[المحاكم الإسلامية.. تجربة قصيرة ... ودروس كبيرة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تغزو فيها أثيوبيا الصليبية أرض الصومال المسلمة؛ فقد سبق أن دخلتها بين أعوام ١٩٩٢م و ١٩٩٨م، لمهاجمة إحدى الجماعات الإسلامية التي كانت معروفة آنذاك باسم (الاتحاد الإسلامي) بزعامة (الشيخ حسن عويس) وهذه الجماعة هي التي خرجت منها بعد ذلك (المحاكم الإسلامية) . وقد تولى الشيخ حسن عويس رئاسة المجلس الاستشاري للمحاكم، واسمه موضوع على قائمة الشخصيات التي تتهمها الولايات المتحدة والأمم المتحدة بالإرهاب؛ فالأحباش حَمَلَةُ راية الصليب في القارة الإفريقية، هم أول من اتخذ موقفاً عدائياً من أماني الشعب الصومالي في العودة إلى الاستقرار في ظل هويته الإسلامية الأصيلة.
لقد عاد الإسلاميون الذين طاردهم نصارى أثيوبيا، بعد نحو خمسة عشر عاماً، تحت اسم (المحاكم الإسلامية) فرحبت جموع الشعب الصومالي بخطواتهم الإصلاحية، والتفوا حولهم لإعادة البناء والاستقرار إلى بلد لم يذق للأمن طعماً منذ هلاك رئيسه الماركسي الأسبق (سياد بري) الذي كان همه الأكبر تحويل الشعب الصومالي إلى شعب ملحد وتابع للاتحاد السوفييتي آنذاك، فلما أزيح شره عن كاهل الشعب عام ١٩٩١م، تطلعت أمريكا إلى وراثة النفوذ الشيوعي في ذلك البلد، وفي القرن الإفريقي كله. وما هي إلا سنوات قليلة حتى كانت جحافل الأمريكان تطأ بأحذيتها الثقيلة أرض الصومال، بالدعوى المكرورة السمجة ذاتها التي ترفعها الولايات المتحدة كلما أرادت نهب بلد والهيمنة عليه، وهي جلب الاستقرار ونشر الديمقراطية! ولهذا أطلقت على عملية غزو الصومال عام ١٩٩٣م اسم (إعادة الأمل) ثم تبين أن حقيقة هذا الأمل عند الأمريكان هي وضع اليد على الثروات الهائلة لهذا البلد الفقير التي لم تُستغل بعدُ، وهي ثروة اليورانيوم، والمعادن، وكذلك البترول الذي تنقب عنه شركات أمريكية.
لا زلنا نذكر أن ذلك الشعب المنهَك في جراحه، تغلّب على تلك الجراح وقاوم الغزاة القادمين عبر القفار والبحار، ليضربوا مظهر قوته ويسلبوا بقايا قُوتِه ليضموا ذلك إلى أكداس إمكاناتهم الجشعة. وفوجئ الأمريكان، ودهش العالم كله من أن ذلك الشعب الأعزل لم يكن سهل المراس ولا قليل الحيلة؛ فقد تصدى شرفاؤه للغزاة، ونكَّلوا بجنودهم، وكان مشهد واحد من مشاهد تلك المواجهة كافياً لأن يجر الأمريكيون أذيال الهزيمة، ويقرروا الانسحاب الفوري بعد أن تناقلت شاشات العالم مشهد ضابط أمريكي قتله المجاهدون ضمن ١٨ جندياً، وتركوا جثته للعوام والأطفال كي يسحلوها في شوارع مقديشو، وهو ما جعل الشعب الأمريكي يطالب بالانسحاب الفوري تعاطفاً مع شخص واحد من أفراد القوة المعتدية؛ بالرغم من أن الصوماليين فقدوا بسبب ذلك الغزو مئات الضحايا، وتسببت لهم الحرب الأثيوبية ضدهم وضد إرتيريا في مقتل ما لا يقل عن ٧٠ ألفاً من البشر.
منذ تلك الهزيمة الأمريكية والشعب الصومالي مغضوب عليه من الولايات المتحدة، ومن منظمات ما يسمى بالشرعية الدولية؛ فقد تُرك هذا الشعب ليعاني الويلات في أتون الاحتراب الناشئ عن صراعات العصابات والميليشيات المسلحة الموالية لهذا الطرف أو ذاك، ولم تكن تلك الحال المستمرة لنحو خمسة عشر عاماً، لتجعل المجتمع الدولي يذرف دمعة على ذلك البلد المسلم المنكوب!
ولكن ... ما إن بدأت طلائع إصلاح الأوضاع على أيدي بعض الإسلاميين من المحاكم وغيرها لتخليص البلاد والعباد من فوضى السلاح وأمراء الحرب، حتى شمَّرت دول الجوار القريبة للتنسيق مع دولة الجور البعيدة ـ أمريكا ـ لإطلاق عملية جديدة، كانت بحق عملية (إبادة الأمل) الذي بدأ يلوح في الأفق لذلك الشعب المظلوم.
بدأ التحرش بتسليط عصابات إجرامية على حركة المحاكم الإسلامية باسم قوات محاربة الإرهاب، ولم تكن تلك القوات إلا صنيعة أمريكية رخيصة الصنع رديئة المعدن من المنافقين الخُلَّص، ولهذا فسرعان ما قضت عليها قوات المحاكم الإسلامية، وظل جزء من عصابة العملاء محتمياً بأعداء الصومال، وهم أعضاء ما يسمى بالحكومة الانتقالية. ولما ضُيِّق على هؤلاء الخناق ولم يعودوا يصلحون للتعويل عليهم في محاربة الإسلاميين، أوعز الأمريكيون لإخوانهم الصليبيين الأثيوبيين بالتدخل المباشر، تحت ذريعة (محاربة الإرهابيين) !!
وقد جهزت أمريكا للغزو بتدريب وحدات خاصة من القوات الأثيوبية، وزرعت بعض الجواسيس داخل صفوف المحاكم بغرض إيقاع الخلاف والإرجاف بينهم، وعقدت صفقات مع بعض أمراء الحرب الذين أسقطتهم المحاكم، أو من لحقوا بها لإقناع الجميع بالانقلاب عليها مرة ثانية، وقدمت الدعم المالي والعسكري واللوجستي والاستخباراتي لتقوم بالغزو نيابة عنها.
كان العدوان الأثيوبي الأمريكي للصومال، هو الحرب الأمريكية الرابعة في الألفية الثالثة ضد العالم الإسلامي، بعد حرب أفغانستان والعراق ولبنان، وكانت المسوغات الحقيقية لتلك الحرب لا تختلف كثيراً عن مثيلاتها السابقات: السيطرة على الأماكن الاستراتيجية في العالم الإسلامي ... ضرب أي قوة ناهضة فيه، وبخاصة إذا كانت توجهاتها إسلامية ... تمكين دولة اليهود من البقاء كقوة إقليمية وحيدة ضاربة في الشرق الأوسط بكل مناطقه الاستراتيجية.
دروس مستفادة:
أسفرت تلك الحرب على قِصَر مدتها وتسارُع أحداثها عن دروس وعبر بالغة، نذكر منها ما يلي:
(١) لا زالت القاعدة العامة من شعوب الأمة الإسلامية على أصل فطرتها وحنينها للإسلام، مهما كانت وسائل التضليل والتجهيل، وهذه الشعوب تعبر عن هذا الحنين والعاطفة بالالتفاف حول الرموز الإصلاحية الإسلامية. وقد كان التفاف الشعب الصومالي حول المحاكم الإسلامية صورة رائعة من هذا السلوك الواعي الذي يتكرر في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي؛ فالجماهير تلتف حول العلماء والدعاة الصادقين، وتشارك في جهود الجماعات العاملة للإسلام، سواء في جهود الخير أو جهاد الأعداء؛ وهذا ما يضاعف المسؤولية على النخب الإسلامية عموماً في إحسان التعامل مع تلك الشعوب التي تمثل في مجموعها أمة محمد #، خير أمة أخرجت للناس.
(٢) أمريكا تتصرف في العالم على أساس أنها قاعدة الشرعية وقائدة الأمم دون نواب أو انتخاب، ودون منافشة أو مشورة، ولسان حال رئيسها الأرعن يقول: (أنا العالم) مثلما كان أحد ملوك أوروبا السابقين يقول: (أنا الدولة) ! وعندما يُقْدِم بوش على غزو دولة عربية إسلامية مستقلة ذات سيادة، دون إذن من أحد ـ حتى من حلفائه ـ ودون اعتبار لعرف عالمي أو قانون دولي، فإن هذا يبرهن على أن أمريكا في حاجة إلى من يتعامل معها بالمثل، في عدم المبالاة، وإلا فإن العالم أجمع بسكوته، يقر لها بحقها المطلق وحق زعيمها الأخرق في أن يفعل في البشرية ما يشاء!
(٣) في كل مرة تُظهِر الأمة رغبتها في العودة إلى كامل هويتها بالإقبال على الشريعة، نرى تنكراً سريعاً وهائجاً ومتضامناً من طواغيت العالم، ما يلبث أن يتحول إلى تحالف غير مقدس بين الكفار والمنافقين، ليبرهن الكفار من جهة على أن عداوتهم عقائدية، ويبرهن المنافقون من جهة أخرى على أن ولايتهم ليست لأمتهم، بل للأعداء الظالمين المعتدين الكافرين، وأن عداوة أحزاب النفاق لا تقل عنهم بل تزيد، وهذا ما بينه القرآن في مواضع كثيرة، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: ١٤٠ - ١٤١] .
(٤) الإسلاميون يبرهنون مع الزمن على أنهم يمثلون أماني شعوبهم، وهم يقودونهم إلى مقاعد الشرف ومعاقد العز بهذا الدين، بخلاف المنافقين على اختلاف أطيافهم وراياتهم، حيث يجرُّون الأمة كُرهاً إلى مواقع البلاء ومعاطن الفقر والذل والتبعية؛ وهو ما يدل على أن مفهوم (المواطنة) كأساس للانتماء وصدق الولاء، مفهوم أعوج؛ فكم من أبناء وطن من الأوطان أباً عن جد، هم أكثر الناس بُعداً عن الأمانة واقترافاً للخيانة لذلك الوطن في مواضع الخطر، بينما يكفي الانتماء للإسلام بحق، أن يكون المرء من أخلص الناس لبلد من بلدان الإسلام، وهو غريب عنه أو ضيف عليه.
(٥) من الأمور المؤسفة حقاً أن موالاة أعداء الأمة بعضهم لبعض، أكثر ظهوراً وأعمق آثاراً، من موالاة طوائف الأمة بعضهم لبعض في أزمنة الفتن وآونة الخطر، وهذا مما يحيِّر الألباب؛ فالمراقب لتداعي مواقف الأعداء بالنصرة والتأييد في كل مواجهة مع الإسلام، يدمي قلبه، وهو يرى في الوقت نفسه مواقف الخذلان وقلة النُّصرة، وبخاصة في المواقف الرسمية المتخاذلة التي لا تُغني عنها كثيراً المواقف الشعبية المكبَّلة، بينما رأينا مراراً ـ ومؤخراً في حالة الصومال ـ تداعي الكفار والمنافقين للنصرة، لإجهاض تلك التجربة الإسلامية الوليدة، لكتم أنفاسها وهي لا تزال في مهدها.
(٦) بينما كانت قوافل الغزاة تتدفق على العاصمة مقديشو وهي عاصمة من عواصم (الجامعة العربية) و (الاتحاد الأفريقي) وبينما كانت الطائرات تخترق أجواء بعض البلدان العربية ـ بإذن أو بغير إذن ـ كانت غالبية الحكومات والمنظمات والهيئات العربية والإفريقية والإسلامية تغط في نومها، أو تلتهي بأحوالها، وهو ما يؤكد أن قضايا الإسلام على المستويات الرسمية، لم تعد في وارد الاهتمام إلا بما يرتبط منها بالمظاهر والمصالح، وإلا فكيف سكتت بعض الحكومات.. و (تفهمت) بعض الزعامات ... وشاركت بعض القيادات في إسقاط عاصمة عربية إسلامية تحت أقدام الغزاة، ضد جزء أصيل من شعب الصومال، لم يُعرف بشيء مما اشتهرت به عصابات الخراب، التي كان يُرَحَّب بها ـ ولا يزال ـ في بعض العواصم العربية.
(٧) إذا كانت الحرب العالمية على ما تسميه أمريكا بـ (الإرهاب) هي في جوهرها حرباً على الإسلام، فإن جوهر تلك الحرب على الإسلام يؤول في النهاية إلى حرب على شريعة الإسلام؛ فهذه الشريعة وحَمَلَتُهَا وحُمَاتها ودعاتها والمطالبون بها والمجاهدون من أجلها، هم موضوع تلك الحرب الشاملة، صدَّقنا بذلك أم ضحكنا على أنفسنا، وإلا ... فالمتأمل في أحوال العالم الإسلامي منذ أكثر من قرن من الزمان، يجد أن المعركة هي معركة الشريعة، كان الكفار يخوضونها بأنفسهم أولاً، ثم وكَّلوا المنافقين بإدارتها، في صورة حرب مفتوحة ضد الإسلاميين المطالبين بالشريعة والداعين إليها والمجاهدين من أجلها. ولهذا كانت المعركة دائماً بين الإسلاميين وبين العلمانيين المنافقين تدور حول محور الشريعة.
(٨) رسالة المحاكم الإسلامية كانت العودة بالشعب إلى رحاب الشريعة سلمياً، ووصف هذه المحاكم التي كان يقوم على إدارتها قضاة ودعاة وطلاب علم بالإرهاب، يدل على حقيقة المراد بهذا الوصف، ومؤخراً وُصِفَ الإسلاميون السالكون سبل السلم مع مجتمعاتهم، في كل من فلسطين ومصر وغيرهما بالإرهاب؛ فأي شريحة جادة في الأمة يمكن أن تنجو من هذا الوصف المؤهل لشن الحرب وتجفيف المنابع؟! إن الأمر يحتاج إلى وقفة حاسمة للوقوف ضد هذا (الإرهاب) الممارَس ضد الإسلام باسم الحرب على الإرهاب.
(٩) إذا كانت معركة (المحاكم الشرعية) قد أضيفت إلى قائمة معارك (حاكمية الشريعة) ؛ فإن المنتظَر والمؤمَّل، أن تظل حاكمية الشريعة هي قضية المحاكم الشرعية، وقضية غيرها من الجماعات والحركات والدعوات الإسلامية؛ إليها تدعو، ولها تمتثل، وعليها تُفاصِل، ومن أجلها تجاهد؛ فهذا هو طريق الانتصار في معركة الشريعة، مهما طال مشواره. أمَّا إذا تخلينا أو تخلى بعضنا عن حمل أمانة الشريعة، باسم المصلحة أو المصالحة، فإن هذه هي الهزيمة حقاً؛ فالهزيمة قبل أن تكون على الأرض، تكون في القلب والعقل، ولهذا لم يقبل العقلاء قول من قال بأن المحاكم الإسلامية قد هُزمت، ولا الطالبان قبلها قد هُزموا، لا ولا الشيشان ولا غيرهم من سائر المناضلين تحت راية الشريعة ... ما داموا حاملين رايتها.. وساعين في نصرتها.