عند التأمّل في موروثنا الثقافي على المستوى الشعبي ـ على الأقل ـ نجد احتفاءً كبيراً بالعقل والذكاء على حساب الاحتفاء بالعلم والمعرفة. وربما كان ذلك بسبب ضآلة دور المعرفة في تطوير الحياة آنذاك وقلّة تطبيقاتها العملية. أما اليوم فإن الأمر آخذ في التبدّل على نحو جذري. إن الله ـ جلَّ وعلا ـ وزَّع الذكاء على مستوى الأمم والشعوب بالتساوي، إذ ليس هناك شعب مكوَّن من النابهين والأذكياء الأفذاذ، كما أنه ليس هناك شعب عبارة عن مجموعات من البُلهاء والمعتوهين. في الماضي كان الفارق بين أمم الأرض على مستوى المحصول المعرفي والمنتج الحضاري ليس كبيراً، لكن اليوم هناك فروقات واسعة، تجعل المقارنة غير ذات معنى. إن في العديد من دول العالم شعوباً تعيش حياة لا تختلف كثيراً عن حياة أسلافها قبل عشرة قرون، كما أن بين دول العالم اليوم من يفكرون النقل في الأشياء عبر الأثير بعد أن تمكّنوا من نقل الأفكار والمعلومات والأموال..
هذا الفارق بين أمم الأرض ليس من صناعة العبقرية والتفوق الذهني، وإنما هو من صناعة البحث واكتساب المعرفة وتوظيفها واعتماد منهج التجريب. وصار من الواضح ـ اليوم ـ أن الذي ينفق أكثر على البحث العلمي يكتشف سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق، ويتعرف على طبائع الأشياء، ويحصل ـ من ثم ـ على المزيد من براءات الاختراع. وأودُّ من أجل تدعيم هذه النظرة أن أوضِّح الآتي:
١ ـ الذكاء نعمة كبرى من الله تعالى، ولكن العقل مهما كانت إمكاناته كبيرة لا يعمل على نحو منتج وموثوق من غير أن نزوِّده بمعلومات جيدة وملائمة؛ إنه أشبه بالرّحى، حيث إنها مهما كانت ممتازة، فإنها لا تطحن، ولا تقدِّم لنا شيئاً من غير تزويدها بشيء من الحبوب. وإذا زوّدناها بقمح فاسد ـ مثلاً ـ فإنها تعطينا دقيقاً فاسداً. الاختراعات الموجودة والمتزايدة مدينة لعمل العقل في المعرفة وللمناهج التطبيقية التي توصَّل إليها النابهون من أهل الاختصاصات المختلفة. ولذا؛ فإن من الممكن القول: إن العقل من غير معرفة هباء.
٢ ـ إن الإنسان من خلال الإمكانات الذهنية التي زوّده الله ـ تعالى ـ بها ومن خلال المبادئ التي يؤمن بها، ومن خلال المعارف والخبرات التي اكتسبها يشكّل إطاراً مرجعياً، يحاكم إليه المواقف والأحداث والأشياء، كما يحلّل من خلاله الماضي، وينظر إلى المستقبل، أي: يمتلك عقلانية خاصة به. وما دام هناك تفاوت بين كل مكونات العقلانية لدى الناس، فإن لنا أن نقول بنسبية (العقلانية) ، وإذا كان الأمر كذلك فإنه ليس من حق أحد أن يتخذ من عقلانيته مَحْكمة لإدانة عقلانيات الآخرين.
لا شك أن هناك تصرفات يدينها كل العقلاء مهما كانت نوعية تكوينهم العقلاني، فالاستدانة من الناس من أجل الإنفاق في أشياء ترفية وعلى نحو مسرف، لا يلقى القبول من أحد، وكسر يد طفل من أجل ردعه عن عمل قبيح، شيءٌ يدينه كل العقلاء ... لكن إلى جانب هذا هناك أشياء كثيرة ينظر إليها الناس على أنها أشياء قبيحة، وينظر إليها آخرون على أنها تدخل في نطاق الحرية الشخصية، وهم في كل ذلك يحكمون من خلال تكوينهم الثقافي. حين غزا الأوروبيون أفريقية في القرن التاسع عشر، أبدوا استياءهم من تبذل وتكشف المرأة الأفريقية؛ لأنهم نظروا إليها من خلال المرأة الأوروبية والتي كانت وقتها محتشمة، ثم تغيرت الأحوال، وتجاوزت المرأةُ الأوروبية المرأة الأفريقية بمراحل، دون وجود استنكار يذكر من قِبَل المجتمعات الأوروبية. وينظر كثير من الغربيين إلى عفّة الفتاة قبل الزواج على أنه يعبِّر عن تزمّت أو عن مرض نفسي أو عن نقص في اللياقة الاجتماعية. وكل هذا بسبب أن عقلانيتهم ومعايير الحَسَن والقبيح لديهم نسبية ومتحركة، بسبب عدم استنادها إلى ثوابت وأصول (لا بشرية) .
بناءً على كل هذا فإن ما نسمعه من بعض الكُتّاب والمفكرين في وصف سلوكيات الآخرين بأنها غير عقلانية أو غير منطقية أو غير عصرية أو غير حضارية، يجب أن يتلقى على أنه يعبِّر عن مرجعية فكرية خاصة، قد تكون صحيحة، وقد لا تكون صحيحة. ونحن هنا وفي أمور كثيرة أخرى نواجه مشكلة غموض المصطلحات ونسبيتها وقابليتها للتحيّز والتوظيف غير النزيه، وعلينا دائماً أن نحاول بلورة المصطلح وتوضيحه إلى أقصى حدٍّ ممكن، ثم نتحدث عن الأسس التي يقوم عليها المصطلح.
٣ ـ كل مرجعية ثقافية أو عقلية تظل نسبية ونزّاعة إلى أن تكون شخصية وخاصة، ما دامت تقوم على خبرات البشر ورُؤاهم وتقديراتهم. والحقيقة أن العقل البشري ليس مؤهلاً لإنتاج المبادئ الكبرى، فهو (عقل أداتي) في المقام الأول. ونحن المسلمين نحمد الله ـ تعالى ـ الذي ملّكنا الأصول والمبادئ التي تشكل الإطار الذي يعمل خلاله العقل، حيث ننعم باليقين تجاه الكثير من الأمور، وهناك مرشدات وموجِّهات كثيرة تجعل معظم أعمالنا أقرب إلى الصواب. والذي علينا أن ننشط فيه هو أن نثقّف أنفسنا، ونمدّ عقولنا بالمعلومات الحديثة، ونحاول الإلمام بطبيعة عمل العقل والأخطاء التي يمكن أن يقع فيها. إن الشريعة الغرّاء تمنحنا القواعد والأصول والمبادئ الكبرى، وعلينا أن نثقّف عقولنا كي نبدع في إيجاد الأساليب والأدوات التي نخدم من خلالها ديننا، ونصلح دنيانا. والله ولي التوفيق.