للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الفتنة الطائفية ومستقبل المنطقة]

مازن أبو بكر عبد الله باحميد

بات من الواضح أن هناك جهات نافذة في العراق تدفع بالبلاد نحو مواجهات طائفية بين الشيعة والسنة. ففي حين تبادر هيئات عراقية إلى تجريم أي عمليات قتل تنال المدنيين في العراق شيعة وسنة، تحجم جهات أخرى عن انتقاد عمليات القتل التي تنال الرموز السنية؛ وتبين لاحقاً وحسب تصريحات (الشيخ حارث الضاري) أن هناك فصيلاً سياسياً شيعياً على الأقل يشارك في عمليات التصفية التي تنال علماء وائمة السنة بدافع طائفي مستغلاً في ذلك وجود الاحتلال الأمريكي؛ حيث تجري مثل هذه العمليات تحت اسم محاربة الإرهاب والتي تعتبر بدورها مطلباً أمريكياً ملحّاً لإحكام القبضة الأمريكية على بلاد الرافدين.

وفي تصريح خطير حول حادثة قتل تعرض لها مجموعة من الشيعة في العراق قبل شهور قال (عبد العزيز الحكيم) : إن الإرهابيين قد عزموا على قتل الشيعة ولا بد من إبادتهم ـ القول إن (الحكيم) قصد الإرهابيين دون المقاومة الوطنية خطأ فادح؛ لأن (الحكيم) لا يعترف بوجود مقاومة مشروعة أصلاً ـ ولا تزال تصريحات (الحكيم) تدور في هذا الفلك، وهو بذلك يريد أن يحمِّل المقاومة السنية المسلحة المسؤولية عما يحدث. ومثل هذا التصريح يعبر بوضوح عن النظرة الطائفية التي ينظر بها المذكور إلى الأحداث، ويبين رغبته في أن تُفهَم أعمال المقاومة التي تنفذها فصائل المقاومة السنية ضد الاحتلال الأمريكي في العراق بأنها مواجهة بين هذه المقاومة والفصائل الشيعية المسلحة بصورة مباشرة لاتخاذ ذلك ذريعة لتصفية الرموز والقيادات السنية في العراق.

إن حرباً أهلية في العراق قد تكلف الجميع سنة وشيعة الكثير؛ وحرب مثل هذه لن تكون مضمونة النتائج لأي من الطرفين؛ حيث ستلعب الأطراف الخارجية سواء الإقليمية أو الدولية دوراً كبيراً في أي حرب طائفية؛ فإيران لن تكون بعيدة عن أي مواجهات طائفية شاملة في العراق، وهذا ما سيفرض على دول المنطقة (وبخاصة دول الخليج العربي) ودول أُخرى بعيدة عن المنطقة استحقاقات أمنية تدفع بها إلى دعم الطرف السني في حرب كهذه؛ وذلك لكبح النفوذ الإيراني حول منابع نفط الخليج وهو ما سيعيد المنطقة إلى أجواء الحرب العراقية الإيرانية، وهي مرحلة لا يرغب الجميع في أن تعود مرة أخرى.

إن فهم تصريحات (الحكيم) هذه والتي قد تكشف جزءاً من السياسات الشيعية في العراق، وهل هي دعوة لحرب طائفية أم لا يجب أن يؤخذ في الاعتبار البعد الطائفي الذي ترتكز عليه مثل هذه التصريحات؟ وإذا كان ذلك حاضراً فمن الضروري أن ننظر للحدث كجزء من التحركات الطائفية التي لا تعترف بالحدود إلا ما كان حداً طائفياً؛ حيث تشهد المنطقة ومنذ سنوات حراكاً سياسياً وتبشيرياً شيعياً إقليمياً يدار وينظم من داخل الجمهورية الإيرانية.

إن المتابع للتحركات الشيعية في المنطقة بمجملها يدرك تماماً أنها تسير وفق منهجية سياسية مترابطة ومرسومة سلفاً، وتسير باتجاه تحقيق هدف واحد. فمنذ قيام ثورة الخميني في إيران رفعت شعارات تصدير الثورة بوصفه هدفاً استراتيجياً للسياسة الإيرانية لمرحلة ما بعد الثورة، وهو ما يعني أن إيران ستعمل على توسيع هيمنتها الثقافية والسياسية لتعم منطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ونتيجة لضعف الأداء السياسي للقيادة الإيرانية آنذاك وعدم قدرتها على انتقاء أساليب التغيير المناسبة واختيارها لأسلوب القوة والمواجهة لتصدير الثورة دخلت المنطقة على إثر ذلك في مرحلة من الاحتقان الأمني، واشتعلت خلالها الحرب العراقية الإيرانية نتيجة طبيعية لمقاومة الرغبة الإيرانية في التوسع.

وبعد أن دخلت المنطقة تحت الوصاية الأمريكية في أعقاب حرب الخليج الثانية لم يعد أمام القيادة الإيرانية هامش للمناورة العسكرية؛ وذلك لوجود الثقل العسكري الأمريكي بالمنطقة، فدأبت إيران من حينها على العمل السياسي عن طريق دعم الكتل السياسية الشيعية في البلاد المجاورة وعلى رأسها العراق ـ بعد أن تعلمت من حربها مع العراق أن لا جدوى من الأسلوب التصادمي لتصدير الثورة ـ وذلك لإحداث اختراقات سياسية قد تفتح الطريق أمام تحقيق حلم تصدير الثورة والهيمنة الإيرانية على المنطقة، كما أزداد النشاط التشييعي كداعم مهم للتحركات السياسية الإيرانية في المنطقة، وأوضح مثال على ذلك (حركة بدر الدين الحوثي) في اليمن التي انتهت بمواجهات في جبال مران مع الحكومة اليمنية. وقد تركز النشاط في دول بلاد الشام لوجود تجمعات شيعية قادرة على تحقيق مكاسب سياسية. وقد بات واضحاً أن هناك ملامح لهلال شيعي يتشكل ليمتد من إيران وحتى الجمهورية اللبنانية مروراً بالعراق وسورية؛ حيث سيكون هذا الهلال بمنزلة قاعدة للانطلاقة الكبرى لتصدير الثورة والنفوذ نحو المنطقة الأوسع في الجنوب؛ وهو الأمر الذي دفع بالملك عبد الله ملك الأردن إلى التحذير من ذلك بسبب أن الأردن أقرب الدول جغرافياً من الهلال الشيعي المرتقب.

وقد حققت السياسة الإيرانية الكثير في هذا الجانب نتيجة لعدم وجود مشروع سياسي أو ثقافي منافس ـ لم يعد للمشروع القومي وجود والمشروع السياسي الإسلامي لم يرَ النور بعد ـ حتى جاءت أحداث سبتمبر التي فرضت على الولايات الأمريكية أولويات في سياساتها الشرق أوسطية ـ حيث تنظر أمريكا إلى المنطقة على أنها مصدر الإرهاب المعادي لأمريكا والغرب، ولا بد من إعادة الصياغة الثقافية والسياسية للمنطقة بما يضمن محاربة الإرهاب وانكفاءه في المنطقة كما يرون ـ بما يتماشى مع المطلب الأمريكي، وبما يضمن الأمن القومي للولايات المتحدة على المدى الأطول. وتبلورت السياسة الأمريكية في المنطقة في مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تعمل الولايات المتحدة من خلاله على تطويع الثقافة والسياسة في المنطقة لتكون في خدمة المصالح الأمريكية والغربية، وترتب على ذلك إعادة ترتيب الخريطة السياسية للمنطقة، وبدأ المشروع الأمريكي كنهاية لكل المشاريع السياسية والثقافية العاملة في المنطقة بما في ذلك المشروع الإيراني الشيعي.

وهكذا فان المتابع للأحداث في بلدان الهلال الشيعي المرتقب يلحظ القوة التدميرية للمشروع الأمريكي ـ لبنان أوضح مثال ـ الذي يستند إلى التفوق المطلق الذي تتمتع به الولايات المتحدة في كل موازين القوى، كما يلحظ المراوغة التي يبديها المشروع الشيعي الذي يعتمد على استغلال الطائفية لتحقيق مآربه، والذي يجتهد اليوم في تحصيل سياسات توافقية لتحقيق مكاسب سياسية في ظل الأجواء السياسي التي فرضها المشروع الأمريكي في واقع المنطقة. ويبدو المشروع الإيراني هو الأضعف إذا ما حسبنا نقاط القوة والضعف بين المشروعين؛ ومن هنا نفهم الليونة الإيرانية وتحاشي الارتطام المباشر مع المشروع الأمريكي؛ فالإيرانيون على قناعة من أن المشروع الأمريكي مشروع قوي وجاد ولا يمكن إيقافه، وأنه قد بات واقعاً في المنطقة ولا بد من البحث عن أمثل الطرق للتعامل معه.

ولعل الحسابات السياسية الإيرانية في المرحلة الحالية تنطلق من الأتي:

١ ـ قناعة النظام في إيران بعدم قدرة الجمهورية الإيرانية على مقاومة المشروع الأمريكي عسكرياً أو استخباراتياً، أو الوقوف بأي شكل من الأشكال أمام القوة الأمريكية للتفوق الأمريكي المطلق في موازين القوى المادية، لكنَّ الإيرانيين على استعداد للقيام باي إجراء تكتيكي من شانه التضييق على المشروع الأمريكي.

٢ ـ قناعة النظام في إيران بأن المشروع الأمريكي وإن التقى مع المشروع الإيراني في وحدة العدو (أهل السنة) إلا أنهما لن يلتقيا في الأهداف النهائية؛ فالهدف الأمريكي هو تعزيز النفوذ الأمريكي الغربي في المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وأن الولايات المتحدة لن تسمح بقيام أنظمة حكم تدار من طهران وتدعم النفوذ الإيراني بطريقة يُقوَّض من خلالها النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة كما يحلم الإيرانيون.

٣ ـ ولكن مع ذلك لا بد من استغلال نقاط التوافق لتوجيه ضربات قوية للسنَّة في المنطقة على الصعيد السياسي والثقافي، واستغلال الأمريكيين لإضعاف السنة، وكذلك استغلال السنة لإضعاف المشروع الأمريكي ما أمكن ذلك؛ بحيث تكون إيران هي المستفيد الأكبر مما يجري اليوم، ولتبقى هي القوة الوحيدة التي ستجني ثمار ما يحدث اليوم في نهاية الأمر.

٤ ـ قناعة النظام في إيران بأن المنطقة قادمة على حدوث تغيير مرتقب يبدو أنه سيكون على الطريقة الأمريكية، وسيلقي هذا التغيير بثقل سياسي كبير على النظام في إيران بخاصة والعالم يعيش في عصر الإنترنت والآفاق المفتوحة. وقد يكون هذا التغيير على طريقة القوى السياسية الفاعلة في المنطقة (من الإسلاميين) وذلك في حالة حدوث انسحاب أمريكي، وترى إيران أنه لا بد من عمل شي لاستيعاب هذا التغيير القادم.

إن أهم ما تعترض عليه المرجعيات الشيعية في المشروع الأمريكي أنه يساوي بين السنة الذين لا يوجد منسِّق لجهودهم والشيعة الذين توجد لهم دولة تدعمهم بالمال وتنسق جهودهم وتصوغ سياساتهم، وهي العوامل التي ساعدت الشيعة على تحقيق نجاحات كبيرة على الصعيد السياسي؛ حيت ترى هذه المرجعيات الشيعية أن المشروع الأمريكي يفوِّت عليها فرصة ثمينة لتحقيق المزيد من المكاسب السياسية في هذه المرحلة من تاريخ السنة الذي يتميز بالضعف الشديد.

عندما نتحدث عن السنَّة يجب أن نفرق بين معنيين: السنَّة بمعنى الهوية التي يكتسبها الإنسان بطريقة وراثية تلقائية، والسنة كهوية ليست محارَبة من الأمريكيين؛ فهي مثل أي هوية اخرى، وهذا المعنى ما نقصده هنا. والمعنى الثاني للسنة في السياسة هو الفكر السني المنبثق عن الكتاب والسنة؛ وهذا هو المحارَب من قِبَل الغرب والولايات المتحدة على اعتباره ـ بزعمهم ـ ثقافة الإرهاب.

أما الشيعة فهم لا يفرقون بين الفكر السني والهوية السنية؛ فكلاهما محارَب لاعتبارات طائفية تاريخية ـ ولتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية للشيعة في ظل التغيير الحاصل والظروف التاريخية الآنية في المنطقة مما يجب الحد من حجم الشريك السني والإبقاء عليه ضعيفاً لا يستطيع تسوية صفوفه تحت قيادة قوية وموحدة؛ وذلك عن طريق القضاء على كل ما قد يساعد في قيام ودعم تكتلات سنية سياسية فاعلة تكون نداً حقيقياً للقوى الشيعية الفاعلة اليوم، وخاصة في دول الهلال الشيعي الذي أنفقت إيران فيها الكثير من الجهود والأموال لترسيخ المشروع الإيراني. وتأتي تصفية القيادات السنية البارزة كحل أمثل؛ حيث يضمن المشروع الشيعي من خلال تصفية الرموز والقيادات السنية المؤثرة في الشارع السني إضعاف التكلات السنية؛ بحيث تصبح هذه التكلات غير قادرة على الاستفادة القصوى وتحقيق مكاسب سياسية في أجواء التغيير الأمريكي الذي يهب ريحاً عاصفة على المنطقة الإسلامية؛ وذلك لعدم وجود قيادات ذات كفاءة تستطيع أن تحشد الشارع السني خلفها، وتستطيع أن تناور القوى الشيعية، أو مَنْ يدور في فلكها.

وبهذا تكون حركة الشارع السني في تخبط مستمر كما هو حاصل في العراق اليوم، بل في كل ارض تهب عليها رياح التغيير الأمريكية؛ ومن ذلك ما يجري في لبنان؛ إذ يجب أن يُنظَر لعملية اغتيال الحريري من هذا الباب ـ حيث تأتي عملية اغتيال الحريري الزعيم السني القوي بعد صدور القرار ١٥٥٩ وذلك إعادة صياغة للتوازنات السياسية في لبنان تحسباً للوضع السياسي الذي ينشأ في لبنان بعد الانسحاب السوري ـ وبهذا يستطيع الطرف الشيعي احتواء المشروع الأمريكي سياسياً وبصورة كبيرة، والتأثير في توجهاته؛ حيث ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التعامل مع القوى الشيعية التي تتمتع بنفوذ قوي لدى الشارع الشيعي؛ إذ تستطيع القيادات الشيعية التأثير بقوة على الشارع الشيعي وتجنيده لخدمة أجندتها متى ما أرادت ذلك كما هو حاصل في العراق اليوم ـ أفراد قوات الشرطة والجيش العراقيين أغلبيتهم من الشيعة ممن استطاعت مرجعياتهم أن تدفع بهم إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية ـ وتعتبر عمليات تصفية القيادات السنية هي الأسلوب الأمثل لتقويض القوى السياسية السنية، وهي في الحقيقة بمكانة إعلان حرب طائفية لكن بأسلوب مدروس هذه المرة يحقق النتائج المنشودة (إضعاف السنة) ويقلل من الخسائر في الطرف الآخر خاصة.

وإن الوضع العالمي اليوم يمكِّن الطرف الشيعي المؤيد في تشيعه ـ الغرب لا يرى في الفكر الشيعي المنبثق عن أصول المذهب خطراً على مصالحه ـ من التحرك بقوة على حساب الطرف السني الذي تُهمتُه في سنيته؛ ومن هنا يجب أن نفهم عمليات الاغتيال التي تنفذها قوى شيعية في العراق وعلى رأسها (قوات بدر) التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق؛ وذلك في حق شخصيات قيادية سنية؛ مستغلةً في ذلك الفوضى الأمنية ووجود الاحتلال الأمريكي.

ويبدو أن الشيعة في العراق ـ على عادتهم ـ يفضلون ممارسة سياساتهم في الخفاء، لكن ما إن كشف (الشيخ حارث الضاري) أفاعيلهم تلك حتى بادر (عبد العزيز الحكيم) بتصريحات تهدف إلى التبرير لاستمرار هذه العمليات، وأعتقد أن (الحكيم) بهذه التصريحات لا يمانع من أن تحدث في العراق بعض المواجهات الطائفية المحدودة، وخاصة أن الطرف الشيعي في العراق اليوم يحتمي بالقوة الأمريكية التي تجد نفسها كذلك متورطة أمنياً في العراق ومجبرة للتعامل مع الفصائل الشيعية لكبح جماح المقاومة السنية التي ترفض الاحتلال وتدك معاقل الأمريكيين في العراق.

والواضح هنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف جيداً الإطار الطائفي الذي يتحرك فيه شيعة العراق، ولهذا هم لا يوافقون على أن يستحوذ الشيعة على كل مقاليد الحكم في البلاد، وبالذات المناصب المتعلقة بالجيش والدفاع، ويأملون في إسناد مثل هذه المناصب إلى من يحمل الهوية السنية دون الفكر السني؛ لأن مثل هذه المناصب إذا ما وقعت بين ايدي الشيعة في العراق فإن ذلك سيعزز الجبهة الإيرانية في المنطقة، وهو ما يخل بالتوازن الإقليمي قي الشرق الأوسط المحكوم بإرادة دولية قوية؛ لأن مصالح القوى الدولية تقتضي عدم وجود محور إقليمي قوي في المنطقة يستطيع أن يتحكم بإمدادت النفط العالمية. فالنفط هو مفتاح النشاط التجاري في الغرب ومن هذه المنطقة يتنفس الاقتصاد العالمي برمته. والغريب أن المرجعيات الشيعية الذين قامت ثورتهم في إيران على شعار (الموت لأمريكا) يفضلون التعاون مع الأمريكيين في العراق للقضاء على المقاومة السنية، ولا يفضلون التعامل مع المقاومة السنية للقضاء على الاحتلال الأمريكي؛ إنه الحقد الطائفي الذي يبدو أنه كان من أهم مبادئ ثورة الخميني في إيران والذي بدأ يؤتي ثماره الخبيثة في كثير من دول العالم الإسلامي.