المسلمون والعالم
أين الصين في المعركة حول العراق
داخل مجلس الأمن أو على الأرض؟
طلعت رميح [*]
منذ أن اشتدت أزمة العراق، وعبر مراحلها المختلفة التي وصلت إلى حد
الأزمة الدولية، وإلى أن وصلت للعدوان العسكري واحتلال الأرض والسؤال الذي
يتردد هو: أين الصين؟ لقد ظهرت ألمانيا في موقف بالغ القوة في مجابهة
الولايات المتحدة وهي الدولة التي لا تملك مقعداً دائماً في مجلس الأمن.. كما
ظهرت فرنسا كنِدّ في مجلس الأمن وتصاعد موقف روسيا؛ إلا أن الصين وهي
المرشح الأول لمنافسة أمريكا كدولة عظمى ظهرت عبر تلك الأزمة التي عصفت
بالوضع الدولي وتحوَّلت إلى أزمة دولية غير مسبوقة، وعصفت بالأمم المتحدة بعد
أن ضربت بها أمريكا عرض الحائط.. إلا أن الصين لم يأت ذكرها إلا في المرتبة
الرابعة بعد فرنسا وروسيا وألمانيا حتى إنها الدولة الوحيدة خارج أمريكا وبريطانيا
التي لم تهدد باستخدام حق النقض الذي تمتلكه في مجلس الأمن الدولي.
ومن يتابع موقف الصين يلحظ أنه ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك
منظومته والتغير الحاد الذي أصاب وزنه ودوره الدولي ربما تحت ضغط الشعور
«ببرودة» الوضع الدولي بعد انكشاف «الغطاء الموهوم» للعرب دولياً من قِبَل
الاتحاد السوفييتي والمثقفون والكتاب والمفكرون العرب، يستدعون بين الحين
والآخر دوراً للصين ويرجونه، كلما ازداد الشطط الأمريكي في عسكرة السياسة،
وكلما وجهت للأمة ضربة جديدة. وقد ارتكن هذا الاستدعاء للموقف الصيني غالباً
للحديث المتكاثر وهو صحيح في حد ذاته حول الصعود الاقتصادي للصين وإلى
فكرة تعدد الأقطاب في العالم.. أي ظهور أقطاب دولية أخرى في مواجهة الهيمنة
الأمريكية وهو الآخر صحيح في حد ذاته باعتبار الصين هي من أول الدول
المرشحة إلى هذا الدور. غير أن الملاحظ هو أن ثمة هوة واضحة وربما تحير
البعض بشأنها بين هذا الصعود الدولي للصين وبين مواقفها من قضايا الأمة العربية
والإسلامية خلال مواجهاتها المتعددة مع الولايات المتحدة؛ ذلك أنه وبغض النظر
عن أن هذا الاستدعاء لدور الصين في جوهره ناتج عن افتقاد الرؤية بإمكانية قيام
قطب إسلامي دولي، والسعي خلف ذلك الهدف الاستراتيجي بديلاً عن الاستدعاء
الدائم لقوة خارجية للحماية؛ فإن الأهم فيما نحن بصدده هو أن المواقف السياسية
التي صدرت عن الصين حتى الآن تجاه قضايا الأمة جاءت مخيبة للآمال وبما
يتناقض مع التصور السائد بأن صعود الصين لا بد أنه سيأتي من خلال مواجهة
الهيمنة الأمريكية.
ففي مجال المواجهة الدائرة حول العراق يغيب صوت الصين أو يكاد.. حيث
لم تصوِّت الصين ضد أي عدوان عسكري على العراق خلال فرض الولايات
المتحدة وبريطانيا مناطق الحظر الجوي في شمال وجنوب العراق، كما لم تصوت
الصين قبلها ضد أي قرار من القرارات الجائرة المتوالية ضده.. بل كان صوت
فرنسا وروسيا أعلى من صوت الصين على الأقل في أجهزة الإعلام والمواقف
الرسمية المعلنة. حينما احتدمت المواجهة حول العراق في مجلس الأمن الدولي
وتحولت إلى أزمة دولية تهدد الأمم المتحدة، وصارت تقسم العالم بوضع دولي
جديد تماماً غاب صوت الصين، بل جاء ترتيبها في المواجهة مع أمريكا بعد دولة
مثل ألمانيا التي لا تمتلك موقعاً دائماً في مجلس الأمن، وبعد فرنسا الدولة الغربية
حليفة الولايات المتحدة، وبعد روسيا الجريحة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وهو
موقف سبق أن تشابه مع الموقف في مجال القضية الفلسطينية والمواجهة العربية
الإسلامية مع الحلف الصهيوني الأمريكي؛ حيث لم يسمع للصين صوت.. حتى
بشأن المجازر الصهيونية التي جرت وتجري.. فما بالنا إذا كان المطلوب هو
المراهنة أو التمني باستخدام حق الفيتو. هذا في الوقت الذي يعلن بين الحين
والآخر عن صفقات تسليح مع الكيان الصهيوني، أو بمعنى أدق صفقات تستورد
بمقتضاها الصين أسلحة من الكيان الصهيوني وهو الأمر الذي يقوّي اقتصادياته
وصناعته الحربية بشكل خاص، ويعني كذلك درجة من الارتباط العسكري
التسليحي والخططي بين الجيشين الصهيوني والصيني. وحينما اشتعلت وقائع
العدوان الأمريكي ضد أفغانستان على حدود الصين جاء الموقف الصيني مخيباً لكل
المراهنات، حتى إن باكستان التي يحلو للاستراتيجيين دوماً القول بأن قنبلتها
النووية تنطق باللغة الصينية وأن باكستان هي حليف الصين في المنطقة على الأقل
في مواجهة الهند وجدت نفسها في حالة انكشاف استراتيجي في مواجهة الضغوط
الأمريكية والصهيونية والهندية.. وفي اللحظات التي بلغت التهديدات الهندية
ذروتها ضد باكستان.. باستخدام الأسلحة النووية لم تحرك الصين ساكناً؛ حتى إن
التصريحات التي صدرت عقب زيارة الرئيس الباكستاني للصين في ذروة تصاعد
الصراع بشأن موقف الصين جاءت على لسان الرئيس الباكستاني لا على لسان
المسؤولين الصينيين. وإذا عدنا للوراء قليلاً نجد أن الصين وافقت على كل
القرارات الخاصة بتيمور الشرقية ولم تعارضها، ونفس الأمر كان بشأن كل ما
جرى في البوسنة وكوسوفا. وبينما المواقف الصينية على هذا الحال استمرت
الأنباء المتواترة عن سوء أوضاع المسلمين في الصين تراوح مكانها دون تغير.
ويزيد من وطأة هذه المواقف أو مما يصيب التحليلات حول دور صيني في مواجهة
الهيمنة الأمريكية بالاضطراب، هو أن هذه المواقف الضعيفة أو المائعة أو الموافقة
على إجراءات عدائية تجاه القضايا العربية والإسلامية، جاء على نقيضها مواقف
متشددة ضد الولايات المتحدة فيما يخص القضايا المتفجرة في المحيط الحيوي
للصين، حيث كان الموقف الصيني حاسماً وقوياً ولم يقبل المساومة في قضية
طائرة التجسس الأمريكية التي اسقطت داخل الأراضي الصينية كما كان الموقف
الصيني حاسماً في قضية قصف مقر السفارة الصينية في جمهورية الصرب والجبل الأسود؛ كما كان الحال نفسه في قضايا تايوان وهونج كونج الذي وصل حد التهديد باستخدام القوة العسكرية في بعض الأحيان. كيف إذن نفهم مواقف
الصين تجاه قضايا الأمة: العراق، وفلسطين، وأفغانستان؟ هل نعتبر الصين
دولة تكيل بمكيالين هي الأخرى في القضايا الدولية؟ وهل انضمت الصين إلى
الحلف الأمريكي ضد العرب والمسلمين؟ وما الفرق بين المراهنة على موقف
الصين مسانداً لقضايا الأمة في مواجهة الولايات المتحدة وبين القول بأنها قطب
صاعد دولياً في مواجهة الولايات المتحدة؟
* السياسة الدولية في العالم الراهن:
لفهم الوضع الاستراتيجي والسياسة الدولية للصين.. وربما لفهم السياسة
الدولية الراهنة ينبغي إدراك عدة أمور:
أولها: الجديد في أسلوب إدارة الصراعات الدولية.
وثانيها: طبيعة الشبكة العنكبوتية الاقتصادية وتأثيراتها في مجال السياسات
الخارجية للدول في الوضع الدولي الراهن.
وثالثها: العوامل التي تتحدد في إطارها السياسة الخارجية الصينية
وأولوياتها.
وبصدد الجانب الأول فإن ثمة ضرورة لمراجعة المفاهيم القديمة في أساليب
إدارة الصراع الدولي والإمساك بالمتغيرات الجديدة في أساليب الصراع. لقد
سيطرت لغة الحرب على أسلوب إدارة النزاعات الدولية بين الدول المتصارعة
على السوق العالمي ومراكز النفوذ والثروات في العالم الثالث خلال الحقبة الأولى
من مطلع القرن الماضي، فكانت الحربان الأولى والثانية بين الدول المتنافسه في
الغرب. غير أن ظهور الاتحاد السوفييتي والصين بعد الحرب الثانية لم يغير فقط
من التوازنات الدولية وإنما غيَّر كذلك من أساليب إدارة الصراع الدولي نفسها،
فشهدنا ما سمي بالحرب الباردة وحروب الوكالة في العالم الثالث أو بالدقة على
أرض العالم الإسلامي أساساً وعلى جسده الجغرافي والسكاني.
وفي الجانب الثاني فإنه وبانتهاء الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة
بالعالم حدث تغيران متلازمان: الأول هو تحول الولايات المتحدة باتجاه استخدام
القوة العسكرية ضد الدول الأضعف. أما المتغير الثاني فهو بروز دور الولايات
المتحدة في ممارسة الضغوط الاقتصادية على الدول الكبرى وليس الصغرى فقط..
وتلك هي المرحلة التي نعيشها الآن؛ حيث تتقيد أدوار الدول والكتل الدولية بقيود
ثقيلة في الجوانب الاقتصادية والعسكرية. أي أن الصراع الدولي في الفترة الراهنة
ليس صراعاً مفتوحاً وليس بلا حدود، ومن ثم فلا يتوقع مثلاً أن تصل درجة
الصراع بين الدول الكبرى إلى حد التلويح بالقوة وهو الأمر الذي يعني احتمالات
الانزلاق نحو استخدام الأسلحة النووية؛ ذلك أن حالة التداخل الاقتصادي باتت
تشكل مراكز للضغط على القرار في الدول بما يقلل احتمالات التفكير في هذه
الخيارات المدمرة خاصة في المواجهة مع الولايات المتحدة بشكل خاص التي تملك
أكبر فائض من رؤوس الأموال التي تستثمر في الخارج بشكل مخطط ومدروس.
وخلاصة الأمر هنا هو أن حالة الاستدعاء للدور الصيني تأتي ارتباطاً بمفاهيم
وأساليب قديمة لممارسة الصراع الدولي.
وفي الجانب الثالث: فإن العوامل التي تتحدد في إطارها ثوابت السياسة
الخارجية الصينية هي أنها بلد يمثل ٢٠% من سكان العالم؛ ومن ثم فإن الجانب
الاقتصادي السكاني يحتل أهمية بالغة. وإنها بلد يمتلك حتى الوقت الراهن قدرة
نووية رادعة أكثر من امتلاكه قدرة نووية وتكنولوجية هجومية. كما أنها بلد في
واقع الحال ما يزال في مرحلة الخروج من دوامات العالم الثالث اقتصادياً وعسكرياً -
تحصل الصين حتى الآن على قروض من البنك الدولي منخفضة العائد باعتبارها
من الدول الأفقر في الدخل - وأنها لا يمكنها - على الأقل - في المرحلة الراهنة
الدخول في صراع مباشر أو واسع مع الولايات المتحدة على الأقل استفادة من
تجربة الاتحاد السوفييتي. وإنه إذا كانت هناك ضرورات في هذا التحول فإنه لا
يمكن أن يجري إلا بسرعة حركة الفيل ودون اندفاع. والصين كذلك تدرك أنها بلد
يحيطه من كل جانب المشكلات والدول المرتبطة بالولايات المتحدة خاصة اليابان
التي تلوح الولايات المتحدة بين الحين والآخر بإعادة دورها العسكري في مواجهة
الصين وكوريا إضافة إلى الهند. وما يعنيه ذلك هو أن الصين تعاني في محيطها
الاستراتيجي من مشكلات استراتيجية لا بديل عن تسويتها ولا بديل عن احتلالها
الأولوية الأولى في هذه المرحلة.
وبالإجمال فإنه ليس فقط الظروف والتعقيدات في أساليب الصراع الدولي
الجديدة هي التي تتحكم في مواقف الصين من قضايا العالم العربي والإسلامي ولكن
أيضاً الأولويات الاستراتيجية للصين في محيطها الاستراتيجي هي ما تجعل قضايا
العالم العربي والإسلامي متأخرة في سلم الأولويات في السياسة الخارجية الصينية.
* الصين والقضايا العربية:
لا تمثل المنطقة العربية في المرحلة الراهنة من الاستراتيجية الصينية دولياً
مكانة رئيسية؛ حيث الأولوية بالصراع الحيوي في منطقة آسيا، أي محيطها
الاستراتيجي المباشر، وهي منطقة تضم أهم الدول الصاعدة في العالم أو الدول
الأكثر تاثيراً (روسيا واليابان والهند) وبمقارنة المصالح الاقتصادية وهي القضية
الأكثر حيوية للصين وتطورها - مع الولايات المتحدة والغرب - بالمصالح
الاقتصادية والسياسية مع العالم العربي فإن الكفة تميل بلا شك لصالح الأولى
وخاصة أن الدول العربية والإسلامية لا توجه أي قدر من استثماراتها إلى ذلك البلد
في الوقت الذي تتدفق الاستثمارات الغربية عليه حتى قيل إن المستثمرين
الأمريكيين يسعون إلى تحويل الصين إلى هونج كونج كبرى وهي استثمارات ولا
شك بات لها دور في التأثير على القرار الصيني بدرجة أو بأخرى؛ فهي تعمل
داخل الاقتصاد الصيني منذ السبعينيات خلال مرحلة التحالف الأمريكي الصيني في
مواجهة الاتحاد السوفييتي. ويضاف إلى ذلك أن المنطقة العربية كانت تاريخياً -
خلال مرحلة الحرب الباردة - إما مع الاتحاد السوفييتي، وإما مع أمريكا حتى إن
الصين لم تجد لها موطئ قدم في المنطقة طوال هذه الحقبة، فذهبت بعيداً إلى
إفريقيا لتمارس دورها العدائي ضد السوفييت. وإذا كان الأمر يتعلق بالأسواق
العربية فهي مفتوحة أمام الصين بلا قيد ولا شرط، وجاء انضمام الصين إلى
اتفاقية التجارة العالمية ليعطيها حقاً كبيراً في تصدير سلعها إلى مختلف أنحاء العالم.
ومن ثم فإن السؤال ليس هو: أين الصين من قضايا العالم العربي والإسلامي؟
وإنما هو: لماذا نتوقع دوراً للصين في مساندة القضايا العربية والإسلامية وفي
مواجهة الولايات المتحدة؟ لكن هل يعني ذلك أن الصين ليست قطباً صاعداً في
مواجهة الولايات المتحدة؟ بالقطع لا؛ فالصين هي من أول الدول المرشحة في
العالم للصعود في هذه المواجهة وتلك قضية أخرى لكن المقصود هو أنه ليس معنى
صعود الصين أن تكون مواقفها إلى جانب العرب والمسلمين، وكذلك التأكيد على
أن الصراع الدولي وتعديل توازناته وصراع المصالح باتت له أساليب أخرى تحتاج
إلى مراجعة وفهم.
* الصين تنتظر:
ويمكن القول من جانب آخر إن الصين تعد في مرحلة انتظار.. الانتظار إلى
موقف تتمايز فيه القوى الدولية إلى حد عدم الرجعة مرة أخرى، وربما حتى تنهك
القوى الدولية نفسها في الصراعات لتصبح الأوضاع مهيأة لبروز الصين بأقل قدر
من الصراعات والإنهاك.. أي أن الصين تتبع نفس الاستراتيجية الأمريكية خلال
الحرب العدوانية الثانية (الحرب العالمية الثانية) أي الانتظار خارج الصراع
المباشر مع البقاء على مقربة منه، وحين تنهك الصراعات الدول المشتبكة تدخل
هي الحلبة لتكون الأكثر تحقيقاً للمكاسب، والأكثر قدرة على البروز في الوضع
الدولي.
(*) رئيس تحرير جريدة الشعب - القاهرة.