للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأطفال والتلفاز: صغارٌ بإدراك محدود ... وشاشة تجمع كل المتناقضات

عبير العقاد

ينتابني قلقٌ كلما أبصرت طفلاً مجرداً يطرق باب المجهول، يحاول أن يشُدّ الخطى في عالم يرتابه الغموض، يحثّ السير في طرقه ممتلئاً بوقود الفضول، لا يفرق بين ممنوع أو لا ممنوع، ولايحذر خطره أو يشده المسموح.

يؤرقني منظر صغير يفترش أرضاً، متسمّراً أمام شاشة تلفاز تستغل إدراكه المحدود، فتخترق به بوابة الحياة، وتأخذه بعيداً بعيداً في العوالم والآفاق كلها، لا تفرق بين ما ناسب طفولته البريئة وبين ما يشوه صفحته البيضاء، تنشيه بِأَلَق الألوان وبراعة الصور وصخب الأصوات، تسامره كلما أراد، ولا تجد أعذاراً البتة تمنعها من مجالسته كلما امتنع الآخرون.

لا يزعجني التلفاز بصندوقه الصغير الذي يعرف الأمور كلها، ولابتفاصيله الدقيقة التي تحشر الأنف في كل ذرات الحياة؛ لكنه يزعجني عندما يفتح الباب واسعاً أمام أطفال أو حتى كبار لايعرفون التحكم بمقود التفكير، ولا التوقف أمام الخطير، ولايؤازرهم في مشاهدته مرشدٌ أو ناصح ٌحكيم، فتراهم يتشربون كل ما يرون دون مصفاةٍ تمنع عنهم حصى الأضرار واللامحمود.

فالتلفاز مثله مثل كل مافي الحياة ... سلاحٌ بحدّين، هالكٌ ومنجٍ، قاتلٌ ومحيٍ، فكيف نجنب أطفالنا دماره؟ وأنّى نجنيهم ثماره؟ أسئلة لا بدّ أن نبحث لها عن إجابات، في عالمٍ قلّما يخلو فيه بيتٌ ـ مهما كان صغيراً ـ من صندوق تلفازيّ يتسع العالم كله، ويجتذب إليه الجميع!

ولا نستطيع إلا أن نعترف بأن التلفاز حاز بجدارة على مرتبة الامتياز، منافساً بذلك وسائل الإعلام الأخرى كلها التي تحدَّاها دون بذل جهد كثير، رابحاً بذلك رهان فوزه، داخلاً كل بيت من البيوتات العربية والأجنبية، متصدراً غرف معيشتها، لامّاً من حوله أفراد أسرها، جاذباً انتباه أهلها؛ ليكون الحبيب المنشود في الحضر، والمعشوق المشتاق إليه، والمتكلّم عنه، وعن أخباره وسِيَرِه في السّفر.

حتى الأطفال استطابوا حلاوته ـ وإن كانت هذه الفئة العمرية لاتستطيع التمييز كثيراً بين الحلو والدميم ـ فكان أن أدمن كثيرون؛ ممن لم يتوفر لديهم أهالٍ بإدراك عالٍ، وتوجيه تربوي رفيع المستوى؛ مشاهدته، عاشقين خِدرَه اللذيذ الذي ينأى بهم عن عالم المتاعب، ويأخذهم إلى عالم الأحلام، عالم (سوبرمان) و (غريندايزر) والرجل الوطواط.

ومن الأمور التي يعشق الأطفال بسببها إدمان مشاهدة التلفاز، يمكننا أن نذكر:

١ ـ حلاوة الاستعراضات وتألقها، وإبداعها المرئي والسمعي بكل ما تحمله من صور فتّانة، وأصوات عذبة، وإيقاع سريع تؤثر في طفل لا يجد صدراً بشرياً ـ أمه أو أبيه أو حتى الأصدقاء ـ يتسع وقته له؛ فالأب الغائب في العمل، والأم المشغولة بأمورها والمنزل؛ كلُّها أمورٌ تثير ملل الصغير، الذي ينسى شكواه أمام صندوقه التلفازيّ السحري بألق استعراضاته المبدعة.

٢ ـ قدرة التلفاز على حمل الصغير على بساطٍ سحري، وأخذه بعيداً بعيداً عن عالم الممنوعات التي يعيشها إلى عوالم الأحلام المذهلة التي لا تتأتّى له إلا عبر شاشة التلفاز. فها هو يعيش في حياته الواقعية ضمن قيود تكبِّله بكثير من الممنوعات، كلمس بعض الأشياء، وإتيان بعض الأمور، ونهج بعض أنواع السلوك ... إلخ. أما من خلال التلفاز فالعالم رحبٌ واسع؛ لأنه عالم تتحقق فيه الأحلام كلها دون زجرٍ أو منع.

٣ ـ منح التلفازُ الطفل فرصةً للتخلص من قيد قدراته الجسمية والفكرية والمعنوية والمادية المحدودة، التي طالما حلم بتخطيها لتحقيق ذاته، فها هو ما إن يرى الأبطال التلفازيين والنجوم، في حالاتِ تَفَوُّقِهم الجسدي والفكري والمعنوي والمادي، حتى ينتقل بروحه وجسده الضعيفين إلى عالَمِهم ليشاركهم انتصاراتهم وكأنه واحد منهم، قادراً على تخطي كل الصعوبات التي تحيط به، وتعيق انطلاقه في عالمه الصغير.

٤ ـ فضول الأطفال وتعطّشهم للمعلومات والمعرفة أيّاً كان نوعها أو شكلها؛ فكيف إن كانت المعلومة مقدمة على طبق فني شهي مبهر؟! فيه من الألوان والأصوات والحركة ما يذهل كيان الطفل ويثري خياله؛ ليتباهى بما تعلمه أمام أبناء جيله، غير واع ٍ صِدقَ أو كذبَ المعلومة التي تُقدم إليه على طبقٍ من ذهب، إذ ليس كل ما ينقل عبر الشاشة هو حقيقة أو واقع.

وليست الحقائق كلها التي تتعلق بمشاهدة الأطفال للتلفاز غايةً في السوء، ولا هي ـ أيضاً ـ مثالٌ للإيجابية المطلقة، إنما الأمر كما أسلفنا: سلاح ذو حدين، به نقتل وبه نحمي أنفسنا، وبواسطته ندمر أو نبني أمجادنا.

فها هو التلفاز ـ إن شوهد حسب المعايير المسموح بها ـ يعمل على تنمية الجوانب الأخلاقية والاجتماعية، وروح التعاون والعمل الجماعي عند الأطفال، كما يبثّ الروح الإنسانية من خلال بعض المسلسلات ذات الطابع الإنساني، ويمنح الطفل الثقة بنفسه وقدراته، كل ذلك عن طريق المواد التلفازيّة الطفولية الهادفة والمدروسة بعناية، كما يسهم التلفاز في صنع لغة اجتماعية مشتركة بين أطفال البيئة الواحدة الذين يتلقّون البثّ والبرامج نفسها، إذ ينمي بينهم الحوارات الاجتماعية التي تدور حول ما شاهدوه على شاشة التلفاز، مذيباً بذلك الكثير من الفوارق الاجتماعية التي كانت قبل عائقاً فيما بينهم.

ناهيك عن دور التلفاز في توجيه الأطفال إلى سلوكيات ومنهجيات اجتماعية إيجابية، وإبعادهم عن السلوكيات السلبية.

كما بإمكان التلفاز مدّ الجسور الاجتماعية بين عالمي الأطفال والكبار؛ عن طريق تعويد الصغار على قواعد سلوكية تنظم العلاقات الاجتماعية بين العالَمَيْن: كتعليم الطاعة والاحترام والحوار والمجالسة، كل ذلك ضمن الحدود المقبولة.

زد على ذلك دور التلفاز في تعميق انتماء الأطفال الاجتماعي إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، وإشعارهم بالأمان، من خلال تقديم الأفكار المألوفة التي تعرض في الكثير من البرامج المدروسة بعلمية متقنة.

كما يساعد التلفاز في تكوين اللغة عند الطفل ونموها تدريجياً، حيث يرتبط النمو اللغوي باستماع الطفل إلى كلام الآخرين في المرحلة الأولية من تعلمه اللغة، ويظهر أثر التلفاز في النمو اللغوي لدى الأطفال في العمر بين ثلاث وأربع سنوات، حيث أثبتت الدراسات أن الطفل في هذا السن يستوعب ٢٠% من مسار الأحداث الواردة في البرامج.

إلا أنّ الأمر ليس سواء أمام كل ما يعرض على شاشة التلفاز، إذ أن هناك من البرامج غير المخصصة للأطفال، أو تلك المخصصة لهم دون فائق دراسة وعناية بمحتواها، تلك البرامج تؤثر في تأخر تعلم اللغة عند الأطفال، وكذلك تؤخر نموها في المرحلة الأولى من حياتهم، خصوصاً في البرامج التي يتعدد فيها الأشخاص المتحاورون في المشاهد، والذين يدور الحوار بينهم بسرعة نسبية تفوق قدرة الصغير على استيعابها.

كما أن اللغة التي تحتاج لتثبيتها ونموها محادثات حوارية بين الأشخاص؛ لا يتأتى للأطفال الاستفادة منها أمام التلفاز؛ حيث لا حوار بينهم وبين تلك الشخصيات في صندوقهم السحري، وتتضافر هذه الأمور مع أخرى فيزيولوجية لتؤثر سلباً في انطلاق النطق السليم والمبكر عند الأطفال.

وللحيلولة دون هذا الأمر، على الأهل والمربين ترك أطفالهم يتكلمون أمام الشاشة بدلاً من الطلب منهم الصمت والإصغاء أمامها، على العكس، يجب أن يتكلم الطفل وأن يشرح شفوياً تصرفات الأشخاص، ومجرى الأحداث التي تدور أمام ناظريه، أو أن يقوم الكبار بهذا الدور؛ بالإضافة إلى توقع الأحداث اللاحقة، وتسمية الأشياء المشاهدة على الشاشة بمسمياتها.

أما من ناحية النمو المعرفي عند الطفل، فللتلفاز أثر إيجابي في ذلك خصوصاً عند الأطفال في سن ٣ ـ ٤ سنوات، وذلك إن شاركت الأم أو المربي أطفالهم في مشاهدة البرامج المدروسة بعناية مع مناقشتهم حول معلوماتها، وخصوصاً أن التلفاز يقدم للأطفال معلومات عن أمور لم يروها، ويُعرِّفُهم بأماكن لم يسبق أن زاروها. كما يقدم إليهم معلومات كانوا سابقاً يجهلونها. ويعمل التلفاز على تقديم نوع جديد من المطالعة؛ ألا وهو المطالعة الخيالية المرئية، وذلك في سن مبكرة تسبق سن تعلم القراءة والكتابة، فالتلفاز ـ ببرامجه الإيجابية المقننة ـ يقدم مادة مشوقة مفيدة يمكن قراءتها دون قراءة، وهضمها بصورة أكبر؛ خصوصاً أنها لا تتطلب مجهوداً كبيراً كالذي تتطلبه كتب المطالعة لتوضيح النصوص وفكّ الخط، إذ أن الطريق إلى النص في التلفاز مباشر، والصورة فيه تتحدث عن نفسها.

كما يشجع التلفاز على القراءة من أجل التعمق في فهم الأحداث والبرامج التي تعرض على الشاشة الصغيرة؛ إلاّ أنّ مشاهدة التلفاز إن تجاوزت المعايير يمكن أن تقلب الأمر رأساً على عقب؛ وذلك بسبب استسهال الأطفال استقاء المعلومات من التلفاز، وقضائهم وقتاً طويلاً جداً أمام شاشته، مما يعمل على: إدمان التلفاز ـ وهذا هو الأمر الخطير ـ، والحدّ من المطالعة حاضراً ومستقبلاً، وكذلك الحدّ من الاستفادة من الوسائل المعرفية الأخرى: كالنشاطات الثقافية، والقراءة، واللعب المثمر، وارتياد المكتبات ... إلخ.

ومن ثمار مشاهدة الأطفال البرامج التلفازية الإيجابية يمكن أن نذكر أيضاً: تنمية خيال الطفل وتغذية قدراته؛ بما شاهده من مشاهد إيجابية تزرع فيه بذور إبداع وتُهيؤه له قريباً، وتعلمه أساليب مبتكرة ومتعددة في التفكير والأسلوب.

ولقد ظهر في السنوات العشر الماضية مصطلح جديد في صناعة التلفزة الغربية؛ ألا وهو (التربية الترفيهية) تلك التي تُعرَّف بأنها: الدمج الناجح للتربية في بيئة التلفاز الترفيهية؛ حيث يتفاعل التلفاز والمربون لتقديم نموذج تعليمي تفاعلي بين الطفل والتلفاز، من خلال بث ترفيهي تعليمي يوفر أساليب فردية ممتعة ومتطورة، بل ومبتكرة تكمل طرق التعليم التقليدية؛ مما يثري حياة الأطفال ويقدم لهم برامج تُخاطِبُ عقولهم، وتستمطر أفكارهم، وتؤهلهم لتبادل الأفكار ووجهات النظر مع من يكبرونهم سنّاً.

وكما للتلفاز آثار إيجابية على أبنائنا، فهو ذو آثار سلبية كثيرة عليهم أيضاً، بل هناك من المختصين من رأى أن سلبياته تفوق إيجابياته بكثير ـ نكرر: إن لم تُتوّج مشاهدة الأطفال للتلفاز بالمعايير الإيجابية -.

إذ أثبتت الكثير من الدراسات أن الأطفال يكررون السلوك الذي يشاهدونه في التلفاز؛ فهم بطبيعتهم ينتهجون التقليد في حياتهم وتعلمهم، وإنهم بمشاهدتهم برامج العنف يترسخ عندهم السلوك العدواني العنيف، إلاّ أنّ الأمر لا يظهر دائماً بوضوح كبير، إذ أنَّ هناك ظاهرة تَعَرَّف عليها كل من: (كاجان) و (موسن) في الستينات من القرن الفائت؛ ألا وهي ظاهرة (التأثير النائم) والتي بموجبها يتأثر الطفل بمشاهداته التي عاشها مع التلفاز؛ ولكن نتائج هذا التأثر قد لا تظهر عاجلاً ومباشرة، بل تظل نائمة فترة طويلة، منتظرة عوامل خارجية عند الطفل كي توقظها من رقادها وسباتها العميق، لتظهر على السطح فيما بعد في مرحلة البلوغ أو المراهقة أو في الكبر. أي أنها أحياناً لا تظهر إلا بعد تأثير المؤثرات بسنوات عديدة.

لذا لا نتوقع أن نلمس السلوك العدواني في الأطفال مباشرة بعد تعرضهم لمشاهد عنف تلفازية، وإن ظهر العنف مباشرة فليس ذلك بسبب المشاهدات الحية فحسب؛ وإنما أيضاً هناك عوامل خارجية تتعلق بالطفل، اجتمعت مع مشاهد العنف فولَّدت عنده السلوك العدواني، وقد تولِّد أيضاً الانحراف والعدوان. ومن تلك العوامل التي تتضافر مع مشاهد العنف المعروضة على التلفاز فتؤثر في الطفل سلبياً، نذكر: الفقر الحادّ، معدل الذكاء المنخفض للطفل، الوضع العائلي أو النفسي أو الجسدي غير الطبيعي للطفل، طبع الطفل الهجومي الشرس، وكذلك استحسان الأهل لبرامج العنف وإدمان مشاهدتها، كل ذلك مع المشاهدات التلفازيّة العنيفة يودي بأطفالنا إلى عنفٍ سلوكيِّ عمليِّ آنيِّ، أو مستقبليِّ ممكن.

كذلك هناك عامل هام آخر يمكن أن يؤثر في اكتساب الأطفال السلوكيات العنيفة واللامحمودة في حياتهم؛ ألا وهو عامل التكرار. فتكرار حدوث المثيرات لفترة طويلة ولمرات عديدة هو الذي يُحدِثُ التأثير السلبي (أو الإيجابي إن كان المثير إيجابياً) في الطفل، فيظهر في سلوكه.

ناهيك عن أن كثافة العنف المشاهد على التلفاز يمكن أن تؤدي إلى طمس الإحساس الإنساني بآلام الآخرين، أو على الأقل إضعافه.

وينسحب تأثير مشاهدة الأطفال لمشاهد العنف على مشاهدتهم الأمور السلبية الأخرى على شاشة التلفاز، مثل: مشاهد الجنس، وإدمان المخدرات، وشرب الخمور، والتدخين ... إلخ.

كما يُعد التلفاز من الوسائل التي تهدر وقت الأطفال إن تجاوزت المشاهدة الحدود المسموح بها، إذ ينصح الأطباء على: ألاَّ يزيد وقت المشاهدة على ساعة ونصف يومياً في أمريكا، فكيف إن تجاوز الأربع ساعات يومياً في حياة أطفالنا؟! إنّ هذا الأمر يؤثر سلباً على الأمور الأخرى التي بإمكان الطفل التمتع بها لو تجنب إدمان التلفاز لأوقات طويلة، مثل: المطالعة والرياضة، واللعب، والمشاركات الاجتماعية ... إلخ، تلك الأمور التي من شأنها تعزيز النمو السويّ لمخ الأطفال وبزوغ المواهب، وعلى رأسها التفاعل الاجتماعي مع الآباء والإخوة والأقران.

ولقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يمكثون أمام التلفاز لفترات طويلة أكثر عرضة لزيادة الوزن؛ بسبب قلة الحركة، وتناول المكسرات والوجبات الخفيفة والمشروبات، دون اكتراث أثناء مشاهدته.

كذلك، فإن الاستثارة الزائدة للمخ الصغير في الكثير من برامج التلفاز سريعةِ الإيقاع والصاخبة ترهق خلايا المخ، وتعيق نمو الطفل السويّ؛ بل وتعيق استفادة المخ من المؤثرات ذات الإيقاع العادي في باقي نشاطات الحياة؛ حيث يكون المخ قد اعتاد الإيقاع السريع والصاخب، فلا تحظى المؤثرات عادية الإيقاع بمستوى التركيز والاهتمام ذاته عند الطفل، خصوصاً عند مشاهدة برامج العنف، أو المشاهدات الليلية الأخرى التي تسبق النوم مباشرة، ويكون تأثير التلفاز أكبر في أطفال ما قبل المدرسة الابتدائية، حيث توصل العلماء إلى: أن الطفل في سن الثالثة يكون عاجزاً عن التمييز الدقيق بين الشخص والموقف الذي يوجد فيه، حيث لايزال الأنا غير ناضج. لذا فكثيراً ما يُعمِّمُ الطفل تجاربه على الآخرين، فيكون عنده خلط بين المشاهد التلفازيّة والواقع، وبذلك نجد أنّه كلما كان سن الفرد صغيراً كلما صعب عليه ـ لقلة خبرته ـ الفصل بين واقعه والخيال الذي يشاهده على شاشة التلفاز، ممّا يجعل الأشياء الخيالية التي يعرضها التلفاز أمام الأطفال صغيريّ السن عالماً حقيقياً وواقعياً بالنسبة لهم، فيصبح ما يشاهده جزءاً من حياته الخاصة. لذا فالقصة المخيفة والفيلم المرعب قبل النوم يؤدي به إلى كوابيس وتوترات ليليّة تؤرق نومه، وتؤثر على صحته. وممّا لا شك فيه أن تكرار واستمرارية هذه التوترات أمام الطفل يؤدي إلى أن تصبح من مكوناته السيكولوجية في الطفولة، وبالتالي جزءاً من سلوكه وشخصيته في الكبر، ناهيك عن أن الإفراط في مشاهدة التلفاز يؤدي إلى قصر زمن الانتباه لدى الأطفال، ويقلل من قدرتهم على التعليم الذاتي. وفي هذا السياق، يقول باحثون أمريكيون: إن كل ساعة يشاهد فيها الأطفال ـ قبل سن المدرسة ـ التلفاز يومياً تُعَرِّضُهم لاحتمال الإصابة بقصور في الانتباه مستقبلاً بنسبة ١٠%، كما يمكن أن تساهم أشعة التلفاز بالإضرار بصحة العينين، وتعويد الكسل والخمول، وتعويد الطفل ـ أيضاً ـ التلقي دون المشاركة، أي التعليم السلبي الذي يأتي للطفل بكل شيء جاهزٍ، دون أن يدع الفرصة له بأن يشارك ويحاور، أو يقدم الأفكار ... إلخ، وبذلك يمكن لبعض البرامج ـ في حال إدمان التلفاز وعدم مشاهدته وفقاً للمعايير المنصوح بها علمياً ـ أن تعيق النمو المعرفي الطبيعي، وذلك؛ لأنّ العلم لا يتأتّى إلاّ بالمشاركة والبحث والطلب والحوار.

كما أن للتلفاز دوراً في إضعاف روح المودة والتقارب بين أفراد الأسرة، حينما ينشغلون عن طقوسهم الاجتماعية بمتابعة التلفاز، هذا وإن إهمال الأطفال وحثهم على مشاهدة التلفاز كلما ضاق ذرع الأهل بهم يجعل من التلفاز مربياً ثالثاً بعد الأب والأم، لكنه مربٍٍ مجهول غامض، لا نضمن حُسْنَ تربيته، ولا صدق معلوماته، ولانواياه الصالحة، فهاهي الدراسات تثبت أن التلفاز يتمتع بقدرة فائقة على انحراف الأطفال والناشئة عن ممارسة بعض أنواع السلوك التي تعتبر عناصر أساسية في عملية التنشئة والتطبع الاجتماعي، كما يلعب التلفاز دوراً مهماً في زيادة حدة صراع القيم بين عالمهم ومجتمعهم، والمجتمعات الأخرى؛ وذلك بسبب القيم والمعتقدات والسلوكيات الخاصة بمجتمعات بعيدة عنّا اجتماعياً تعرض على شاشاتنا باستمرار، خصوصاً في زمن العولمة التلفازيّة وعصر الفضائيات، ويرى الأستاذ سعد لبيب في مقال حول (الدور التثقيفي للإذاعة والتلفاز) : أن التلفاز والمداومة على مشاهدته من شأنها أن تؤثر سلبياً على ثقافة المشاهدين وسلوكهم، وأن تسلبهم القدرة على التفكير الصحيح، فإدراكهم للعالم يكون من خلال ما تعرضه الشاشة الصغيرة، فهي التي تفكر لهم، وهي التي تختار لهم الموضوعات التي تحظى باهتمامهم، وهذا الذي يعرضه التلفاز في كل أقطار الدنيا ليس منزهاً عن الغرض دائماً، فالبرامج تصاغ وفقاً لرؤية أصحاب السلطة، أو أصحاب المال الذين يتولون شؤون إنتاج هذه البرامج.

هذا، وتؤثر الإعلانات التي تعرض على شاشة التلفاز كثيراً على أطفالنا، فالإيجاز في الإعلان يتلاءم مع مَلَكَةِ انتباه الأطفال التي لاتتحمس، ولا تهتم بالتفاصيل والتوسعات المطولة، كما أنّ التكرار الذي يحدث في اللقطات الإعلانية ويتردد كل يوم، ينقلب بسرعة إلى لعبة مسليّة بالنسبة للمشاهد الصغير.

وقد أصبح واضحاً أثر الإعلانات التجارية الجذابة والملحة، التي يقدمها التلفاز على مدار الساعة، على سلوك الطفل الغذائي والشرائي، إذ يعمل الطفل على ترويج غايات الإعلان في أشكال متنوعة، إما بانتظاره بلهفة، أو بطلبه، أو ببكائه الملحّ عند تخطي الإعلان، أو عند إقفال جهاز التلفاز في موعد بثّه.

كما يعمل الطفل على إلزام الآخرين بتنفيذ غايات الإعلان؛ إذ يستغل عاطفة محبيه ليحصل على ما يسعده ويرضيه من أمور شاهدها خلال الإعلانات.

كل هذه الأمور يترتب عليها من النتائج السلبية على الأطفال ما يفوق تصورنا. ولمقاومة الخطر، ولأننا لا نستطيع غالباً تجنب وجود التلفاز في بيوتنا، ولأن للتلفاز بعض المزايا الإيجابية الجديرة بالاعتبار، بسبب ذلك كله؛ وضع المختصون مجموعة من النصائح والمعايير التي من شأن التَقيُّدِ بها لجمُ ضرر التلفاز ما أمكن، وفتح باب محاسنه، ومن هذه المعايير، نذكر:

١ ـ احترام رأي الطفل الذي يرغب بمشاهدة التلفاز؛ لكن بتحديد وقت المشاهدة، وعدم تركه ساعات طويلة أمام التلفاز. كل ذلك عن طريق الحوار والنقاش والابتعاد عن الإجبار والإكراه، مع العلم بأنّ هناك العديد من الدراسات العلمية الحديثة التي توصلت إلى الحد الأقصى المسموح به للأطفال لمشاهدة التلفاز حسب أعمارهم، وذلك كالتالي:

من سنتين إلى ٤ سنوات، ٢٠ دقيقة.

من سن ٣ إلى ٥ سنوات، ٣٠ دقيقة.

من سن ١٠ إلى ١٣ سنة، ٦٠ دقيقة.

وإنّ تجاوز هذه الفترات يمكن أن تتسبب في زعزعة توازن مشاعر الطفل، وانخفاض مستواه العلمي ... إلخ.

٢ ـ عدم استخدام التلفاز كأسلوب عقاب أو مكافأة؛ لأن هذا الأمر يجعل من التلفاز شيئاً بالغ الأهمية في نظر الطفل، ممها يزيد اهتمامه به، ويعطيه أكثر مما يستحقه.

٣ ـ يجب عدم التعامل مع التلفاز على أنه جليس أطفال؛ بل على الأهل مشاركة أطفالهم مشاهدة البرامج المخصصة لهم، ومناقشتهم حولها، ومساعدة الأطفال على تجاوز الجوانب الضارة للبرامج دون ترك بصمات سلبية في العقل أو الوجدان. ويجب أن يختار الأهل البرامج التي يشاهدها أطفالهم بالتوافق معهم، مع محاولة توجيههم للبرامج التعليمية وتجنب البرامج المحتوية على مضامين غير مناسبة: كالعنف، والجنس، والقيم، والعادات التي تتنافى مع قيمنا.

وعلينا عندما نشاهد برامج تلفازيّة مع أطفالنا مساعدتهم على التفاعل الحسي مع ما شاهدوه، وإيضاح العلاقة بين ما يقدمه التلفاز وحياتنا اليومية.

وإن كان لا بد من ترك الطفل بمفرده أمام التلفاز، فيمكن أن يكون ذلك بعد التأكد من أن البرنامج الذي يشاهده يساعده، وينمي مهاراته ولايؤذيه.

٤ ـ تجنب جميع أفراد الأسرة تناول الطعام أو الوجبات الخفيفة أمام التلفاز، إلا ما حدّد منها بمقادير وكميات لا ُيسمح تجاوزها.

٥ ـ تشجيع الأطفال على القيام بنشاطات متنوعة؛ لتنمية قدراتهم العقلية والوجدانية كبديل لمشاهدة التلفاز.

٦ ـ تعليم الأطفال أنّ الهدف من الإعلانات التجارية هو الترويج لبضائع قد لا تكون جيدة، وأن ليس كل مانراه على الشاشة علينا أن نقتنيه، فليس كل ما يلمع ذهباً.

٧ ـ عدم السماح للأطفال أن يقتنوا جهاز تلفاز خاص بهم في غرفهم، فمن شأن هذا أن يطلق العنان لهم في استخدامه ومشاهدته كلما أرادوا دون رقيب.

٨ ـ أثبتت الدراسات أن التلفاز لا يفيد الطفل الذي يقل عمره عن سنتين، وأنه من المفضل أن يقضي الطفل في ذلك العمر وقته في تنمية المهارات اللغوية والتفاعل الإيجابي مع المجتمع الذي يعيش فيه. لذلك توصي (الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) بعدم تشجيع تلك الفئة العمرية من الأطفال على مشاهدة برامج التلفاز، حتى ولو كانت رسوماً متحركة. بل وذهبت بعض الدراسات إلى منع هؤلاء الأطفال منعاً باتاً من مشاهدة التلفاز؛ لما يسببه في استثارة انتباههم لفترة طويلة، مما يؤثر سلبياً على تركيزهم وصحتهم الدماغية مستقبلاً.

وبعد، علينا أنْ نعلم أنْنا ـ الأهل والمربين ـ القدوة لأطفالنا في مشاهدة التلفاز، فما يثير اهتمامنا يثير اهتمامهم، وتعلقنا الكبير بالتلفاز يخلق التعلق نفسه عندهم.

ويجب أنْ نعي قبل أي شيء: أن الحب، والعاطفة، والتربية السليمة من قبل الوالدين وأفراد الأسرة هي الكفيلة بحفظ توازن شخصية الطفل لمنعه من الانحراف، ومن الإصابة بالأمراض الاجتماعية، وتجنيبه أخطار التلفاز؛ بل وأخطار الحياة كافة.

فلنخلق من بيوتنا واحاتٍ تربوية وتعليمية واجتماعية صالحة لنمو الخير في نفوس أطفالنا، ولنكن لهم المثل الصالح والمنهل الصافي في كل ما يتعلمونه في حياتهم، قاصدين من ذلك تربية نشء سليم من النواحي كلها نعوّل عليه في بناء المجتمعات الصالحة.