المسلمون والعالم
[البعث.. ما هو الدور الجديد؟!!]
د. يوسف بن صالح الصغير [*]
لقد عاش المشرق العربي حالة من الضياع وعدم الاتزان بعد هزيمة الدولة
العثمانية في الحرب العالمية الأولى ومن ثم سقوط الخلافة الإسلامية؛ فقد انسحبت
القوات العثمانية من العراق والشام متراجعة أمام قوات الإنجليز والثوار العرب،
ومفسحة المجال لبريطانيا وفرنسا لتنفيذ اتفاقية سايكس بيكو السرية لتقاسم أراضي
الدولة العثمانية؛ بحيث تكون الشام من نصيب فرنسا لإنشاء كيان نصراني في
لبنان، وتكون فلسطين وشرق الأردن والعراق من نصيب الإنجليز الذين كان همهم
الأساس هو إقامة كيان يهودي في فلسطين.
ويلاحظ أن الجهد الأساسي في هذه المنطقة قامت به بريطانيا وبدون مشاركة
فرنسية، حيث تم الاتفاق مع الشريف حسين وأولاده على الثورة والمشاركة في
العمليات العسكرية في بلاد الشام والحجاز الذي شاركت فيه قوات الإنجليز مع
قوات المستعمرات من أستراليا وجنوب أفريقيا، أما بخصوص الحملة على العراق
فقد شاركت فيها قوات إنجليزية وهندية. وقد حاولت بريطانيا نتيجة لذلك حكم
معظم بلاد الشام عن طريق تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا وأخيه عبد
الله أميراً على شرق الأردن، وفرض حكم مباشر على فلسطين والعراق.
وقد تعرقل المشروع بسبب الثورات العراقية المتتالية ضد الإنجليز، وبسبب
التدخل العسكري الفرنسي لأخذ نصيبهم من المنطقة وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو.
لقد تعرضت قوات الإنجليز في العراق للعديد من الثورات، ولاقت الإدارة
البريطانية في العراق صعوبات جمة في السيطرة على العراق وخصوصاً بعد ثورة
آب ١٩٢٠م والتي أجبرت الحكومة البريطانية على تغيير سياستها بالتحول من
استعمار مباشر إلى حكومة إدارة وطنية تحت الانتداب، وكان الملك فيصل بن
الحسين، الذي طردته القوات الفرنسية من الحكم في سوريا بعد هزيمة القوات
السورية في معركة ميسلون هو أقوى المرشحين لمنصب ملك العراق، وأخيراً توج
ملكاً على العراق في يوم ٢٣/٨/١٩٢١م بعد استفتاء أجري من قِبَل الإدارة
الإنجليزية، وهكذا تم نقل خدماته من دمشق إلى بغداد آخذاً معه دعاة القومية
العربية الذين التفوا حوله في سوريا ومن أشهرهم ساطع الحصري الذي تولى حقيبة
التربية والتعليم في العراق.
لقد تميزت فترة الانتداب بقيام نظام جمهوري برلماني في سوريا، وملكية
دستورية في العراق والسماح بمظاهر ديمقراطية؛ ولكن نقطة الضعف الأساسية هو
عدم وضوح الهوية؛ فقد نجح الاحتلال في إسقاط فكرة الجامعة الإسلامية، وحاول
جاهداً تشجيع كل راية جاهلية مما أوجد حالة من الصراع العنيف بين اتجاهات
كثيرة لسد الفراغ، وكانت الشعارات غير الإسلامية، تتفاوت بين الفينيقية
والآشورية والقومية الوطنية والشيوعية.
ومن جانب آخر ظهرت في المنطقة شعارات مشكَّلة من خليط مما سبق؛
فمثلاً تيار الناصرية يعتمد على الفكر القومي الوطني مع اشتراكية اقتصادية؛ أما
التيار البعثي فهو يشبهه ولكن يتميز عنه ببروز البعد اللاديني؛ لأن قادته
التاريخيين هم في الأساس من غير المسلمين، وقد سيطر على المنطقة حالة صراع
دامٍ وعنيف بين هذين الاتجاهين؛ ولما كان الاتجاه البعثي هو الأقدم وأيضاً هو
الموجود على الساحة بصفته التنظيمية فإنني في هذه العجالة سأقدم للقارئ الكريم
فكرة مبسطة عن التيار البعثي تعينه في فهم الأحداث الحالية.
لقد ظهرت فكرة الحزب في أواسط الثلاثينيات الميلادية، وأُشهِر رسمياً في
أواخر الأربعينيات في سوريا، وشارك في الحكم في كل من سوريا والعراق ابتداءً
من ١٩٥٨م، وانفرد بحكم كل من سوريا والعراق في أواخر الستينيات إلى الوقت
الحاضر:
- في سنة ١٩٣٢م عاد من باريس قادماً إلى دمشق كل من ميشيل عفلق
(نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية) وصلاح البيطار (سني) وذلك بعد دراستهم
العالية محملين بأفكار قومية وثقافة أجنبية.
- أصدر التجمع الذي أنشأه عفلق والبيطار مجلة الطليعة مع الماركسيين سنة
١٩٣٤م، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم: (جماعة الإحياء العربي) .
- في نيسان ١٩٤٧م تم تأسيس الحزب تحت اسم: (حزب البعث العربي) ،
وقد كان من المؤسسين: ميشيل عفلق، صلاح البيطار، جلال السيد، زكي
الأرسوزي، كما قرروا إصدار مجلة باسم البعث.
- كان لهم دور في حكومة شكري القوتلي الذي حكم مرتين ووقع اتفاقية
الوحدة مع مصر سنة ١٩٥٨م.
- أيدوا الوحدة مع مصر، واشتركوا في حكومتها برئاسة جمال عبد الناصر:
١٩٥٨ - ١٩٦١م.
- وقفوا بقوة مع الانفصال عن مصر: وقد دام الانفصال من ٢٨/٩/١٩٦١م
وحتى ٨/٣/١٩٦٣م. وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي.
- منذ ٨/٣/١٩٦٣م وإلى اليوم فقد سيطر البعثيون على الحكم في سوريا عن
طريق عدة حكومات برز فيها الصراع الطائفي بين النصارى والدروز
والإسماعيليين والنصيريين، واستقر الحكم للنصيريين مع واجهات سنية في
كل مرحلة مثل صلاح البيطار وأمين الحافظ (١٩٦٣م - ١٩٦٦م) ونور
الدين الأتاسي (١٩٦٦م - ١٩٧٠م) ومصطفى طلاس وعبد الحليم خدام،
وغيرهم.
- أما عن الجناح العراقي من حزب البعث فقد استولى على السلطة في
العراق بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي:
استيلاء حزب البعث على ناصية الحكم في العراق:
- في الرابع عشر من شهر يوليو عام ١٩٥٨م دخل أحد أولوية الجيش بقيادة
عبد السلام عارف إلى بغداد واستولى على محطة الإذاعة، وأعلن الثورة على
النظام الملكي، وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد
رئيس وزرائه، وأعوانه، وأسقط النظام الملكي؛ وبذلك انتهى عهد الملك فيصل،
ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية. وقامت حكومة يُمَثَّل فيها حزب البعث
فقط بشخص أمينه العام فؤاد الركابي مما يدل على المشاركة البعثية المحدودة.
- وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام ١٩٥٨م أي بعد عشرة أيام
من نشوب الثورة وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد
وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة (سوريا
ومصر) وذلك حتى يمكنهم الوقوف في وجه زعامة عبد الناصر في ذلك الوقت؛
ومن ثم السيطرة على مقاليد الحكم؛ ولكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه
ونادى بعبد الكريم قاسم زعيماً أوحد للعراق.
- وفي اليوم الثامن من شهر فبراير لعام سنة ١٩٦٣م قام حزب البعث
بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب قتالاً شرساً دار في
شوارع بغداد، وبعد نجاح هذا الانقلاب تشكلت أول حكومة بعثية، وسرعان ما
نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث فاغتنم عبد
السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق في ١٨/١١/
١٩٦٣م، وعين عبد السلام عارف أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين
نائباً لرئيس الجمهورية، ثم لم يلبث أن أبعد عن النيابة إلى العمل كسفير في وزارة
الخارجية في سنة (١٣٨٤هـ - ١٩٦٤م) . ثم تعرض للاعتقال والإقامة الجبرية
في منزله، ثم أطلق سراحه بعد ذلك، وبدأ في العودة إلى نشاطه السياسي.
- في شهر فبراير سنة ١٩٦٤م أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين
عضواً في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي.
- وفاة عبد السلام عارف في حادث طائرة سنة (١٣٨٥هـ - ١٩٦٦م)
وتولي أخيه عبد الرحمن عارف الحكم في العراق.
- قام حزب البعث العراقي بالتحالف مع ضباط غير بعثيين بانقلاب ناجح
أسقط نظام عبد الرحمن عارف في (٢٠/٤/١٣٨٨هـ - ١٧/٧/١٩٦٨م) ،
وأعلن أحمد حسن البكر رئيساً.
- وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليو عام ١٩٦٨م طرد حزب البعث كافة من
تعاونوا معه في انقلابه الناجح على عبد الرحمن عارف، وعين أحمد حسن البكر
رئيساً لمجلس قيادة الثورة ورئيساً للجمهورية وقائداً عاماً للجيش، وأصبح صدام
حسين نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسؤولاً عن الأمن الداخلي.
- وفي ٨ يوليو سنة ١٩٧٣م جرى إعدام ناظم كزار رئيس الحكومة وجهاز
الأمن الداخلي وخمسة وثلاثين شخصاً من أنصاره؛ وذلك في أعقاب إخفاق
الانقلاب الذي حاولوا القيام به بالتنسيق مع البعث السوري.
- وفي شهر يونيو عام ١٩٧٩م أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية العراقية
بعد إعفاء البكر من جميع مناصبه وفرض الإقامة الجبرية عليه في منزله.
- في يوليو سنة ١٩٧٩م قام صدام حسين بحملة إعدامات واسعة طالت ثلث
أعضاء مجلس قيادة الثورة، ولم يبق على قد الحياة من الذين شاركوا في انقلاب
عام ١٩٦٨م سوى عزت إبراهيم الدوري، وطه ياسين رمضان، وطارق حنا
عزيز.
وعند استعراض تاريخ البعث نتوقف عند بعض القضايا الأساسية في نظري
وهي:
١ - أن الحزب وُجِدَ في فترة صراع سياسي أثناء فترة الحرب الباردة بين
المعسكرين الغربي والشرقي.
٢ - كانت الأنظمة الدستورية الموالية للغرب ضحية لهذا الصراع.
٣ - يلاحظ أن البديل كان أنظمة عسكرية سواء كانت ذات خلفية حزبية مثل
البعث، أو ليس لها خلفية حزبية مثل نظام حسني الزعيم وجمال عبد الناصر الذي
حاول تشكيل إطار تنظيمي لنظامه (الاتحاد الاشتراكي) .
٤ - كانت سياسة الحزب تقوم على أساس التحالف مع الأقوياء والتقوي بهم
ثم الانقلاب عليهم؛ وعلى هذا يُفهَم تحالفهم مع عبد الناصر وعبد الكريم قاسم وعبد
السلام عارف.
٥ - أن الشعارات الاشتراكية للأنظمة الجديدة لم يمنعها من استبعاد
الشيوعيين عن المشاركة في الحكم بل وتصفية الأحزاب الشيوعية أو تطويعها،
وأيضاً لم يمنعها من علاقات وثيقة مع الغرب في الجانب السياسي.
٦ - هناك شكوك كبيرة حول الدور الأمريكي في الانقلابات العسكرية الأولى
في مصر وسوريا.
٧ - دخول أمريكا بوضوح في دوامة الانقلابات المتتالية التي دمرت الجيوش
العربية، وأفرزت أنظمة متسلطة.
٨ - اتهام أمريكا أن لها دوراً في مساعدة البعثيين في الإطاحة بعبد الكريم
قاسم الذي اضطر للاعتماد على الشيوعيين في صراعه من أجل البقاء في الحكم بعد
رفضه العرض البعثي للانضمام للاتحاد السوري المصري. فقد قال الملك حسين:
(إنني أعلم بكل تأكيد بأن ما حدث في العراق يوم ٨/٢/١٩٦٣م كان بدعم
المخابرات الأمريكية A.I.C لقد عقدت عدة لقاءات بين حزب البعث والمخابرات
الأمريكية، ومنها اجتماعات عقدت في الكويت) ، وكان علي صالح السعدي أحد
رموز الانقلاب يصرح أمام الصحافة اللبنانية بعد اختلافه مع الرفاق: (لقد جئنا
إلى السلطة بقطار أمريكي) .
وكشفت وثائق وزارة الخارجية البريطانية عن التوجه الغربي لدعم انقلاب
بعث العراق؛ ففي برقية سرية مرسلة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن
مؤرخة في ٢٨/١/١٩٦٣م، أي قبل عشرة أيام من الانقلاب، أن روي ملبورن
القائم بأعمال الولايات المتحدة قال للسفير البريطاني: (إن وزارة الخارجية
[الأمريكية] تفكر أنه حان الوقت لترد على تهجم قاسم المستمر.. وأن الوقت قد
حان للبدء في بناء رصيد مع معارضي قاسم، من أجل اليوم الذي سيحدث فيه
تغيير في الحكومة في بغداد) .
وتكشف برقية من السفارة البريطانية في واشنطن إلى وزارة الخارجية يوم
٨ /٢/١٩٦٣م أن مدير قسم الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأمريكية السيد
سترونغ قال: (إن إنقلاب ٨ شباط لو أنتج نظاماً ذا طبيعة بعثية فإن سياساته
سوف تكون مقبولة على الأرجح من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية) .
إن استعراض بعض الأحداث يؤكد على أن حزب البعث لم يكن يوماً ما ضد
المصالح العليا للغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فمثلاً لم يشارك العراق
في حظر النفط أثناء حرب رمضان ١٣٩٣هـ، وبروز التحالف الغربي مع العراق
في أثناء الحرب العراقية الإيرانية، واعتبار أمريكا للعراق السد المنيع ضد المد
الشيعي في المنطقة؛ وكان ذلك سبباً في حصول العراق على قدرات تسليحية
وتقنية لم يكن مسموحاً بها في الظروف العادية وكان تسليم بعض هذه الأسلحة يتم
بإشراف رسمي.
ومن الغريب أن الذين يحكمون في أمريكا الآن مثل رامسفيلد هم الذين يمثلون
قناة الاتصال الشخصي مع الرئيس صدام حسين، وقد كشف عن زيارات لرامسفيلد
لبغداد تتزامن مع استخدام الأسلحة الكيميائية ضد الأكراد والإيرانيين.
إن التركيز الأمريكي على شخص صدام وتجاهل الحزب الحاكم الذي يمثل
ذراع البطش الطويلة داخلياً وتركيزه على إضعاف الجيش العراقي وشله ومحاولة
تفريغ العراق من الطاقات العلمية بتصفية أو شراء العلماء كما حدث للعلماء الألمان
بعد الحرب العالمية الثانية يؤكد أن الهدف هو البلد بثروته وطاقاته المتميزة علمياً،
أما الطاقات الأمنية والحزبية الفاعلة في ترويض الشعب فسيتم الاستفادة منها في
مستقبل الأيام إذا تمكنت أمريكا من إزاحة رأس النظام وإقامة نظام موالٍ مجرد من
أسباب القوة والبقاء الذاتي.
إن حزب البعث بصورته الحالية يعتبر من بقايا أدوات الصراع أيام الحرب
الباردة؛ وحيث الحاجة إليه قد قلَّت أو انتهت فيجب أن يتأقلم مع الأوضاع الجديدة
ويحاول تلمس أسباب البقاء.
وإذا كان القذافي يحاول التشبث بقشة قدرته على محاربة المتطرفين والبعث
السوري قنع أخيراً بوظيفة المبعوث الرسمي للغرب لدى إيران؛ فما هي المهمة
اللائقة ببعث العراق الذي يبدو حائراْ بين جحود الأصدقاء القدامى (الأمريكان)
وبين عدم ثقة الإسلاميين باللافتات الإسلامية التي يحاول استغلالها في تغيير العَلَم
العراقي والسماح للمظاهر الإسلامية بالظهور بعد طول غياب، بل وتشجيع تعليم
القرآن وبعض العلوم الشرعية وفرضها على أعضاء الحزب؛ فهل هي توبة
متأخرة أم هي اكتشاف حقيقة أن القوة الوحيدة القادرة على حماية الأمة هي العقيدة
المنبثقة من ذاتها، وأن كل من يحارب الأمة في عقيدتها وشعائرها وأخلاقها سيدفع
ثمن ذلك ولو بعد حين؟
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود بالرياض.