنهم فقدوا البخاري أياماً من

كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه، فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما

عنده، ولم يبق معه شيء، فاجتمعنا وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً

وكسوناه، ثم اندفع معنا في كتابة الحديث [٩] .

وهذا إمام الشافعية في زمانه أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب) في

الفقه الشافعي، الذي أشبعه العلماء شرحاً وتحقيقاً وتخريجاً، كان لا يملك شيئاً من

الدنيا، فبلغ به الفقر مبلغه، حتى كان لا يجد قوتاً ولا ملبساً، ولقد كان يأتيه طلبة

العلم في سكنه، فيقوم لهم نصف قومة، ليس يعتدل قائماً من العري، كي لا يظهر

منه شيء! ! [١٠] .

وهذا الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن نفسه: (ولم أقنع بفن واحد، بل

كنت أسمع الفقه والحديث، وأَتْبَعُ الزهاد، ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحداً ممن

يروي ويعظ، ولا غريباً يَقْدُم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور

على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نَفَسي من العدو لئلا أُسبق، وكنت أصبح

وليس لي مأكل، وأُمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولو شرحت

أحوالي لطال الشرح) (١١) .

والصور المشرقة من هذا النوع في حياة علمائنا كثيرة.

إنّ المرء ذا التدين العادي، الذي قد لا يكون دارساً للشريعة، ليعجب من هذه

الصور والأمثلة الصادقة، والتي دلت على علو همة أصحابها، فيتأثر بها.

وأحرى أن يؤثر ذلك في طلبة العلم والدعاة والمربين اليوم.

ولكننا نجد فئة اليوم نسبت نفسها إلى العلم والوعظ، استبدلوا (الهاتف

الجوال) و (البيجر) بالمحابر، والمصاحف ذات الحجم الصغير، والمسواك الذي ما

كان يدعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل وقت مما أكّد سنيته، أقول:

استبدلوا هذا بذاك، فأصبحت جيوب ثيابهم منتفخة بها من غير حاجة أحياناً، ولكن

من باب التفاخر والترف والإسراف في صرف المال في غير محله.

ولست ممن يصدون عن الانتفاع بوسائل التقنية الحديثة، ولكن ليس الأمر

باندفاع من غير حاجة، فيكون من باب الترف والمباهاة والزهو.

وبدلاً من أن يجمعهم موعظة أو تدارس لطلب علم، أصبح يجمعهم ما هو

أدنى من ذلك بكثير من اللعب واللهو مثلاً، وقد يكون على حساب أوقات فاضلة

نص عليها الشرع.

وأصبح المجلس يمر بالساعات من غير إلقاء فائدة، ومن غير ذكر لله، ولا

ذكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأبدلوه بالكلام السطحي، وبآخر

موديلات السيارات وأسعارها، أو بنقد الآخرين ونسيان نقد أنفسهم أولاً، وأخشى

أن يكون ذلك حسرة يوم القيامة.

ومنهم من يتصدى لإمامةِ مسجد أو الأذان فيه، مع أخذ الأجرة عليه والمسألة

فيها خلاف بين أهل العلم، ومع ذلك: فحضوره قليل لانشغاله بوظيفته الأساسية أو

بتجارة.. أو غير ذلك مما لا يشفع له، فبأي حق يأخذ هذا الأجر.

ولا تسأل بعد ذلك عن الصورة السلبية التي تكونت عند المصلين بسبب هذا

الفعل.

هذه بعض الصور السلبية التي داخلت بعض طلبة العلم والدعاة والمربين في

يومنا هذا، وهم قلة ولله الحمد، وكلمتي خاصة بهم.

والله نسأل لنا ولهم العلم النافع والعمل الصالح.


(١) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، للخطيب البغدادي، ٢/١٧٤.
(٢) تذكرة السامع والمتكلم بآداب العالم والمتعلم، لابن جماعة، ص ٧١.
(٣) مناقب الإمام أحمد، لابن الجوزي، ص ٣١.
(٤) مناقب الإمام أحمد، ص ٣٢.
(٥) البداية والنهاية، ١١/٢٥ ٢) تذكرة الحفاظ، ٤/١٢١٩.
(٦) مقدمة المجموع للنووي، ١/٦٤، طبعة المطيعي.
(٧) ترتيب المدارك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض، ١/١٣٠.
(٨) تاريخ بغداد، للخطيب، ٢/١٣.
(٩) طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ٣/٩٠.
(١٠) من مقدمة (صيد الخاطر) ، ص ٢٧.